هاشم خليل عبدالغني – الأردن
تمتلك الشاعرة التونسية ” سونيا عبداللطيف ” قدرة خاصة أكثر سحرا وإبهارا في التعامل مع أعماق النفس البشرية ، فقصائدها تتسم بوضوح الفكرة، وقوة التعبير ، كما تؤمن بأن الشعر يحب أن يعالج القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية ، وعالجت في قصائدها الهم الوطني والقومي والوجداني.
سونيا عبداللطيف تكتب المقالات الأدبية إلى جانب الشعر في صحف تونسية وعربية، تعمل معلمة للغة العربية للمرحلة الابتدائية .
في الشعر صدرت لها مجموعتان شعريتان ” امرأة استثنائية ” و” بجناح واحد أطير ” وقصائد منشورة في الصحف المحلية والعربية ، كذلك لديها مشاركات في جمعية ابن عرفة الثقافية وهي عضو في اتحاد الكتاب التونسي ، ورئيسة مجالس همس الموج الأدبية ، كما أنها تنظم فعاليات ثقافية في العاصمة تونس وفي مدينتها قليبية .
تعالج الشاعرة سونيا عبداللطيف في قصيدتها ” زهور العشية” ظاهرة التطبيل والتزمير المنتشرة في ساحتنا الأدبية ، وقبل الولوج لجسد القصيدة وتحليلها ، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة اتخذت مسارين .. مسار التطبيل والتزمير للحكام المسؤولين ،فقد جسد بعض الكتاب والمحيطين بهم ، كل صور التملق والنفاق في كيل أطنان من المديح وجعل أفعالهم وأقوالهم ترقى إلى مصاف المفاخر والأمجاد ، إما خوفا من الحكام أو تقربناً منهم لنيل عطاياهم ، عوضاً عن مناصحة ولاة الأمور و الإخلاصُ في النصيحةِ وتعميق محـبه الـوطن وتعزيز الـولاء والانتماء إليه ..
أما المسار الثاني ..ظاهرة “ التّطبيل والتّزمير” التي امتدت لساحتنا الثقافية .. التي يقوم به بعض النقاد والأدباء الذين يرفعون من قيمة (الخربشات) التي لا ترتقي إلى أن نسمّيها أدباً أو نصوصاً إبداعيّة، في حين أنّ ” المطبلين المزمرين ” في الغالب يتجاهلون المبدع الحقيقيّ ، لأنّه لا ينتمي إلى زمرتهم ،ويربأ بنفسه على أن يكون أسيرها، فنقدهم لا يقوم على منهجية ولا دراية ودون معرفة أو ثقافة ، فهم يقدمون انطباعات شخصية من المنابر التي يقفون عليها ليس إلا .
هذه الظاهرة المؤسفة، ظاهرة الميل إلى التطبيل والتزمير في حياتنا الثقافية تجاوزت الحــد المعقول والمـقبول، هي بلا شك جزء من اكتساح الغوغائية الرخيصة لحياتنا الثقافية .
سونيا عبداللطيف فـي قـصيدتها “ زهــور العـشية” لا تـقـيم وزناً للـمنافقين والمـداحين الـذين يعزفــون أهازيج النفاق الوضيع ، ولا يكفون عن دق طبول الكذب والافتراء والتمويه والمغالطة ، فالشاعرة لا يقلقها ولا يزعجها من أثار ضجة وطبل وزمر ، فهذا كالطبل الأجوف فارغ لا فائدة منه ،فالشاعرة تقول لا يهمني من يركع وينحني بذلة ليقبل الأيدي تزلفاً ونفاقا ، ويواصل رصف الحروف ليجعل منها كلمات وجملً جوفاء .
لا يهُمني لمن يطبّلون
يزكّرون
يركعون
وأيادي منْ يُقبّلون؟!
و لا أيّ نوع من القصائد ينضدون؟
تؤكد الشاعرة أن النفاق يتجدد باستمرار ، لقد أصبح شعاراً يرفعه كثيرٌ من الناس، فالمنافق متلوّنٌ فــي العلاقـات يتسم بالكـذب وقـلة الوفاء ، وهو بعيد عــن الصدق والحق فيما يقول ويفعل ويجيد أي دور يقوم به في سبيل الــوصول إلى الهـدف الذي يعيش من أجـله وهـــو المصلحة..فالشاعرة في القصيدة تفضح معظم أشكال العوار الاجتماعي للمنافقين .
الــذين يتـلونـون بحسب أهــوائهم ومصالحهم التي يخيّل إليك أنّها لا يمكن أن تــنتهي بسبب عدم ثـباتهم عــلى مــبدأ واحــد وقــد وصفهـم شكسبير( أعطاك الله وجهاً، وأنت تصنع لنفسك أخر) .
غسيل النٌفاق لا يجفّ
وهمْ من جديد
يلبسون
الطّمع يهمس في الصّدور
وفي الأزقّة يسقسقون
يصقصقون
تدعــو سونيا عبداللطيف إلى تجاهـل المطبلين والمزمرين ، وعدم إظهــار الاهتمـام بـهم ، لـخبثهم وفـساد طـويتهـم وسـوء عـملــهم فــالشاعرة تقـــول : لا يهمني تحركات المنافقين ولا تأرجحهم ولا يهمني من يتكلمون وراء ظهري ، فهم كالأفاعي متلونون تزينوا بــالزيف والــكذب والخــداع والـنفـاق عـلى كـل شكـل ولـون فالتلون يجري في شرايينهم مجرى الدم،وتحركاتهم لا تكون إلا في الظل والخفاء .
كما تشير إلى أن ازدياد مكرهم المكشوف وارتفاع منسوب خداعهم وحيلهم لن يستفزني ولن يثير اهتمامي ولن يحرك حب الاستطلاع لدي .
فليطبٌلوا
وليزكٌروا
كما يشاؤون
اهتزازاتهم لا تهزّني
فهم كأفاعي الظّهيرة
حول الأغصان يتلّوّون
بلونها يتلوّنون
وبجذوع اللّيل يلتفّون
نهود مكرهم لا تثيرني
وهي تتعرّى تبحث عن
شاهد زور
تستمر سونيا عبداللطيف في فضح ألوان حيل المتلونين أصحاب ” التطبيل والتزمير” وتعلن عدم اكتراثها بابتسامتهم الصفراء التي تظهر خلاف ما يخفون، والتي تــدل عــلى مكرهم ومراوغتهم ، ولا تهمني أيضاً دموعهم الوهمية الكاذبة ،ولا مغــالاة ذلك الحسود في تمني زوال النعـمة عـن الآخــرين ، الــذي أعـماه الحـقد عن رؤيــة الحقيقة ، فلن أكترث لنفاقهم وتلونهم .
لا تهمّني ابتساماتهم المخادعة
لا دموع تماسيحهم الكاذبة
ولا ذاك الحسود
وعينَه يطمسُها عود
ليطبٌلوا
ويزكٌروا
تطبيلهم وتزميرهم لن يترك أثراً لدى عامة الناس، فهو كالصدى يصطدم باللامحسوس ، ويرتد عليهم محناً ومصائب ومصاعب ..
الشاعرة تــؤكد أنها لا تصغي لهم ولا تعيرهـم أي اهتمـام ، فهم معاول هدم لا بناء ، ينشرون الهلع والخوف و ويتركون الحزن والألم حيث يحلون ،
أناشيدهم لا تسمعها النٌجوم
هي كالصّدى ترتطم بالفراغ
ثم تعود
و على أصحابها بلاء ورعودا
تعود
أنا لا أسمعهم
ولا أراهم
فهم كالرٌياح
يمزّقون القلاع
يخلّفون الهلع
حين يهبّون
ونواحا ونواحا هنا وهناك
يتركون
تـقـارن الشاعــرة بين المنافـقين ( المـطبلين والـمزمـرين ) الـذيـن يجيدون الرقص على كل الدفوف ، وبين شخصها ، فتقول لا يهمني سواد قلوبهم ومكرهم وخداعهم ، و قلبي عـامر بالطيب والوضوح الـملــون بالصفــاء ونقــاء السريـرة ، فــأرى الـحياة حـياة الـقـلب الطـاهر والقناعة والرضا، وحب الـخير للناس، وبث السعـادة فيهم والإنجاز الدائم في طريق النجاح ، فكل أفاق وجوانب حياتي مزنرة بالفرح والسعادة.
أنا لا تهمٌني حلكة القلوب
في قلبي زرقةُ السًماء
تلوّنُها لي شمسي
فتشرق في عينيٌ
الحياةُ
وفي أفقي
تزهو وتشدو الطيور
وفــي نهـايـة الـقـصيدة تشير عـبداللـطيف إلى أنها تـدير ظـهرها للمطبلين والمزمرين وتعيش حياتها الطبيعية بكل هدوء وطمأنينة
فتجلس قبالة البحر فوق رابية مرتفعة جذلة فرحة ، تحــلم بعـودة النوارس كي تعود وتحط بعد رحيلها المضني على كفها ، لتعــانق أماني الشاعرة وأحلامها ، لتجعل حياتها قوافل بهجة وسرور وخير
تزينها الطهارة والنقاء ، وفيها الأصــدقاء الصادقون المخلـصون الأوفياء ، وتخــتم سونـا الـقـصيدة مـوجـة كــلامها (لـلمتلـونـين المنافقين ) قائلة لهم :أنا أنثى رقيقة ناعمة تعرف ما تريده في الحياة ، ولا تخشى السعي نحو تحقيقه ، وفي ذات الوقت أنا امرأة ذات شخصية قوية ، أنا قوية أكثر مما تتصورون لتفكيري الإيجابي واحترامي لذاتي وللآخرين، وثبات موقفي وعدم تذبذبه.
وفي حبور… أجلس قبالة البحر على
رابية صخور… أحلم بعودة النّوارس
وأنتظر رؤيتها .. في سمائي ….لتعانق أمنياتي
تجعلٓ من أغنياتي .. أفراحا ومسرات
مساءاتي أرجوحةُ أعياد.. تراقصني الصّباحاتُ
وتتمطّى على شفاهي ..الفراشاتُ
سمائي زرقاء نقيّة .. النُوارس فيها مخلصةُ .. وفيّة
وأنا لستُ إلاّ زهرة العشيّة لا تذبلُ .. في عشيّة
مما تقدم يلاحظ إصرار الشاعرة عـــلى نبذ المنافـقين والمـتلـونين وتعـريتـهم وفــضهم ، وتــطـالـب بإخــماد صوتهـم ، لأنـهم مـرض مـن أمـراضنا الشائعة ،«مأساتنا أنه لا يعلو صوت فوق صوت النفاق» كما قال الكاتب الكبير نجيب محفوظ.
تمتلك سونيا عبداللطيف مــقومات الإبــداع الشعري ،وتمتلك مهارة الرسم بالكلمات فرسمت قي قصيدتها أجمل الـــلوحات التعبيرية وهذا دليل على خيالها الخصب ، مما جعل القصيدة عبارة عــن لوحــة تناغـمت فيها الألوان بـيد شاعــرة رقيقة الـمشاعـر، كـما يغـلب عـلي القـصيدة طــابع السهولة والوضوح والعمق والشفافية الشعرية .
وأخيراً نذكر بهذا المثل المعبر ( تحت جلد الضأن قلب الأذوب ) يضرب لمن ينافق ويخادع الناس ) .