لقد سبق القديس غريغوريوس النزينزي ديكارت بقرون بالحديث عن إمكانيّة إدراك الله عقليّاً. فالوعي العشقيّ هو وعي الكينونة الإنسانيّة الّتي يشكّل العقل فيها عنصراً أساسيّاً. لكنّه لا يتطرّف ويلغي كلّ مقوّمات الإنسانيّة. ويحرص على النّموّ بالنّفحة الإلهيّة الكامنة في الإنسان. “وجبل الرّبّ الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حيّة.“(تكوين 7:2) ونسمة الحياة الّتي هي أنفاس الله في الإنسان جعلته مهيّأً بكلّيته إلى الاتّصال بالله، عقليّاً وروحيّاً. وبفقدان أحد هذين العنصرين يختلّ توازن العلاقة. ما نقرأه بشكل أو بآخر في فكر ديكارت الّذي ذهب بالعقلانيّة إلى آخر حدودها دون إلغاء الإيمان. لكنّه أراد أن يقول إنّ العقل الّذي هو من الله كما الإيمان يمكنه أن يقدّم دلائل عقلانيّة لإدراك الوجود الإلهيّ. وإنّ العقل الصّافي إذا ما رتّب الأفكار وأعاد النّظر في أساليبه تمكّن من البحث عن الحقيقة.
انطلاق ديكارت من الشّكّ ما هو إلّا دلالة على الضّعف الإنسانيّ الّذي يعيه ديكارت لكنّه بالمقابل يستخدم الشّكّ المنهجيّ الّذي ليس بالأمر السّهل، لأنّه يحتاج إلى استنفار دائم ووعي شديد. لقد شكّ ديكارت في الله كما في كلّ الموجودات ليثبت وجودها. وها هو يبلغ إثبات الوجود الإلهيّ بالمنطق العقلي الّذي يتساوى مع الإيمان عند ديكارت. لأنّه تحدّث عن إدراك الله بالنّور الفطري الحاضر في الإنسان. ولأنّه يرى أنّ الخطأ لا يأتي من العقل الّذي منحه الله للإنسان، وإنّما من كيفيّة تطبيق العقل على الأمور.
لكنّ القدّيس غريغوريوس لم يضع الوجود الإلهيّ موضع شكّ لبلوغ الحقيقة. كان القدّيس غريغوريوس داخل الحقيقة لذلك أمكنه الكلام عن الإدراك العقليّ لله. ولا بدّ من أنّه يتحدّث عن إدراك بالعقل المستنير الصّافي الّذي اعتمد على النّور ليعاين النّور. فإذا ذهبنا بالعقلانيّة البحتة لإثبات الحضور الإلهيّ، تخبّطنا بالضّعف والمحدوديّة. فكيف يمكن للمحدود أن يدرك كامل حقيقة اللّامحدود؟ العقل الإنسانيّ بالكاد يتلمّس جزءاً يسيراً من هذا الحضور. “الله كان كائناً دائماً وهو كائن في الحاضر وسيكون دائماً إلى الأبد، أو بالحريّ، هو كائن دائماً. لأنّ “كان” و”سيكون” هي أجزاء من الزّمن ومن طبيعتنا المتغيّرة. أمّا هو فهو “كائن” أبديّ، وهذا هو الاسم الّذي أعطاه لنفسه عندما ظهر لموسى “أنا هو الّذي هو” (خروج 3: 14). لأنّه يجمع ويحوي كلّ “الوجود”. وهو بلا بداية في الماضي، وبلا نهاية في المستقبل، مثل بحر عظيم لا حدود لوجوده، لا يُحدّ ولا يُحوى، وهو يتعالى كلّيةً فوق أيّ مفهوم للزّمان وللطّبيعة، وبالكاد يمكن أن يُدرك فقط بالعقل. ولكنّه إدراك غامض جداً وضعيف جداً. ليس إدراك لجوهره، بل إدراك بما هو حوله، أي إدراكه من تجميع بعض ظواهر خارجيّة متنوّعة، لتقديم صورة للحقيقة سرعان ما تفلت منّا قبل أن نتمكّن من الإمساك بها، إذ تختفي قبل أن ندركها. هذه الصّورة تبرق في عقولنا فقط عندما يكون العقل نقيّاً كمثل البرق الّذي يبرق بسرعة ويختفي.”
ولمّا كان الإدراك العقليّ ضعيفاً جدّاً وبالكاد يتلمّس الحقيقة، أعوزته الاستنارة كي يتمكّن من ملامسة الجوهر الإلهيّ. والاستنارة درجة من الوعي الشّديد لكنّه وعيٌ إلهيّ نتج عن الاتّصال بالله، والعلاقة معه والانجذاب له. فالعقل المنجذب إلى الله يدرك الله وأمّا العقل غير المنجذب لا يمكنه ذلك. وذلك لأنّه يحتاج إلى العنصر الإلهيّ. ما يعني أنّه يحتاج إلى تنشيط العمل على الاهتمام بنسمة الحياة الّتي نفخها الله فيه. إنّ المتصوّفين الّذين يسمعون حديث الله في قلوبهم ويحاورونه لا يتخلّون عن العقل بل إنّهم يرتفعون به إلى الله. بمعنى آخر، المتصوّف عاقل يحاور العقل الإلهيّ أو العقل الأعلى. وليبلغ الحوار ما يبلغ من درجة قدسيّة ينبغي أن يرتقي إلى العقل الأعلى. وإلّا فكيف يمكن لهم أن يفهموا اللّغة الإلهيّة؟ وبذلك يمكن القول إنّ عقل المتصوّف يتّحد بروحه فيفهم لغة الله البسيطة. وهي لشدّة بساطتها تستلزم من العقل أن يتحرّر من كلّ أسلوب تقليديّ وكلّ منهج معرفيّ يخرج عن إطار هذه اللّغة ليستحيل عقلاً في الله ولله.”أعتقد أنّ هذا الإدراك يصير هكذا، لكي ننجذب إلى ما يمكن أن ندركه، لأنّ غير المدرك تماماً، يُحبط أيّة محاولة للاقتراب منه. ومن جهة أخرى فإنّ غير المدرك يثير إعجابنا ودهشتنا، وهذه الدّهشة تخلق فينا شوقاً أكثر، وهذا الشّوق ينقينا ويطهرنا، والتّنقية تجعلنا مثل الله. وعندما نصير مثله، فإنّي أتجاسر أن أقول إنّه يتحدّث إلينا كأقرباء له باتّحاده بنا، وذلك بقدر ما يعرف هو الّذين هم معروفون عنده. إنّ الطّبيعة الإلهية لا حدّ لها ويصعب إدراكها. وكلّ ما يمكن أن نفهمه عنها هو عدم محدوديتّها، وحتى لو ظنّ الواحد منّا أنّ الله بسبب كونه من طبيعة بسيطة لذلك فهو إمّا غير ممكن فهمه بالمرّة أو أنّه يمكن أن يُفهم فهماً كاملاً. ودعنا نسأل أيضاً، ما هو المقصود بعبارة “من طبيعة بسيطة”؟ لأنّه أمر أكيد أنّ هذه البساطة لا تمثّل طبيعته نفسها، مثلما أنّ التّركيب ليس هو بذاته جوهر الموجودات المركبة“. إنّ الطّبيعة الإلهيّة البسيطة الّتي تبدو عصيّة على العقل البشريّ تجذبه ليبحث عنها ويدور حولها ويتقبّلها كفكرة ثمّ كحقيقة تتسرّب إلى الكيان الإنسانيّ بالمحبّة، ما دلّت عليه عبارة (يتحدّث إلينا كأقرباء له باتّحادنا به). وهنا يتساوى العقل بالمحبّة، فالمحبّة فلسفة إلهيّة ومنطق إلهيّ. وإذا تمنطق العقل بها انجذب إليها أكثر وتشوّق إليها بألم يطهّر العقل والنّفس ليتمكّن الإنسان من محاورة الله. ولمّا كانت هذه الطّبيعة لا تمثّل نفسها، بدا من الصّعب تحديدها. فعندما نقول إنّ الله محبّة، لا نعني بذلك أنّ الله في مكان والمحبّة في مكان آخر، كما أنّنا لا نعني أنّ المحبّة جزء منه، بل المحبّة جوهر الله، بل هي الله. وحتّى لو وصلنا إلى هذا المفهوم- أي الله محبة-، فنحن ما زلنا عند حدود التّمتمات البشريّة لأنّه أعظم من ذلك وفوق كلّ شروحات بشريّة.
إنّ قواعد العقل البحثيّة تنطلق من بداية لتبلغ نهاية أو نتيجة، ما لا ينطبق على الله الّذي لا بداية له ولا نهاية. اعتمدت فلسفة ديكارت على افتراض الوجود الإلهيّ لكنّ ذاك لا يعني أنّه انطلق من نقطة بداية. وأمّا القدّيس غريغوريوس اعتمد على الاختبار الخاص مع الله، حضور الحبّ الّذي لا يخضع للابتداء والانتهاء، والمعادلات العلميّة. إنّه اللّابداية واللّانهاية، والخارج عن الزّمان والمكان. وهذا الاختبار البالغ الخصوصيّة يُخضع العقل للعشق فينصهر به فيعشق الإنسان الله بعقله كما بروحه. فيبلغ الله لا ليثبت وجوده بل ليحيا به وفيه.
“يمكن التّفكير في اللّانهائيّة من ناحيتين، أي من البداية ومن النّهاية، لأنّ كلّ ما يتخطّى البداية والنّهاية ولا يُحصر داخلها فهو لا نهائيّ. فعندما ينظر العقل إلى العمق العلويّ، وإذ لا يكون لديه مكان يقف عليه، بل يتكّئ على المظاهر الخارجيّة لكي يكوّن فكرة عن الله، فإنّه يدعو اللّانهائي الّذي لا يُدنى منه باسم “غير الزّمنيّ”. وعندما ينظر العقل إلى العمق السّفليّ وإلى أعماق المستقبل، فإنّه يدعو اللّانهائيّ باسم “غير المائت” و”غير الفاني”. وعندما يجمع خلاصته من الاتّجاهات معاً فإنّه يدعو اللّانهائي باسم “الأبدي”، لأنّ الأبديّة ليست هي الزّمان ولا هي جزء من الزّمان لأنّها غير قابلة للقياس. فكما أنّ الزّمان بالنّسبة لنا هو ما يُقاس بشروق الشّمس وغروبها هكذا تكون الأبديّة بالنسبة للدّائم إلى الأبد”.
يدخل الإنسان حيّز الخلود في اللّحظة الّتي يومض العشق في وجوده فيخلد شخصه. لأنّه إذا كان العاشق يحاور الله ويصغي له ويتّحد به، وإذا كان العاشق متمنطقاً باللّغة الإلهيّة فلا بدّ من أنّه انفصل عن العالم ليحيا الأبد.