كتب محمد الخطيب
سوريا
تتناول هذه الدراسة رواية “عفن أحمر” (2018) للكاتبة والفنانة التشكيلية الأردنية تبارك الياسين، بوصفها تجربة روائية تتقاطع فيها الفنون الأدبية والبصرية لتشكّل نصًا يعكس مأساة الإنسان العربي المعاصر، وخاصة في ظل الحروب والنزاعات. تسعى هذه القراءة إلى تحليل البنية السردية، والدلالات الرمزية، والأسلوب الفني، للكشف عن كيفية توظيف الياسين للفن بوصفه أداة مقاومة ضد “العفن الفكري” والخراب الوجودي الذي خلفته الحروب والنزاعات
في العقد الأخير، شهد الأدب العربي موجة من الروايات التي تقترب من الفن التشكيلي والمسرح، محاولةً تجاوز الواقعية السردية نحو كتابة تتنفس الفن والفلسفة في آنٍ واحد. من بين هذه الأعمال، تبرز رواية “عفن أحمر” لتبارك الياسين، التي استطاعت أن تحوّل المأساة السورية إلى لوحة أدبية تمزج اللون بالحرف، والحياة بالموت.
الكاتبة، التي تنتمي إلى جيلٍ أدرك هشاشة الإنسان العربي في مواجهة العنف والأيديولوجيا، تقدم في هذا العمل نصًا يحتفي بالفن كقيمة مضادة للدمار، ويجعل من اللون الأحمر – رمزًا للدم والحياة معًا – محورًا دلاليًا يختصر فلسفة الرواية.
تقوم الرواية على بنية سردية معقدة تعتمد على تعدد الأصوات (البوليفونية)، بحيث تتوزع السرديات بين شخصيات متألمة تتحدث بضمير المتكلم، في فضاء أقرب إلى خشبة مسرح داخلي.
هذا الأسلوب يخلق ما يشبه “المسرح الذهني” الذي تتقاطع فيه الأزمنة والوعي والذاكرة. فـ”سماح” و”برهان” و”إبراهيم” ليسوا مجرد شخوص، بل رموز لأطياف إنسانية تمثل التسامح والفن والمأساة على التوالي.
هذا التعدد في الأصوات يحقق ما يسميه باختين “ديمقراطية الخطاب”، حيث لا تهيمن رؤية المؤلف، بل تتعدد وجهات النظر داخل النص الواحد
 الفن التشكيلي والمسرح كفضاء سردي
تتجلى خلفية الكاتبة التشكيلية في تحويل اللغة إلى ريشةٍ ترسم مشهدًا بصريًّا نابضًا، يُترجم المشاعر إلى ألوان: الأحمر رمز النزيف، الأسود رمز الخراب، والأزرق ظلّ الحلم والموت.
أما حضور المسرح، من خلال اقتباس مسرحية “المومس الفاضلة” لجان بول سارتر، فيضفي على النص بعدًا وجوديًا. المسرح داخل الرواية ليس مجرد تقنية فنية، بل مرآة للواقع العربي العبثي؛ إذ تختلط الأدوار بين من يمثل ومن يعيش، وبين الحقيقة والتمثيل.
هكذا يصبح الفن ذاته بطلًا روائيًا، يقاوم السقوط بالتمثيل والتشكيل.
1. الحرب والعبث الوجودي:
لا تُقدَّم الحرب بوصفها حدثًا سياسيًا، بل تجربة وجودية تتفكك فيها المعاني. حمص تتحول إلى مسرحٍ للدم، والموت يُصبح حدثًا عاديًا، كأن الياسين تعيد طرح سؤال سارتر: “ما جدوى الحياة في عالمٍ بلا معنى؟”.
2. الفكر العفن والإنسان الممزق:
عبر شخصية إبراهيم، تكشف الرواية عن مأساة التطرف الأيديولوجي، حيث يتحول الإيمان إلى أداة تدمير. هذه الشخصية تُمثل نقدًا صريحًا لـ”العفن الأحمر” – أي الدم الذي يسيل باسم الأفكار الفاسدة.
3. الفن والحب كخلاصٍ هش:
العلاقة بين سماح وبرهان تُمثل مواجهة رمزية بين الحياة والموت، وبين الجمال والقسوة. الفن، رغم ضعفه، يبقى وسيلة مقاومة، والحب ظلًّا يرفض الزوال.
تتسم لغة الرواية بثراء شعري مكثف، يجمع بين الإيجاز التعبيري والإيحاء الرمزي. تستخدم الياسين الجمل القصيرة والإيقاع الداخلي لتوليد توتر شعوري، يوازي الانفجار النفسي للشخصيات.
الأسلوب أقرب إلى التشكيل اللغوي منه إلى السرد الخطي؛ فكل فقرة تبدو كفرشاة تمرّ على قماشٍ مليء بالتناقضات.
كما يوظف النص تقنية المونولوج الداخلي التي تمنح القارئ نافذة على وعي الشخصيات، ما يجعل القراءة تجربة وجدانية تشاركية.
العنوان “عفن أحمر” يجمع بين النقيضين:
العفن يرمز إلى التحلل الأخلاقي والفكري.
الأحمر يرمز إلى الدم، لكنه في الوقت ذاته لون الحياة والمقاومة.
هذا التوتر بين الفساد والخصب يجسد رؤية الياسين للعالم العربي الذي يعيش مفارقة الموت باسم الحياة، والحرب باسم الطهر.
أما الإهداء – “إلى البلاد التي حملنا لها خنجرًا، إلى الأرواح التي أزهرت ياسمينًا” – فهو اعتراف جماعي بالذنب والحنين، يلخص فلسفة الرواية في سطرين.
تُعد “عفن أحمر” امتدادًا لتيار الرواية الوجودية العربية المعاصرة، الذي تأثّر بأعمال غادة السمان وسحر خليفة، لكنها تتفوق في دمج البصري واللغوي في نسيج واحد.
رغم قلة الدراسات النقدية حولها، إلا أن ما كُتب في القدس العربي (أحمد الغماز، 2021) وصورة ماغ (حسين عبد العزيز، 2025) أشار إلى فرادتها الأسلوبية وجرأتها في تناول قضايا العنف والهوية بلغة فنية راقية.
تُعد الرواية نموذجًا للرواية العربية الجديدة التي ترفض الخطاب الوعظي، وتستعيض عنه بالتشكيل الجمالي كفعل مقاومة.
”عفن أحمر” ليست مجرد رواية عن الحرب، بل عن الفكر الذي يصنع الحرب.
هي عملٌ يزاوج بين التجريب السردي والالتزام الإنساني، بين الفلسفة والشعر، بين اللون والدم.
تبارك الياسين تثبت من خلال هذا العمل أن الرواية يمكن أن تكون لوحةً وصوتًا في آنٍ واحد، وأن الجمال، مهما كان هشًّا، يظل الشكل الأصدق للمقاومة.
إنها رواية تستحق أن تُترجم إلى لغات أخرى، لا بوصفها نصًا عن سوريا، بل عن الإنسان الذي يصارع العفن كي يزهر من جديد.
المراجع
. ميخائيل باختين، مشكلات في شعرية دوستويفسكي، ترجمة يوسف حلاق، دار الفكر، دمشق، 1998.
. جان بول سارتر، المومس الفاضلة، ترجمة سامي الدروبي، دار الآداب، بيروت، 1985.
. عبد الله إبراهيم، السردية العربية الحديثة: المفهوم والأنواع والأشكال، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2010.
 
		 آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية  اجتماعية الكترونية
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية  اجتماعية الكترونية