بين الوجع والتكثيف: قراءة نقدية في مجموعة “هواء مرّ في رئتي” لتبارك الياسين

بقلم:احمد كمال سالم

اكاديمي

تأتي مجموعة “هواء مرّ في رئتي” للكاتبة تبارك الياسين بوصفها تجربة أدبية تستكشف تخوم الصمت والوجع الإنساني عبر ومضات قصصية قصيرة جدًا، لكنها مشحونة بطبقات من الدلالات والتأملات. إنها ليست مجرد مجموعة من النصوص المتفرقة، بل بناء شعوري متكامل، تتنفس فيه اللغة على مهلٍ، وتتحول القصة إلى زفرةٍ وجوديةٍ تفضح هشاشة الإنسان أمام قسوة العالم.

منذ العنوان، تُعلن الكاتبة عن رؤيتها الجمالية والوجدانية معًا. فـ “هواء مرّ في رئتي” ليست استعارة عابرة، بل مفتاح دلالي يقود القارئ إلى فهم جوهر التجربة: الكتابة كفعل تنفسٍ مقاوم للمرارة. الهواء المرّ هو الحياة ذاتها بكل ما تحمله من فواجع، والكاتبة هنا لا تسعى إلى الهروب منها، بل إلى تحويلها إلى نصوص تُقال لتُشفى، لا لتُنسى.

بين الحرب والفقد والذاكرة:
تتوزع القصص في هذه المجموعة بين محاور وجودية وإنسانية متشابكة؛ فهناك الحرب التي تترك ندوبها على الروح، والموت الذي يتحول من نهاية إلى بداية تأمل، والحب الذي يطلّ خجولًا وسط العتمة، كنافذة صغيرة على الضوء. تبارك الياسين لا تتناول هذه الموضوعات بمعناها المباشر، بل عبر اللحظة الكثيفة، التي تختزل المأساة في ومضة، والحنين في جملة واحدة. بهذا الأسلوب، تُجسّد الكاتبة فلسفة القصة القصيرة جدًا التي تقوم على الإيجاز الدلالي والعمق النفسي، حيث الحدث ليس ما يقع، بل ما يُترك بعد وقوعه من أثرٍ في النفس.

اللغة: بين الشعر والنثر:
اللغة في هذه المجموعة تُعدّ أحد أبطالها الرئيسيين. فهي ليست وسيلة نقل للمعنى، بل كائنٌ نابض يتنفس مع كل نص. تستخدم الكاتبة تكثيفًا لغويًا محكمًا، تجعل فيه كل كلمة تؤدي دورًا دقيقًا في بناء الصورة. الجمل قصيرة، لكنها حادّة، تُصيب الهدف دون زحام لغوي، وتعتمد على الاستعارة والمفارقة والصورة الومضية لتوليد التأثير. ولعلّ الأجمل أن اللغة هنا توازن بين الشاعرية والتجريد دون أن تسقط في الغموض المفرط. فثمة وضوح عاطفي يجعل القارئ متورطًا وجدانيًا في التجربة، حتى وهو يتلمس ما وراء الكلمات من ألمٍ دفين. بهذا المعنى، تمارس تبارك الكتابة كفعل تطهير، وكأن كل نصّ هو محاولة لتصفية النفس من شوائب الذاكرة.

وحدة الشعور وتعدد الثيمات:
رغم تنوع القصص بين الحرب والفقد والطفولة والصداقة والوطن، إلا أن ثمة وحدة شعورية متماسكة تجمعها جميعًا، تجعل المجموعة تبدو كحكاية واحدة تُروى على مراحل. كل قصة خيط صغير في نسيجٍ واسع من الحنين، وكل ومضة تُكمل الأخرى في بناء صورة الإنسان الذي يختنق، لكنه يصرّ على أن يتنفس. هذه الوحدة لا تأتي من الموضوع فحسب، بل من نبرة الصوت السردي التي تحافظ عليها الكاتبة من بداية النصوص إلى نهايتها — نبرة هادئة، حزينة، لكنها لا تخلو من رجاءٍ صامت.

القيمة الفنية والجمالية:
تُظهر المجموعة نضجًا في فهم فن القصة القصيرة جدًا، الذي يقوم على المفارقة والاقتصاد اللغوي والانفجار الدلالي في لحظة النهاية. تبارك الياسين تنجح في توظيف هذه العناصر دون تصنّع، لتقدّم نصوصًا تحافظ على طاقتها العاطفية العالية، وتمنح القارئ مساحة للتأمل والتأويل. حتى النصوص التي تميل إلى الغموض أحيانًا، تبدو وكأنها تدعو القارئ إلى المشاركة في بناء المعنى، لا إلى الاستسلام له.

خلاصة القول:
في “هواء مرّ في رئتي”، تقدم تبارك الياسين عملًا أدبيًا يحمل بصمة خاصة في عالم القصص القصيرة جدًا. هي لا تكتب لتسرد، بل لتُفكّر، لا لتُعلّم، بل لتُلامس. قصصها أشبه بأنفاسٍ متقطعة، تختنق بالوجع لكنها تظل قادرة على قول ما لا يُقال. إنها تجربة لغوية وجدانية تُبرهن أن التكثيف لا يعني الفقر، بل القدرة على جعل القليل يقول الكثير. بهذا العمل، تُثبت الكاتبة أن الأدب الوجيز يمكن أن يكون أعمق من المطوّل، وأن الهواء المرّ، مهما كان قاسيًا، يبقى دافعًا للكتابة، وللحياة أيضًا.

خاتمة نقدية:
في نهاية القراءة، يمكن القول إن مجموعة “هواء مرّ في رئتي” لتبارك الياسين تمثّل تجربة لافتة في المشهد السردي العربي المعاصر، خصوصًا في مجال القصة القصيرة جدًا، الذي يتطلّب وعيًا لغويًا ودقة في التقاط اللحظة. نجحت الكاتبة في أن تجعل من التكثيف وسيلة لاختزال التجربة الإنسانية بأبعادها المتشابكة، فجاءت نصوصها محملة بالشجن، مشبعة بالذاكرة، ومفتوحة على التأويل. إنها كتابة تلتقط ما لا يُقال، وتحوّل العادي إلى استثنائي عبر حسّ لغوي رفيع وصوت سردي صادق لا يتكلّف العاطفة، بل يعيشها بعمق.

تبارك الياسين، عبر هذه المجموعة، تثبت أن القِصر لا يعني الخفّة، وأن الكلمة يمكن أن تكون أكثر امتلاءً من الصفحة، وأن الكتابة حين تنبع من رئةٍ تتنفس الوجع، تتحول إلى هواءٍ يُعيد للحياة معناها.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!