مادونا عسكر/ لبنان
– النّصّ:
صباحك شهوة القبلِ
أضيئي الكون واغتسلي
ومدّي لي يديك رضاً
فإن مداهما جُملي
حبيبة قلبي الأسنى
شفاهك لثمة العسل
أحبّك كلما انتبهت
عقائد قلبي الثّملِ
قصائدنا الهوى لغةٌ
معرّفة بلا خجل
تجلَّيْ يا أمان اللهِ
واروي الطّيف في مقلي
– القراءة:
يدور هذا النّصّ البديع في فلك النّور حيث النّشوة المترامية في كون الشّاعر العشقيّ، حيث تمتزج عناصر النّور (الصّباح/ الأسنى) بشخصه وبشخص الحبيبة، فيبرز الكون العشقيّ النّورانيّ الّذي تتجلّى فيه الحبيبة إلهة تمنح الشّاعر الحياة/ النّور. وإذ يستهلّ البيت الأوّل بلفظ الصّباح والشّهوة والقبل، يحدّد مسار كونه الشّعريّ النّورانيّ المرتبط جذريّاً بالحبيبة (صباحكِ). وكأنّي بها مصدر النّور الّذي من خلاله يطلّ على العالم. ويبدو لفظ (صباحك) خاصّ بها، فهو لا يرنو إلى صباح هذا العالم، وإنّما إلى صباح مختلف، صباح المحبوبة الإلهة الّتي تشرق في عالمه وتحوّله إلى عالم خاصّ يحيا فيه الشّاعر. وارتباط صباحها بشهوة القبل يبيّن صوفيّة الشّاعر المرتبطة بالجسد والرّوح معاً، ما يدلّ على توجّهه بكلّه إلى كلّها. وهنا يبرز المفهوم الآخر للصّوفيّة الدّال على انشغال الشّاعر بأعلى الدّائرة الإنسانيّة حيث الجمال والنّور والحبّ، فيرتقي بالمحسوس عن المحسوس ويتدرّج من الشّهوة الحسّيّة إلى الشّهوة المقدّسة ومن القبلة الحسّيّة إلى القبلة المقدّسة.
تبدو الشّهوة مقدّسة بفعل حضور المرأة الإلهة الّتي يتقدّس بها الشّاعر الّتي يتضرّع إليها، إن جاز التّعبير، حين يقول (أضيئي الكون واغتسلي). في فعل الأمر (أضيئي) استدعاء للمرأة النّور الّتي بيدها حجب النّور أو إظهاره وكشفه. ثمّ يضيف (واغتسلي) كمعطوف على (أضيئي) مرتبط بالشّهوة. لكنّ فعل الاغتسال هنا متلازم والنّور الّذي منه تُستَمدُّ الشّهوة وإليه ترنو. ولعلّها إشارة من الشّاعر إلى صوفيّة العلاقة الجسديّة كفعل حبّ نورانيّ ينطلق من الحسّ ليخلص إلى اللّاحسّ في دائرة النّور. ومن مظاهر ذلك الاتّحاد، اتّحاد اللّغة بين الشّاعر والمحبوبة، كما يبدو في قوله:
ومدّي لي يديك رضاً
فإن مداهما جُملي
ففي اليدين اللّتين تبعثان الرّضا تمدّد الشّاعر في الكون وترسيخ للغته (فإن مداهما جملي). هو يصوغ قصائده بها وهي قالبها وقلبها من جهة. وهو المتّحد بها يشكّل الوحي الشّعريّ ويترجمه حسّيّاً بلغة الجسد المعبّر عن الحبّ ويرتقي به ومعه إلى اتّحاد الرّوح فيخلق القصيدة. ولمّا وُجدت القصيدة حلّت فيها لغة الحبّ فكان الحبّ هو القصيدة وكان الجسد والرّوح عنصرين لا ينفصلان في كونيّة الشّاعر.
وليست اليدان وحدها من يكون دليلا ومشاركا في هذه العلاقة، فالشّفاه كذلك وسيلة لنطق اللّغة الخارجة من القلب الّتي منها يستقي الشّاعر وحيه الكامن في قلبه المتيقّظ أبداً بفعل حضور المحبوبة النّور. وإذا أشار الشّاعر إلى ثمالة القلب فليعبّر عن نشوة النّور العارمة الّتي تفيض بتجدّد واستمرار:
حبيبة قلبي الأسنى
شفاهك لثمة العسل
أحبّك كلما انتبهت
عقائد قلبي الثّملِ
قصائدنا الهوى لغةٌ
معرّفة بلا خجل
إذ يوحي هذان البيتان بعري داخليّ بين الحبيب والمحبوبة يقودهما إلى الاتّحاد الكامل ضمناً. ولعلّه أعظم من اتّحاد بالمعنى الحصريّ للغة، وأعمق من وحدة الرّوح والجسد. إنّه المعنى العذب الّذي عبّر عنه جلال الدّين الرّومي قائلاً: “في كلّ ما قد تعرفه يبقى العشق وحده لا متناهياً”. فقصائد الشّاعر المعرّفة بلا خجل قصائد عشقيّة لا ينضب وحيها؛ لأنّها نابعة من نقاء لامتناهٍ، وصفاء غير محدود يصبّ في قلب العشق، قلب الله، وصولا إلى قوله:
تجلَّيْ يا أمان اللهِ
واروي الطّيف في مقلي
“المرأة هي إشعاع النور الإلهي.” (جلال الدّين الرّومي)، والمرأة عند الشّاعر نور الله وأمانه. وبفعل الاتّحاد العشقيّ يمسيان معاً إشعاع النّور. ولا يكون العشق عشقاً ما لم يقد العاشقين إلى الله. ولا يكون العاشق عاشقاً ما لم يرَ في معشوقه نور الله، وما لم يمتزج بهذا النّور ليسير به ومعه نحوه. إنّ الارتواء الحقيقيّ يكمن في ذلك الماء الّذي إذا ما ارتوى منه العاشق لا يعطش أبداً. ومن عمق الارتواء يتفجّر الشّوق الظّامئ إلى مزيد من الارتواء. فمن يغرق في النّور لا يرتضي الخلاص أبداً.