آفــــــاق حُـــــــــرة
( القراءة تُعرض الغباء للخطر )
مثل ألماني
من تحت مظلة المطر تطل علينا المُبدعة الجزائرية خولة محمد فاضل وكما تسمى أيضاً بسحر القوافي حاملة لواء القيم الإنسانية مدافعةً بمهنية عالية عن آلام جيلها في الجزائر وتحديداً المرأة التي تعيش في الشرق تحت سطوة الغبن المُركب نتيجة عدة عوامل يمكننا أختزالها في أزمة العقل كل الحريات تمر من بوابة تحرير العقل
الكائن البشري في الشرق عموماً يقبع تحت سطوة ثقافة القطيع التي تلغي بتلقائية فظيعة كفاءاتها فلا وجود للخصوصية الفرد لطالما لا وجود للحريات الفردية وفي حالة المرأة تتضاعف التراكمات فهي تعيش في ظل الذكورية الطاعنة بالحضور هنا يبرز دور أصحاب القيم والإرادة من أجل العمل وبمواظبة للوقوف في وجه هؤلاء المتسلطين أبناء ثقافة الإقصاء المتشعب بدوره وعلى مختلف الصعد وفي هذه المعمعة القاتلة تظهر خولة محمد فاضل من خلال مجموعتها القصصية دهاليز بلا شموع
تطرح معاناة الشعب الجزائري عموماً والمبدعات على وجه التحديد هنا سنحاول أن نستشفي أبعاد الخطاب القصصي للمبدعة خولة محمد فاضل من خلال قصتها ليلة في الجحيم ففي هذه القصة التي تستوفي جلَّ شروط القصة القصيرة الحديثة فهي استطاعت أن تُشكل شبكة من العلاقات المنطقية بين شخصيات القصة حيث أبدعت في توصيف آلية الحركة في سياق حوار يبث الإرباك في ذهنية المُتلقي وخاصة في حالة الخوف الذي يجتاح بيتها عندما يطرق أحدهم الباب في وقت متأخر وهنا يشتعل المشهد بكامل حيثياته ومن مُختلف المسافات ثمة تصوير عالي الجودة لمشهد الذعر في تلك اللحظات بدءاً من طرق الباب مروراً بما تضمنته رسالة الطارق والذي جاء مُغامراً لكي يُنبه عائلة بطلة القصة خولة بأنها مطلوبة لدى أمير احدى التنظيمات الجهادية نتيجة كتاباتها.
هنا ثمة طرح يأخذ المُتلقي صوب إحدى المعطيات التي تعيق حركة الحياة في العالم عموماً وفي الشرق خصوصاً نتيجة نمو الفكر السلفي الذي يتبنى فكرة العودة إلى ذلك العصر الذهبي وفقاً لرؤاهم ويعملون بشتى الوسائل من أجل تحقيق أهدافهم والتي تتعارض بشكل عميق مع متطلبات الحياة الحديثة ويمكننا أن نعتبر موضوع المرأة من المسائل الشائكة في منظومة التباين الشاسع بين منطق العقل وهؤلاء المأزومين والذي يعادون روح الحياة ولهم دوافعهم وأفكارهم وعلينا احترام خصوصيتهم ولكن المعضلة تكمن في رؤاهم للآخر حيث يعتبرونه كافراً وكأنهم يملكون صكوك الغفران وشهادات العفو والمغفرة.
نعود إلى مسار الزمن لليلة في الجحيم للرائعة خولة محمد فاضل حيث تضطر في تلك الليلة السوداء إلى الهروب مع أخيها خوفاً من هؤلاء الذين لا يؤمنون بحق المرأة في الحياة الكريمة والعمل والمساهمة في تطوير أجواء الحياة لتغدو أكثر تناسباً مع قيم العصر هنا يمكننا أن نستشفي أبعاد الخطاب الإنساني لهذه القصة العميقة من خلال النقاط التالية:
أولاً: المرأة كائن متكامل توازي الرجل في كل شيء وهي ليست مجرد إضافة للرجل بل هي شريكته في الحياة.
ثانياً : ثمة رسالة لهؤلاء أبناء ثقافة الأقصاء فحواها الزمن إلى الأمام والماضي دروس وعبر لا غير.
ثالثاً : الخوف كما قال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبين ( الخوف مستشار سيء) ويفترض أن نملك من الشجاعة ما يمنحنا روح التصدي لذلك الفكر الذي يلغي وإلى حد بعيد فردانية الكائن البشري وتحديداً المرأة.
خولة محمد فاضل من خلال ليلة في الجحيم أنارت سلسلة من الزوايا المعتمة في صيرورة أفكارنا فالنقرأ معاً هذه القصة الجاذبة.
ليلة في الجحيم
قصة قصيرة بقلم الأديبة سحر القوافي
تناثرت أوراق الخريف على أضرحة السنين التي عشناها ،وعبثت خفافيش الظلام بسقياها.. ووأدت أحلامنا في قعر النسيان واقتلعت من أرواحنا جذور الياسمين والنرجس وخنقت أنفاس الفجر وضحكات الأطفال في أفئدتنا الكلمى .. تلك السنون التي حفرت في الذاكرة ندوبها الغائرة.. المٱسي التي غلفت الٱماسي وأغرقتنا في وهد الظلام والوجع.. مازالت تعربد في الذاكرة تشوش مشاعري وتعبث بخواطري .. تحاصرني ظلالها الحارقة ،فيلازم الكمد نبضات فؤادي وشهقات أنفاسي.. ما تركت مني سوى الدخان والرماد الذي لهت به عواصف الأسى وجرفته سواقي الدماء.. والناس حولي أشباهي ؛ هياكل خاوية من الحياة .. أوثان يدب فيها السقم والفراغ والجوع والوهن ويعبئها الصقيع والشجن.. ومازال نعيق الغربان يجلجل في الفضاء وجحافل الظلام وخفافيش الشؤم تملأ السماء.. مازلت التفت حولي فأجد ظلي لاهثا من عبء الحمل وأكداس الأشجان والحرمان التي أجرها من زمن القحط وسيول الأنين ترسمها خطواتي.. مازلت أحاول عبور عباب الواد والوصول إلى جسر الأمان بلا جدوى.. أفتش عن موضع ٱمن لأقدامي لكن معابر التيه والسراب تضلل نظراتي وليلة الفرار عالقة بذهني ترفض العفاء والسلوان وتعيد نسخ نفسها ونسج أحداثها .. دوامة وجع تحوم في ذاكرتي فتبعثر ما تبقى من وهج في أعماقي وتجفف معين الأفراح.. يباغتني كابوسها ويحف ليلي بأطياف غريبة تمتهن الجنون وتدق مساميرها الملتهبة في كل مسامات روحي المفزوعة من هول المشاهد وركام الذكريات الصادمة وشلالات الدماء الدافقة من الرقاب المنحورة والرؤوس المبتورة على مذابح السلام تثر حولي وتعبر شوارع عمري.. وعلى فراش الصقيع والقتاد المسنون أتوسد الرزايا والمحن لأفقد وعيي من روعة الألم .. إغماءة لا أفيق منها إلا على خيالات كابوس جديد أظنه يوما ٱخر أو واقعا مغايرا ألجه.. تلك الليلة الدامسة التي امتدت لأزمان وأزمان وتشرشت في روحي حد الإدمان ،تترنح سكرى في الوريد والشريان .. ليلة الجحيم الأولى.. بوابة القيامة البكر.. كل الأبواب قد غلقت في زمن العربدة والعهر والقهر والروح حطام عالق بمسافة.. قرار إبليس قد صدر في حقي وأقام المقامع والأصفاد ليحتفي بصلبي وشنقي.. ليتلذذ بأوجاعي ويزهق روحي التي فضحت خباياه المدسوسة خلف رنين حروف الحكمة والتغيير المذاعة من إعلانات كتائب الموت الرعناء المبتذلة.. سيقيم الحفلة على إراقة دمي وانتهاك عرضي ويهلل بالنصر فأنا الجانية التي أزاحت غمامة البصائر وخلخلت الألباب بخواطرها وأعاقت المبايعة بالخلافة.. لقد تلا إبليس قراره على سحرته وأنصاره إنه ينص على نفيي من فضاء الحرف ووأدي في إحدى المغارات لتنهش ما تبقى مني الذئاب و الغربان .. صدر القرار في حقي من أمير الظلام بطمسي في رمس النسيان ..
في تلك الليلة الليلاء وكما جرت العادة في زمن الردة بدت الشوارع خالية من الحركة والحياة .. توارى الجميع عند المغرب في بيوتهم يسألون الله النجاة من ماسورة الخفافيش وخناجر الغدر التي راحت عواصفها الهوجاء تهز أرجاء الوطن.. وأعلنت القيامة الصغرى.. وقد تناثرت الأجساد هنا وهناك وسالت أودية الدماء وعربد وابل الرصاص والقذائف دون هوادة ودوت الانفجارات والتحفت السماء الرماد والدخان ..وأطلق إبليس أبواقه وشياطينه يجوبون ربوع الوطن.. يسلبون الأعراض والأنفس ..يزرعون الدمار والردى.. لا أحد يأمن على نفسه وشرفه وماله وأهله.. لا أحد ينعم بالنوم أناء الليل وأطراف النهار.. لا أحد باستطاعته أن ينير بيته في هذا الريف اليتيم.. أو يرفع صوته و صوت مذياعه و تلفازه المحرم.. الرعب وحده يغطي كل المساحات والفضاءات والرجفة تسري في الشرايين والأوردة .. البؤس والفواجع والأسى ترتفع أصواتهم وترقص وترسم على الجدران والعيون والأفئدة خلجات الردى ..والصمت والعبرات والهلع لوحدهم يضجون في كل الأرواح التي يختنق أنينها في المحاجر بينما اليأس يحجب جميع منافذ الضياء..
الزائر الغريب يطرق الباب بدقات متسارعة كأنما يستعجل القدر أو تطارده أياد الغدر ..كمن يفتش عن وزر ينجيه ..
قفز والدي من مكانه ودس خنجرا تحت سترته واستعاذ من كل شيطان رجيم واتجه نحو الباب بينما تجمدنا في أماكننا وعقدت الدهشة ألستنا وسأل :
من الطارق ؟!
فأجابه صوت مرتعد: هذا انا عاشور يا عم محمد ،افتح الباب ،عندي لكم رسالة عاجلة ..
فتح والدي الباب بحذر وأدخل الطارق الذي كان يلهث ويتصبب عرقا وهو يقول: خيرا يا بني..
فقال الزائر بصوت متهدج فيه نبرات الحسرة والتأسف: إن الأمير مصعب أمير كتيبة سارية الخلاص قد أصدر حكمه في حق ابنتكم الصحفية خولة لأنها لم تتخل عن وظيفتها والكتابة، وسيمر لأخذها ويتم الاستماع إليها لتعدم أو لتأخذ سبية مدى الحياة أو تحرر بدفع فدية والاحتمال الأخير ضعيف ..لقد أرسلني في مهمة قريبة من هنا فاستغليت الفرصة وخاطرت بحياتي لتحذيركم فأنتم من أقارب والدتي..
نزل الخبر علينا كالصاعقة ،ولم أسمع بقية الحديث وارتميت في حضن أمي أحاول أن أطمئنها وقد اختلطت مشاعري بين الحقد والكراهية والتحدي والخوف والحيرة.. زخم متلاطم من الأحاسيس المتضاربة أغرقني في هستيريا من البكاء بينما تملكت أمي موجة من النحيب..
استجمعت قواي بصعوبة و رحت أتفرس في وجوه إخوتي ووالدي الشاحبة ونظراتهم المفزوعة وقد خيم الصمت والوجوم على الجميع..
وفجأة تحدث أخي الأكبر: اجمعي ما أمكن من أغراضك يا اختي ،سنذهب من هنا حالا.
قفزت من مكاني وارتديت عباءتي وفي عجالى وضعت بعض الأغراض الضرورية في الحقيبة ..
ودعنا العائلة وتسللنا إلى السيارة
أدار أخي المقود فانطلقت بسرعة فائقة ونحن نبتهل إلى الله أن يجنبنا حواجزهم الأمنية المزيفة المباغتة ،وفي بالي هاجت وماجت الخواطر السوداء ..وجل ماكنت أخشاه أن ينتقم أمير الكتيبة الضال من أهلي في هذه الليلة المشؤومة ،وقد انتابني شعور قاتل حينما تمثلت أن صفحتي ستغلق وأن شبح المنايا بدأ يحوم حولي فأياد النحر القاسية تمتهن الجرائم الدموية البشعة في كل ركن وزاوية.. إنها لحظة فارقة بين الوجود والعدم.. بين الميلاد والوفاة.. أقصر مسافة بين الأرض والسماء وأطول مسافة وأشقها في حياتي كلها ،عندما تتحول الثانية إلى ألاف السنين ،وتتوقع النهاية عند كل نقطة تعبرها وتشعر أن الموت يطاردك حينها تفقد كل الأشياء معناها ماعدا الحياة..
أضحت المسافة بين بيتنا والمدينة أطول مسافة عشتها في حياتي.. ليلة التسلل والفرار من همجية الإرهاب .. أعتى ليلة وأمرها ليلة سرمدية جمعت فيها كل أشكال المعاناة الروحية والوجع.. كل السنين واللحظات من زمن الميلاد حتى مشارف المنون..
ربما مازلت حية لم أمت بكاملي ولكن مات الكثير مني أو فني وقبرت سنون من حياتي في غياهب العتم..
بلغنا المدينة وطرق أخي باب أحد معارفه الذي فتح لنا المستودع حيث قضينا ليلة القيامة الصغرى في السيارة بداخله.. ليلة لا تشبه الليالي.. بت أبحث فيها عن سبيل للخلاص، فلم أر حولي غير العتم يلف درب السراب ،والخطوات تتيه بي لأسقط في غياهب العذاب.. ولم أسمع سوى صدى نحيبي يردده الردى في ضلوعي.. ليلة الكابوس الذي مازالت ظلاله تغطي مساحة كبرى في روحي..
وما إن انبلج الصبح حتى شرع أخي في البحث عن شقة لإيجارها.. عثرنا على واحدة بسعر باهض دخلتها بينما عاد أخي إلى بيتنا ليصطحب العائلة والأغراض معه .. ليبدأ فصل جديد من عمري يعج بالوجع والحسرة والكمد والضباب ونزر من السعادة المهربة من براثن الدهر..
القصة القصيرة هذا الجنس الأدبي الدافئ يمكننا أن نأخذ أبعاده من خلال هذه التجربة القصصية للمبدعة خولة محمد فاضل عبر مجموعتها القصصية دهاليز بلا شموع وتحديداً من خلال ليلة في الجحيم التي حاولنا أن نستشفي من خلالها أبعاد الخطاب الإنساني والقيمي لهذه المبدعة المتواضعة والأبية خولة التي أتمنى لها مقاماً رفيعاً في عالم الأدب والمعرفة.