تحليل نقدي لقصيدة “قلب خائف” لپري قرداغي/بقلم:عباس عبدالزاق

البنية الشعورية للنص

النص مبنيّ على ثنائية واضحة: الخوف مقابل الرغبة في الظهور، و الصوت مقابل الصمت،و الحلم مقابل الانكسار. هذه الثنائيات تصنع توتّرًا داخليًا يُشكِّل العمود الشعري للقصيدة. المتكلّمة ليست خائفة من العالم فقط، بل من انطفاء ذاتها إذا ظهرت. خوفها ليس جبنًا، بل حساسية زائدة تجاه الجمال واهتزازه.

الصورة الشعرية ورهافتها

تشتغل الشاعرة على صور دقيقة تعتمد عناصر شفافة:
النجمة، الغيم، العطر، الزهرة، الندى، الفجر، البحر، القوقعة. هذه ليست مجرد عناصر طبيعية، بل رموز للانطواء والهشاشة. فلسفة الهشاشة وصدمة العالم العالم الخارجي في القصيدة عالم “ضجيج”، “وجوه فارغة”، “أقنعة كلام”. هذا العالم يشبه مفهوم الوجود المزيف لدى سارتر: عالم من الأقنعة لا يمنح الذات اعترافًا، بل يسرق منها أصالتها. وبالمقابل، الذات الشاعرة تتشبّث بكل ما هو صغير، رقيق، شفّاف. كأن النص يقول:
الإنسان لا ينجو بالقوة… بل بالرقة.
الهشاشة هنا ليست عيبًا، بل هوية.

أبرز الصور:
أحبس نجمةً في أذني”
صورة تمزج بين الكونيّ والحسّي، وتجعل السمع نافذةً للضوء. إنها رغبة في التقاط همس الكون.
حزني الوردي… يتدلّى خلف ضحكتي
هنا يظهر “الوردي” كمفارقة: حزن جميل، لطيف، لا يجرح بل يُربك. اللون يصبح لغة نفسية.
كعطرٍ خجولٍ يخشى الهواء”
تشبيه يقدّم الحساسية المفرطة بوصفها هشاشة ضرورية لحماية الذات.
صوت البحر في قوقعتي”
صورة كلاسيكية لكنها تُستخدم هنا بوظيفة جديدة: الصوت محجوب، مُتأتئ، لا يسمع نفسه إلا في الخفاء.
الصور كلها مخملية، تعتمد على نعومة المفردات لا على حدّتها، وهذا ينسجم مع عنوان النص.

البناء الإيقاعي

النص نثري، لكنه ذو إيقاع داخلي متولد من:
تكرار الضمائر: أبقى.. أخاف.. أصمت.. أبقى
تكرار الأفعال الناقصة والملتبسة: يتدلّى، يحمي، ينكسر، ينتظر تناثر الجمل القصيرة التي تحاكي الهمس.
الإيقاع هنا ليس غنائيًا بل تنفسيًا؛ كأن الشاعرة تقطع الكلام كما يقطع الخائف أنفاسه.

الدلالة النفسية

القصيدة تعلن منذ بدايتها أن المتكلمة تعيش في منطقة بين–بين: بين الرغبة في البوح، والخوف من البوح. بين الولادة والانكسار. بين السكون والانفجار.
الحزن ليس سوادًا، بل ورديًا و هذا مهم.
إنه حزن جميل، مُهذّب، محميّ بغطاء من الذوق والخجل. النص مكتوب من موقع الذات الحسّاسة التي قد تتهشّم من كلمة خاطئة، ولذلك تتشبث بالكلمة الصحيحة: ( كلمة تفتح له باب النجاة. )
إنه انتظار الخلاص عبر اللغة.

الوظيفة الرمزية للطبيعة

الطبيعة هنا ليست خلفية، بل مرآة للذات:
• الغيم ـــ الهدوء المهدّد.
• الۆندى ـــ الحنان الخافت.
• القوقعة ـــ بيت الذات الداخلي.
• البحر ــ الصوت العميق المقموع.
هذه الرموز تؤسس لرؤية شعرية ذات طابع أنثوي برّاق ومتأثر بمدرسة الهمس، قريب من نازك الملائكة من جهة الحساسية، ومن غادة السمان من جهة البوح الداخلي، لكن بأسلوب أكثر نُعومة وتجسّدًا.

البعد الفلسفي

تعمل القصيدة في منطقة بين الصوت والصمت، وهذه المنطقة هي في الفلسفة منطقة الوجود الهش. مارتن هايدغر يسمّي هذا المستوى بـ “السكينة المحتشمة للكينونة”، حيث لا يُفصح الوجود عن نفسه بصخب، بل بهمسة.
القصيدة تتنفس من هذا المجال: الـ “أنا” لا تنهار، لكنها لا تبلغ اكتمالها أيضًا؛ إنها معلّقة بين ما تريد قوله وما تخاف من قوله.
هذا التردد ليس ضعفًا، بل وعيًا عميقًا بثقل الظهور.
فالظهور، في الفلسفة الوجودية، هو خطر: كل ما يظهر قد ينكسر.
لذلك، فإن الشاعرة تتشبّث بما لا يُرى:
• بنجمة في الأذن (صوت الضوء)،
• بعطر لا يريد أن ينتشر،
• بصوت البحر داخل قوقعة صغيرة.
الوجود هنا يُفضّل السرية على البوح، و”الظلّ على السطوع”. وهذا يكشف عن فلسفة أساسية في النص:
أن الجمال لا يحيا إلا في منطقة الحراسة، في الظل الرقيق، قبل أن يلوثه العالم.
النص يطرح أسئلة وجودية دون تصريح: ما معنى أن نخاف من اكتمالنا؟ هل الصمت لغة؟ هل الهشاشة شكل من أشكال القوة؟ هل الكلمة خلاص؟
الخوف هنا ليس خوفًا من الآخر، بل من ثقل الظهور ومن أن يولد الشيء ناقصًا. إنه خوف من الجمال نفسه. في الفلسفة الوجودية، يسمّى هذا بـ قلق الإمكان . الخوف من أن تنكشف الذات فتنكسر.
وفي الفلسفة الجمالية، يقارب فكرة fragility:
الجمال الذي لا يعيش إلا في الظلّ.

جماليات الصوت الخافت

النص عنوانه “قلب خائف”، لكنه مكتوب بصوتٍ هادئ، حالم، متردد. ليست هناك صرخة، بل سكون يتشقق.
إنه نص يفضّل: الهمس على الصراخ، الرفّة على السقوط، الرجاء على الفقد، الانتظار على المواجهة.
هذا يجعل القصيدة تنتمي إلى شعر الشفافية، حيث القوة تأتي من النعومة، والسرد من الصمت.
القصيدة تتفوق في: كثافة الصور الرقيقة و بناء إحساس داخلي موحّد و توظيف الطبيعة كأداة نفسية
و لغة مخملية تشبه موضوعها
وتحتاج ربما ، لو أرادت الشاعرة تطوير النص إلى:
توسيع منظور “الخوف” ليتحول إلى تجربة وجودية أكثر عمقًا، أو إدخال مفارقات أقوى تُبرز الصراع الداخلي بدل همسه فقط.
لكن بصيغتها الحالية، القصيدة جوهرة هادئة، تلتقط ارتجافة القلب قبل أن يسمعها العالم

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!