لصخيفة آفاق حرة
كتب /أحمد البزور
يعدُّ محمود الشّلبي شاعرًا وناقدًا وأكاديميًّا أردنيًّا، حقق حضورًا بارزًا على الخارطةِ الشّعريّةِ العربيّةِ، وأحد أعلام الحركة الشّعريّة في الأردن الذين ظهروا في سبعينيّات القرن الماضي، ومن الشّعراء الحداثيين المنسجمين مع روح العصر شكلاً ومضمونًا، مما انعكس أثره تمامًا على شعره. وقد تخطّى مرحلة المحاولة، ووثب وثبةً كبيرةً على صعيد التّطور الفنّي للقصيدة منذ أن أصدر ديوانه الأوّل، وهو يطوّر أدواته الشّعريّة ولغته وصوره؛ فذهب بقصيدته مسافة لا بأس بها نحو تحديثها وتعميقها برؤيةٍ شعريّةٍ جديدةٍ. عمل محاضرًا لمادّة اللغة العربيّة في الجامعاتِ الأردنيّةِ وجامعة البلقاء التّطبيقيّة على وجه الخصوص، وقد جرى اختياره عضوًا في رابطةِ الكتّابِ الأردنيينَ، والاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، وشغل منصب مستشار رئيس جامعة البلقاء للشّؤون الثقافيّة والإعلاميّة.
ولد الشّاعر محمود الشّلبي سنة 1943م، في قرية دنّا، إحدى قرى مدينة بيسان الفلسطينيّة، وعاش حتّى الخامسة من عمره، ومن ثمّ هاجر مع أهله إلى الأردن إثر نكبة فلسطين سنة 1948م(1)، وله العديد من المجاميع الشّعريّة، منها: عسقلان في الذّاكرة 1976م، ويبقى الدّم ساخنًا 1982م، وأشجار لكلّ الفصول 1985م، ومنازل لقمر الآس 1991م، وأجيئكِ محترسًا من نبضي 1996م، وأحلام نافرة 1997م وسلالم الدّهشة 2000م، وغيرها(2)، إضافةً إلى ذلك، له كتابٌ عن عبد الرّحيم محمود شاعرًا ومناضلاً، صدر عام 1984م(3) . قامت جامعة البلقاء التّطبيقيّة، سنة سبع وألفين، بضمّ شتات المجاميع الشّعريّة السّالف ذكرها ضمن الأعمال الشّعريّة الكاملة(4).
شعريّة الأمكنة
بدايةً نشير، إلى أنّ معاجم اللغة تكاد تكون متفقة بأنّ المكان، هو الفضاء والحيّز الجغرافي، ونقديًّا، يعدّ المكان دالًّا لفظيًّا يحمل مدلولاً أدبيًّا ونفسيًّا. ولعلّ من الضّرورة بمكانٍ، في هذا السّياق، الإشارة إلى أنّ الباحثة رشا حجازين قدّمت رسالتها للماجستير والموسومة بعنوان شعر محمود الشلبي: دراسة أسلوبيّة، انطلاقًا من انحيازها للظّاهرة الأسلوبيّة الفنية، من انزياح، وتناص، ومفارقة، وموسيقا. ومن المناسب أيضًا القول بأنّ الباحثة لم تخض في ظاهرة المكان. بهذا، يأتي المقال امتدادًا واستكمالاً، في التّركيز على المكان في شعر محمود الشّلبي كظاهرةٍ أسلوبيّةٍ موضوعيّةٍ، من منطلق شيوع المفردات المتعلّقة بالمكان في نصوصه الشّعريّة، منتهجًا التّحليل الوصفي في نقد الظّاهرة الشّعريّة، ما يستطيع أن يلمحه كلّ من كان لديه نفسٌ قصيرٌ بالقراءة. من هنا، يمكن التّساؤل عن كيفيّة تمثّل المكان في شعر محمود الشّلبي.
ديوان عسقلان في الذّاكرة
إنّ البواكير الشّعريّة الأولى للشّاعر اتكأت على الذّاكرة، ويعدّ ديوان عسقلان في الذّاكرة من الدّواوين الشّعريّة الأولى، التي تتضح فيها مقدرة الشّاعر محمود الشّلبي المبكّرة على صياغة القصيدة، وتتحدد طبيعة البنية الفنّية للدّيوان بالوصف، حيث يجعل الشّاعر المكان محوره الدّلالي الأوّل ليكتسب في نصّه الشّعريّ أهمّية كبيرة ويحمل رؤآه، ويشار إلى أنّ الدّيوان يتوزّع على خمس عشرة قصيدة، وعنوان الدّيوان لم يقع في الاعتباطيّة أو المجانيّة في تصوّري، إلى جانب كونه مختارًا من قصيدة عسقلان في الذّاكرة، والقصيدة ذاتها تحتل المرتبة السّابعة في تِعداد القصائد، والرّقم سبعة له خصوصيّة وقدسيّة ورمزيّة، والعنوان كما نرى يمثّل إحالة على المكان، ويحمل دلالة تاريخيّة، ويستدعي الذّاكرة، وهذا ما ينعكس تمامًا في النّصوص الشّعرية، ونأخذ بهذا الصّدد قصيدة “قراءة في ذاكرة الوطن”، وقد أشار الشّاعر داخل مزدوجين إلى الفارس، حيث يقول:
أنْ تكتبَ فوقَ صخورِ الكرملِ،
آيةَ حُبّكْ.
أنْ ترسمَ فوقَ روابي بيسانَ الثّكلى
معبد عِشقكْ
أنْ تزرعَ فوقَ الشّمس،
وفوقَ النّار،
وفوقَ الأرض،
روائعَ مجدكْ.
يشكّل الوطن المتمثّل بفلسطين مرتكزًا مكانيًّا حساسًا، يتكرر كثيرًا في نصوص محمود الشّلبي الشّعرية، انطلاقًا من ثنائيّة الوطن والمنفى، خصوصًا إذا ما علمنا أنّ الشّاعر كغيره من الفلسطينيين تعرّضوا للتهجير والاقتلاع القسري من أرضهم، إذ يقول متسائلاً في قصيدة موسومة بعنوان الجراح تكبر في المنفى:
مَنْ يمنحني وجهي المسروق ويأتي؟
مَنْ يزرعني في حضنِ بلادي،
نبتةً برّيةْ؟
مَنْ ينقشني في أسواركِ وشمًا
للوعدِ الآتي؟
قطعة خزفٍ أبديّة.
أحبّ الشّلبي الوطن وفلسطين في أشعاره، وانجذب إلى القضيّة الفلسطينيّة برباطٍ متين، ورغم بعده عن فلسطبن وقريته دنّا تحديدًا، إلا أنّها كانت حاضرة في ذاكرته ووجدانه وأشعاره، لتأتي القرية دنّا في قصيدة عسقلان في الذّاكرة كمكانٍ حميمٍ مصاحبًا لحسّ الشوق والحنين، يقول:
دَنّا تكبرُ في ذاكرتي جُرحًا أخضرَ
فوقَ السّاعدْ.
صَوتًا يتهادى
حزنًا.. وجهًا يحتلُّ الأفق الغربيّ،
وقلبًا يتوالدُ،
في الرّحم الواعدْ.
إنّ فلسطين من منطوق النصوص الشّعرية تمثّل المكان المركزي والمؤثر والمحرّك الفاعل في نصوص محمود الشلبي، كما ويمثّل فعلًا ثوريًّا استنهاضيًا، حيث يقول في قصيدة موسومة بعنوان للبحر ذاكرة والصّوت للقتيل:
يا أيّها الوطنُ الكبيرُ،
وأيّها الوطنُ الصّغيرُ.
بيروت في المنفى، ويافا في الضّمير
يا أيّها الوطن المشرّدُ، والمعذّب، والقتيلْ
بيروت في المنفى، وعصفورٌ يموت
على الجليلْ.
والصّوت، والأحلام، والدّم..
والحناجرُ في الخليلْ.
يتداعى المكان الفلسطيني في شعر محمود الشّلبي من خلال استحضار المرأة، لتمثّل المرأة الرّمز معادلًا موضوعيًّا وفنيا عن الوطن، إذ يقول في قصيدة نافذة للحضور الجميل:
مثقلٌ بالأريجِ المهرّب من حقلنا
في الجليلْ.
أنتِ.. من أين جئتِ؟
اسكني ساحلي مرّة،
واسكني مرّة في كروم الخليلْ.
إيهِ يا امرأةً آلفت بين حلمي الجميلْ
وموتي الجميلْ
انزعي القشرةَ الثّانيةْ.
وادخلي حرمي المستحيلْ.
إنّ إدخال الشّاعر لأماكن فلسطينية كثيرة في نصوصه الشّعرية كالكرمل، وبيسان، والجليل، والخليل وعسقلان، ويافا، وغيرها، يدل في التّحليل الأدبي والنّقدي على حيوية المكان وحضوره الطّاغي في الذّاكرة والتّعلق الشّديد بالوطن إلى حدّ التّلبس والالتصاق.
بالنّتيجة، يشكّل المكان مصدرًا من مصادر إلهام الشّاعر والثّراء الوجداني والحسّي في شعر محمود الشّلبي، وله أثرٌ كبير في رفد الصّورة الفنّية. كما يعدّ المكان لا سيّما الفلسطيني من أكثر المفردات إضاءةً ووضوحًا وإلحاحًا في ديوان عسقلان في الذّاكرة، واشتغل المكان في نصوص الشّاعر عبر استدعاء المخيّلة التّذكرية بحيث تفيض بالشوق والحنين للوطن فلسطين. وأخيرًا، فإنّ المقالة لم تتناول المكان في شعر محمود الشّلبي بالتّفصيل، بقدر ما ألقت نظرة عامة وشاملة؛ لأنّ محدوديّة المقال لا يسمح لعرض كلّ الأماكن.
ــــــــــــــــــــــــ
● إحالات
(1) انظر، شعر محمود الشلبي: دراسة أسلوبية، رشا حجازين، 2005م، رسالة ماجستير، جامعة مؤتة، ص 3.
(2) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014م، منشورات وزارة الثقافة، ص 276.
(3) عبد الرحيم محمود، شاعرًا ومناضلاً: محمود الشلبي، ط1 ـ 1984م، مطبعة الخالدي، عمّان.
(4) الأعمال الشّعرية: محمود الشّلبي، ط1 ـ 2007م، جامعة البلقاء التطبيقية، السلط.