لصحيفة آفاق حرة
كتب :علي أحمد عبده قاسم. اليمن.
لا نعني بتعدُّد الأصوات تلك الرُّؤى المُتردِّدة في السَّرد بشكل واحد، ونمط واحد، وإنَّما هي الاحترافيّة في التقنيَّة السرديَّة المُتعدِّدة، والتي تطرحُ وجهات نظَرٍ مُختلفةٍ؛ بِلُغة تنِمُّ عن الوعي، والعُمق بحيث تسبر أغوار الشخصيِّات، ورُؤاها، وتوجُّهاتها، وصراعاتها، وتناقُضاتها؛ لترسم واقعًا مُعيَّنًا، وليس من منظور أُحاديٍّ.
ولو تأمَّلنا نصَّ الروائيِّ “محمد فتحي المقداد” ((تبادلات))؛ فهو يتمتَّع بتعدُّد؛ لأنّه يُظهِر وُجهات نظرٍ مختلفةٍ؛ باحترافيَّة، ودون تسلُّط من الرَّاوي، لإظهار وجهة نظر أُحاديَّة، بل الرَّاوي ينقلُ المشاهد، والصِّراعات، والاختلافات بعيدًا عن رُؤيته الأُحاديَّة .
ففي المقطع الأوَّل: يجعل من الرَّصيف المكان التي تدور به الأحداث، شخصيَّة. وكأنَّ صمت الرَّصيف؛ مُقابلٌ متوائمٌ مع الشخصيَّة، وذائب فيها((تبادلات.. ما بالُ الرّصيف راسِلٌ صمته المُريب، لم يَبُح بما حصل في آخر اللَّيل، أو في الصَّباح الباكر، وعند المساء. يتساءل سِرًّا عن ذلك الرّجل الذي يحتلّ زاويته المعهودة منذ أشهر عديدة بجانب عمود الكهرباء)).
فرؤية الرَّصيف جاءت: ((راسِلٌ صمتَهُ ، لم يَبُح ، يتساءل سِرًّا))، وهذا استنطاق للرؤية من الدَّاخل، ومُناقشة بعُمقٍ حول قضيَّة هي الشَكّ والرِّيبة. والجمال في النصِّ أنَّه: جاء بين حَكْيٍ للحَدَث، وبين الحِوار التي يستنطقُ أعماق الصَّمْت، والمكان تحوَّل لشخصيَّة؛ فتعدُّد الأصوات فيه حواريَّة عميقة؛ لينتقل من ضمير الغائب المُفرَد، إلى السَّرد بضمير الغائب، وأيضًا بالجمع. والسَّارد لا دَخَل له؛ ليُرسِل وجهة نظر أخرى((قالوا: إنّ سُكّان الشُّقَق في العمارة في الجهة الأخرى المُقابلة له، مُتوجّسون بِطُروئه على المكان، شكوكٌ أحاطته بهالةِ تأويلاتهم الصَابَّة في اتِّجاه وحيد)).
الانتقال من المكان الضيِّق، والمفتوح الرَّصيف، إلى العمارة، واللُّغة السرديَّة إشاريَّة تلميحيَّة ((مُتوَجِّسون بطروئه على المكان، أحاطته بهالة تأويلاتهم الصابَّة في اتِّجاهٍ واحد))، السَّرد هنا يسبر أعماق البُسطاء، وفي سُخرية، ومصداقيَّ؛ة فكانت الرُّؤية حول الشخصيَّة، كما يقول العوَامُّ: إنَّه فُلانٌ، وذا مركز كبير، وأحيانًا قد يوصف بالمجنون.
الرُّؤية ترسم واقعًا مُستبدًّا، وخوفًا اجتماعيًّا؛ لينقل السَّرد إلى الوصف الرمزيِّ؛ ليشدَّ انتباه المُتلقِّي أكثر((شكلُه مُنبِئٌ عن خفايا لا تزيدُها ملابسه الرثَّة إلّا تأكيدَ وظيفته القائمة بجانب عمود الكهرباء، لم تنفعه ابتساماته المُصطنعة لفتح خطوط التواصل مع مُحيطه. عيناه تُوَصْوِصان على العابرين للطريق، ولم تنسيا جواره المقصود))
أحيانًا أضحكتني طريقة السَّرد الجميل لرؤية العامَّة؛ ليأتي برؤية جديدة. هي رُؤية الصحفيِّ، والذي يتعامل بطريقة مُختلفة، وكأنَّما كانت تلك الشخصيَّة رسالة لذلك الصحفيِّ الشَّهير، والذي رَفَع قُبعته لحكّ صلعته، ظنّ الرّجل أنّه يُحييه: ((الصحفيّ الشّهير صاحب الزّاوية اليوميّة في الصفحة الأخيرة من الجريدة الحكوميّة، وعلى غير عادته بالخُروج والدُّخول إلى شُقَّته، وقف أثناء عودته أمام باب العمارة؛ كأنّهُ تذكّر شيئًا من وصايا زوجته لشراء بعض الأغراض الضروريّة.
الرّجلُ مُتّكئٌ على العمود بوضعيّةٍ موحيةٍ بتعبه، لكنّه لم يبرَح مكانه منذ الصّباح. لاحظ الصحفيّ ذلك، يبدو أنّه تذكّر أمرًا ما، بينما امتدّت يدُهُ اليُسرى لرفع قُبّعتِه رمزه الذي لا يُفارقه على الدوام، ابتهج الرّجل من الجانب المُقابل على الرّصيف. أرسل ابتساماته من جديد، ورفع يده بردّ التحيّة)).
لتأتي وجهة نظر الأخير، وهي باستمرار، ويشهد على ذلك عمود الكهرباء، لما لعمود الكهرباء من رمزيَّة؛ فاستمرار الرَّجل بالمكوث بجانب عمود الكهرباء، فيها رمزية عالية وخفيَّة. من ذلك يمكن أن نستخلص مايلي:
– في النصِّ وُجهات نظر مختلفة من رؤية الرَّاوي إلى رُؤية العامَّة، إلى رُؤية الشخصيَّة المُغيَّبة خلف شخصيّة الرّجل، التي لا تفارق عمود الكهرباء .
– اللُّغة السرديَّة عالية الرمزيَّة، وكلّ سطر وجملة منتقى بدقَّة.
– لم تأت الرُّؤى من منظور أُحادٍّي، بل ناقشت، ونقلت الواقع، بل تعدَّدت بعيدًا عن رؤية الرَّاوي.
– كان الاستنطاق، والسبر للأعماق الواقعيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة، والتي رسم النصُّ العلاقات المتنافرة، وصراع الأفكار بين الشخصيَّات وفي الأمكنة.
– حريَّة الشخصيَّات في تناول وُجهات نظرها؛ لتعكس السَّرد الواقع الاجتماعيِّ، وواقع الحريات.
– سيطر الوصف، ولم يكن وصفًا للاستراحة، بل وصفًا رامزًا وذا وظيفة دلاليَّة.
– التعدُّديَّة الحواريَّة على لسان الرَّاوي الرَّقيب، الذي لا يتدخَّل بالأحداث، وسيرورتها بل نقل ذلك بأسلوب جاذب ومتسلسل.
– يُعدُّ النصُّ أقصوصة عميقة، فيه: التركيز، والسَّرد المُدهش، الذي يفضي لنهاية صادمة.
– التحوُّلات في مُحاولة أنسنة الأشياء: فالمكان الرَّصيف، تحوَّل إلى شخصيَّة، وعمود الكهرباء شخصيَّة، وتلك وجهة نظر سرديَّة رمزيَّة، وتحوَّل المكان المستقِر إلى مُضطرب، بسبب تلك الشخصيَّة المؤنسنة.
– العنوان محترف، ومُختَزِل لمضامين ورسالة النص؛ فالتبادلات الفكريَّة، والتراسلات السرديَّة متنافرة ومتناقضة، وتلك هي الأصوات الأديولوجيَّة في النصِّ، التي تعكس واقعًا للصِّراع، وصورة للبسطاء.
– جاءت صورة العوامِّ بضمير، هم بالكثرة، وصورة الصحفيِّ، وشخصيَّة الرَّصيف هو؛ فالكثرة في كثير من الأحيان مُضلِّلة.