لصجيفة آفاق حرة:-
تقديم
بقلم الروائي: محمد فتحي المقداد. سوريا
لم يكن التّاريخ إلّا سجلًّا ناصعًا وثّق صانعيه، وليس صحيحًا أنّه يُكتَب فقط على أبواب الملوك والأمراء والقادة، ولا هم وحدهم صانعوه، بل هو تركة مشتركة ساهمت فيه جميع فئات المجتمع.
وللحقيقة فإنّ معظم المؤرّخين قديمًا لم ينتبهوا لفئات المجتمع كافَّة، جهلًا أم تجاهُلًا منهم، فكلّ ما نقرأ الآن من مواد تاريخية، ما هي إلا تكريس لفكرة القائد صانع النَّصر والأمجاد. بينما الجنود لا يُذكرون ولو بكلمة واحدة، لذرّ الرماد في العيون. رغم أنَّهم حملوا السِّلاح وقاتلوا في الميادين، مُضحِّين بأنفسهم، باذلين أرواحهم رخيصة في سبيل مبدئهم المُفتَدى.
وفي العصر الحديث انتبه المؤرِّخون للتاريخ الشعبيِّ الذي لم يُكتَب من قبل، ومنهم المُؤرِّخ. “د. قاسم عبده قاسم” من مصر. وفي كتابه “إعادة قراءة التاريخ” سطّر وأطلق فيه تأمّلاته حول القراءة الشعبيّة والدينيّة والروائيّة والسينمائيّة للتاريخ، بل ورؤية الآخر من خلال التاريخ؛ تنظيرًا وتطبيقًا، وقد كان بصيرًا بأنَّ التاريخ -إنتاجًا وقراءةً- لا يمكن أن يخضع لقراءة واحدة أبدًا.
وبهذا المفهوم يكون التَّاريخ ليس حكرًا على الحروب والانتصارات و الانكسارات، بل إن جميع مجالات الحياة يجب تدوينها وتوثيقها لأنَّها جزءٌ لا يتجزَّأ، ومادَّة أصيلة من موادِّ التَّاريخ.
ومن ذلك المنحى هذا البحث الذي بين أيدينا “الفلسفة والطبُّ في الفكر العربيِّ الإسلاميِّ” للباحثة “إيمان الباعوش” من المملكة المغربيَّة. حيث اختارت نموذجًا لهذا العنوان “موفق الدين عبداللطيف البغدادي” من علماء ومؤرِّخي القرن الثالث الهجريِّ. أيَّام الدولة العباسيَّة. فتقول الباحثة في مقدّمة بحثها:
(فبحثنا المعنون بالفلسفة والطب في الفكر العربي الإسلامي، وتحديدا فترة القرن الثالث عشر، أي ما بعد موت الفيلسوف ابن رشد وحكاية أن الفلسفة والعلوم دخلت عصر الانحطاط، ليأتي تلامذته من بعده، ومن أهمهم: البغدادي وابن طملوس، وغيرها من الأسماء الأخرى ذكرها الدكتور محمد بن شريفة في كتابه ابن رشد الحفيد)، وبذلك تتَّضح هويَّة ووجهة البحث بشكل دقيق.
وبالتوقُّف في رحاب عتبة العنوان المُفصِحَة عن مسار الدِّراسة التتبعيّة لتاريخ الطبِّ الذي تتجاذبه الفلسفة قديمًا؛ لنجد أنفسنا نُفكِّر في الرَّابط النَّاظم للموضوعين المتباعدين ظاهرًا. لكن لو عدنا للمنطلق اللَّغويِّ، وعرفنا أنَّ المدلول الحقيقيِّ للفلسفة هو “الحكمة”، والفيلسوفُ حكيمٌ، والطبّ هو تحكيم، والطبيب حكيمٌ، فمن الممكن أن يكون الفيلسوف خبيرًا بتطبيب الأمراض والأوجاع وطرائق معالجتها، وقادر على توصيف حالات وتحوُّلات المرض، وبذلك يكون طبيبًا. ومن هنا يمكننا القول بأنّ: “كلّ فيسلوف طبيب، وليس كلّ طبيب فيسلوف”، وكل فيلسوف حكيم، وهو ما كان مصداقًا للآية الكريمة: (ومن أوتي الحكمة؛ فقد أوتي خيرًا كثيرًا).
البحث في حقيقته تاريخيٌّ فصَّل العلاقة بداية بين الفلسفة والطبِّ، وتطوُّر العلاقة لمستويات ممارسة الفلاسفة لطبِّ الأرواح والنُّفوس، وهذا ما يُعبَر عنه عادة بالمفهوم المعنويِّ، ومن ثمَّ للانتقال إلى المرحلة الماديّة في معالجة الأبدان.
وبعد عصر الفتوحات الإسلاميَّة للبلدان والأمصار، تتجلَّى قمَّة التجاذب الحضاريِّ بين المسلمين، والأمم الأخرى بالتأثُّر والتأثير. الجوار يفرض شروطه بالقوَّة على الطَّرفين، فمن المستحيل فرض جدران العزلة والتقوقع في وجه الفعل الحضاريِّ، الذي يفرض نفسه بقوَّة حضارته الدَّافعة لنتاجاته وأسبابها للآخر في الجوار.
وجاء البحث تأصيلًا لهذه العلاقة، وهو ما أثبته بمقاربات للمادَّة التاريخيَّة المتناثرة في بطون الكتب القديمة والحديثة، والجهد كبير الذي قامت به الباحثة، وأحسنت في صنع مادَّتها التأريخيَّة، وهي تتشابه في بعض جوانب بحثها مع المستشرقة الألمانيّة “زيغريد هونكة” التي ذكرت في كتابها الشهير “شمس العرب تسطع على الغرب” جوانب من الفعل الحضاريّ العربيِّ الإسلاميِّ، وكذلك مع المفكر “رفاعة الطهطاوي”، الذَّاهب من الشَّرق من مصر إلى فرنسا للدِّراسة، فكان رسول الشَّرق إلى الشَّرق بكتابه “تلخيص الإبريز في تلخيص باريز”، بما نقل ووصف كثيرا من مشاهداته وملاحظاته في حياة الفرنسيِّين، بنيَّة أن التحفيز لتصبح مصر حديثة ومُتقدِّمة، والكتاب يُصنَّف في أدب الرَّحلات، لكنَّه جاء على وصف المستشفيات والوضع الصحيِّ والطبيِّ في مواضع منه، وبشكل دقيق حاذق.