الهجاء غرض شعريّ قديم قِدَم الشعر، ويُعنَى هذا الغرض الشعري بذكر مثالب المهجو وإظهاره في أبشع صورة، من خلال نسبة المساوئ إليه، وتجريده من المحاسن، وقد يكون الشاعر صادقًا في ذلك وقد يكون مبالِغًا بدرجةٍ ما، وأحيانًا يكون شعر الهجاء مقياسًا للقدرات الشعرية، إذْ ليس كل شاعر يكون متمكنًّا من نظم شعر الهجاء، كما يكون الهجاء أكثر تأثيرًا إذا اشتمل على معاني أخرى، كأن يجمع الشاعر بين الهجاء والفخر مثلًا أو بين الهجاء والحكمة.
والهجاء ما زال منتشرًا الآن في عصرنا الحالي، وقد انتقل إلى أجناس أدبية أخرى كالمسرح والرواية والقصة، وما زال معروفًا في الشعر أيضًا ومنتشرًا عند كثيرٍ من الشعراء المعاصرين، ونعرِض في هذا المقال لشعر الهجاء عند الشاعر والناقد المصري حسن الحضري، حيث نلاحظ في شعره (تلازمية الحكمة والهجاء)، بمعنى أن أشعار الهجاء عنده تجمع بين الهجاء والحكمة؛ أحيانًا يكون ذلك من خلال الانتقال من معنى إلى آخر، وأحيانًا من خلال ازدواجية المعنى في البيت الواحد وربما في الشطر الواحد أيضًا كما سنرى في السطور الآتية.
والشاعر حسن الحضري من مواليد محافظة المنيا بمصر، تخرَّج في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، واشتغل بمجال البحث العلمي وتحقيق التراث، صدرت له حتى الآن ثمانية دواوين وعدة مؤلفات أخرى في النقد الأدبي وفي علم العروض، وله دراسات وأبحاث أدبية وتراثية منشورة في بعض المجلات العلمية والثقافية.
والهجاء في شعر حسن الحضري قليل، فلم يُفرد قصائد خاصة بالهجاء إلا قصائد قليلة، لكنه هجاء موجع شديد القسوة؛ لأنه صادق غير مصطنَع، كما أنه في الغالب يأتي مقرونًا بالحكمة، فالحكمة والهجاء متلازمان في شعر حسن الحضري بشكلٍ يؤكد أنه محقٌّ وغير معتدٍ في ذلك الهجاء، ومن شعره في الهجاء قصيدة (في هجاء شيخٍ كذوبٍ)، التي تبلغ خمسة عشر بيتًا، يبدؤها ببيتٍ يتضمن الهجاء والحكمة معًا، يقول:
عجبتُ لشيخٍ أرسل الموتُ سهمَه***إليه وما زال النفاقُ يغالبُهْ
فهذا البيت يجمع بين الهجاء (الوصف بالنفاق) وبين الحكمة (استنكار وقوع ذلك النفاق من الشيخ الكبير الطاعن في السِّن)، ثم يقول الحضري في البيت الثاني كأنه يقدِّم النصيحة لذلك الشيخ الكذوب:
ألا يستحِي من ربِّه أو يقودُه***إلى رُشده خوفٌ لديه يطالبُهْ
فهو ينصحه بالحياء من الله والعودة إلى رشده، وذلك في صورة أسلوب استفهام استنكاري يحمل في طياته معاني السخرية، ولمَّا كان النفاق من ذلك الشيخ المهجو أمرًا عجيبًا؛ دعا عليه الشاعر بعجائب الشَّر فقال:
عليه من الرحمن ما يستحقُّه***وحاقَ به مِن كلِّ شرٍّ عجائبُهْ
ثم أخذ يذكر مثالبه بأسلوب استفهام استنكاري ممزوج بالهجاء المقذع فقال:
أتَشهدُ زُورًا كي تُطعَّمَ لُقْمةً***وتُروَى شرابَ الذُّلِّ إذْ أنتَ شاربُهْ
ثم عاد الشاعر إلى سرد الحكمة من جديد في أبياتٍ متتالية قال فيها:
ستُجزَى بهذا حين تُبعثُ مفردًا***وقد خاب مَن ضلَّت لديه مطالبُهْ
وإنَّ جزاء الشرِّ شرٌّ لمن يرى***فدع عنكَ وغْدًا ليس يؤمَنُ جانبُهْ
ستندمُ لو يُغْنِي التندُّمُ أهلَه***وتعلم أنَّ السوء ساءت عواقبُهْ
وكلُّ سبيلٍ للغواية منقضٍ***بآيةِ شرٍّ ينثني منه صاحبُهْ
وهي أبيات تحمل الحكمة وتنطوي على رسائل التحذير، كأنَّ الشاعر يحذِّر المهجو ويخوِّفه سوء عاقبة ما يفعل من شر، ولما فرغ من رسائل التحذير عادة مرة أخرى إلى الهجاء، كأنه يريد أن يوضح أن تلك المحاذير موجودة في ذلك المهجو، فقال:
وأنتَ امرؤٌ في الشرِّ يسبق أهلَه***وفي الخير مفقودٌ تطول مثالبُهْ
وأنتَ امرؤٌ لا شيء يذكرُه إذا***تفاخَرَ بالتذكار في الأمر غائبُهْ
بعيدٌ عن التوفيق أنتَ موكَّلٌ***بكَ الخزيُ حين الخزيُ ترنو مخالبُهْ
وتلهثُ مثل الكلب لا مِن حِمالةٍ***عليه ولكنْ عادة لا تجانبُهْ
وندعوكَ للحقِّ المبين فتبتغي***سواه سبيلًا سوف يَهلك راكبُهْ
ألم ترَ أنَّ الله أولاكَ ذلَّةً***تبوءُ بها في كلِّ أمرٍ تقاربُهْ
فدع عنكَ فِعلَ الخير لا تَقْرَبَنَّه***وكن مثلما أنتَ الذي لا يواكبُهْ
وفي البيت الأخير قسوة شديدة التقريع والسخرية، تعادل شدة قبح الصفات التي يتصف بها المهجو وسوء أفعاله الناتجة عن النفاق الذي وصفه به الشاعر في أول أبيات هذه القصيدة.
وفي قصيدة أخرى جعلها الشاعر في هجاء منكري السُّنَّة النبوية، وبلغ عدد أبياتها ستَّة وعشرين بيتًا، يبدؤها الشاعر ببيتٍ شبيهٍ ببداية القصيدة السابقة، حيث يجمع بين الهجاء والحكمة في أسلوب سخرية يبدؤه بالتعجب من حالهم فيقول:
عجبتُ لقومٍ أطلقوا سهمَ مكرِهم***ولمْ تُغنِهم ممَّن مَضَوْا كلُّ عِبرةِ
يهجوهم الشاعر فيصفهم بالمكر، متعجبًا من عدم امتثالهم للحكمة التي فاتتهم؛ وهي الاعتبار بمن سبق، ممن أرادوا الفساد فأهلكهم الله؛ ثم يذكر الحضري سبب هجائه إياهم فيذكر أنهم:
يداهنُ منهم كلُّ وَغْدٍ بلُؤْمِه***لإطفاءِ نورٍ أو لإشعالِ فتنةِ
ثم يخص زعيمهم أو كبير تلك الفئة التي يهجوها، محذرًا إياهم من سوء عاقبتهم:
سعَى (صالحٌ) لا أصلَحَ اللهُ سعيَه***لإنكارِ حقٍّ مِن كتابٍ وسُنَّةِ
فعمَّا قريبٍ يلتقي الموتَ دونها***ويصبحُ منها في هوانٍ وذِلَّةِ
ثم يصفهم بأنهم أتباع إبليس، وأن الله تعالى يمدُّهم ويملي لهم لحكمةٍ عنده، وأنهم أنفسهم يعلمون ذلك، ثم يقول عن تركِهم السنة النبوية المطهرة:
فما قَدَرُوا رَبَّ البرِيَّةِ حقَّه***ولا عرَفوا فَضْلَ النبيِّ لِلَحظةِ
ومَن يَعْشُ عن ذِكر الإله يكنْ له***قرينٌ من الشيطان يُدْلي بخطَّةِ
فما السُّنَّةُ الغرَّاءُ إلا بوحيِه***وليس يُنالُ البرُّ إلا بهمَّةِ
يقول: إنَّ زعمهم أنهم يتَّبعون القرآن الكريم، مع هجرهم السنة النبوية؛ يكشف أنهم لا يطيعون الله تعالى ولا يعرفون فضل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سُنة النبي هي في الأصل من وحي الله تعالى، لذلك يستنكر الشاعر عليهم سوء فعلهم فيقول بعد أبياتٍ أخرى:
أتنكِرُ مِن هَدْيِ النبيِّ حديثَه***وتَهذي بِزعمٍ قاطعٍ للمودَّةِ
فَمَنْ بيَّن الآياتِ مِن وحيِ ربِّه***ومَن قام يجلو كلَّ شكٍّ ورِيبةِ
ألستَ بمأمورٍ بطاعة أمرِه***مِنَ اللهِ فاحذر كلَّ حَيْدٍ ورِدَّةِ
وقلْ لرسولِ اللهِ سمعًا وطاعةً***ودَعْ عنكَ هذا الزَّيْغَ تظفَرْ برحمةِ
ثم يأتي حسن الحضري بمعنى طريف في هذا السياق، في قوله:
فإنْ تنكِروا هَدْيَ النبيِّ فإنما***هو النُّكْرُ للقرآن مِن كلِّ وجْهةِ
فسمَّاهم (النُّكرانيِّين) نسبةً إلى نكرانهم سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تسمية جديرة بهم ومشتقة من فعلِهم، ثم يختم الحضري قصيدته بإقامة الحجة عليهم فيقول:
دعوناكُمُ للحقِّ والحقُّ واضحٌ***وليس وراء النورِ غيرُ الدُّجُنَّةِ
وأحيانًا يقسو حسن الحضري على المهجو أو المهجوِّين كما نرى في قوله:
ولقد دعوتُ على كلابٍ لم تزل***أهواؤهم تصبو إلى الطغيانِ
كانوا عبيدي فاستحالوا قادةً***والأصلُ يطغى في بني الإنسانِ
وهو كما يهجوهم ويذكر دناءة أصلهم؛ نجده في المقابل يذكر اعتزازه هو بأصله وشرف نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما نرى في قوله:
إني امرؤٌ من آل أحمدَ ماجدٌ***لا تاركٌ ثأري ولا متضعضعُ
ولكلِّ أمرٍ ساعةٌ تُوفِي به***في يُسره وإلى الإله المَفزعُ
ونجد أنه حتى في هجائه المقذع لا يفوته ذكر الحكمة، كقوله:
إن الوزارة مهما بِتِّ عالقةً***بها تزول كأنَّ الأمر ما كانا
وليس ينفع يوم السُّؤْل مِن ندم***ولا يبدِّل بعد السوء إحسانا
فالبيت الثاني ظاهره الحكمة فقط لا غير، لكنه ينطوي على التهديد، ويمكن التأكد من ذلك من خلال بيتين آخرين في المهجوَّة ذاتها لم تتغير، يقول:
هذي الوزيرةُ كانت قبلُ جاريتي***وكان آباؤها عُبَّادَ آبائي
فاليوم إن غرَّها دهرٌ وأسعدَها***فسوف يرجع ماضٍ ليس بالنَّائي
ونجد أن البيت الثاني أيضًا يفيض بالحكمة، وهكذا تتلازم الحكمة والهجاء في ثنائيةٍ شبه دائمًا في أشعار الهجاء عند الشاعر حسن الحضري.
المصادر:
- ديوان بردة الأشواق، حسن عبد الفتاح الحضري، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2018م.
- ديوان فلا تعتب عليهم، حسن عبد الفتاح الحضري، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2017م.