بقلم:خالد الضُبببي(اليمن)
التجارب الشعرية المميزة تؤطر نفسها بنفسها، وتقدم رؤاها بشكل تلقائي، لذلك تتماهى أغلب التجارب بين ما يقدم الشاعر من هطول وانصباب شعريّ تلقائي وبين ما يحاول تركيبه ونسجه من نسيج شعوري يعبر به عن رؤيته ونظرته الخاصة. لذلك ومن أجل تقديم تجربته الإبداعية بشكل واضح يبحث الشاعر عن النص الذي يخلّد أفكاره، النص السرمدي الأزلي، الذي يعيش في ذاكرة القارئ، ومن أجل كل هذا ينهل من اللغة المفردات التي تناسب خطابه و لغته وثقافته الذاتية، وما يناسب ذلك النزوح والهطول الذي ينهجه. وغالبا ما تتحكم خلفيته المعرفية والثقافية وبيئته الحاضنة بما يقدمه من بوح وما يطلقه من نشيج.
في ثلاثيّة الدكتور مختار محرم ( ضجيج على قارعة الصمت – على حافة الحلم – أضغاث أشجان ) يسيرُ الشاعر بمستوى متسّق مع تجربته الإبداعية ، ويصّرح منذ البداية عن همومه الشعورية التي تدفع به إلى تبنيّها والتماهي معها ، يجمع بين عدّة موضوعات يأتي على رأسها همّ واحد وهو الغُربة بمفهومها المفتوح الإغتراب عن الوطن عن الواقع الجميل ، وينعكس ذلك القلق الذاتي الوجودي في أغلفة مجموعاته الثلاث التي تأتي باللون الرمادي القاتم لون الحيرة والتية، إلى جانب العناوين التي تحقق ذلك القلق العام، ضجيج على قارعة الصمت وعلى حافة الحلم وأضغاث أشجان، رؤية حائرة في مسيرة شعرية ذاتية، يحاول من خلالها مواصلة ذلك التذويت الذاتي الذي يبدأ ذاتياً بشكل عام ، ورغم الذاتية والشعورية الطافحة على أغلب نصوص الإصدارات الثلاثة إلا أنه يخلّل ذلك النزوح الذاتيّ الشعري المتماهي مع أوزان الخليل والتفعيلة ويناقش موضوعات داخل الرؤية العامة قد تدور بنفس القلق والهمّ العام وبشكل مختلف ، فيحضر الوطن – الحب – الشعر – الغربة – الماضي الملون والحاضر المضبّب في عناوين قصائده وبين صفحات إصداراته ، وهذه الذاتية التي يبوح من خلالها في إصداراته تنضج بشكل تلقائي مع الوقت، فنراها ذاتيه مُطلقة في الإصدار الأول، ونراها ذاتيه ممزوجة بهمّ عام في الإصدار الثاني ونراها ذاتية متطورة ناضجة مكتملة في الإصدار الثالث.
ولأن التجارب المحكمة الواضحة يجب أن تكون على نمط واحد، بلور الشاعر نصوصه وكورها في دائرة واحدة، دائرة شاعرية ظلت في تطور مستمر، وهذا إن دل لا يّدل إلا على أن هذا الشاعر رغم تمسّكه بأسلوب بوحه الوجداني الذاتي، يقوم بتجويد اشتغاله النصيّ من إصدار إلى آخر، بشكل مدروس، وإن لم يصرح بذلك أو يعترف به، تتطور الرؤية وتتضح مع الوقت من إصدار إلى آخر، حتى بات قادرا على التحليق بسلاسة في فضاء النصّ بكل سهولة وتمكن في آخر مجموعة من الظهور والسطوع بكل جدية، مع ملاحظة أنه بات يستطيع الخروج في بعض النصوص من النظرة السلبية القلقة المهموم بشكل متواصل مع الموضوعات إلى النظرة الإيجابية الهائمة المتصالحة مع الوجود، يمسك بتلابيب النص ويحركه بكل سلاسة كيفما شاء..
بالنسبة للموضوعات التي يقدمها الشاعر، أحتل الشجون والشوق والغربة والحب أغلب نصوص تجربته الآبداعية في الإصدارات الثلاث، ثمّ يليه الهمّ العام ” الوطن ” الرؤية للحاضر والماضي بفراسة خاصة وقراءة واقعية.
إن أيّ تجربة إبداعية يجب أن تقدم للشاعر في كل إصدار تمّدد أفقي في فضاء النصّ مع صعود عمودي في مستوى الصنعة ، ولكن هناك تجارب يأسرها الموضوع فنراها تعمل بنفس المستوى الفكريّ ولا تخرج من الهمّ الشعري الملتصق بالشخصية نفسها ، ذلك الهمّ الذي يحمله الشاعر بين جنبيه معبراً به عن اشتغال شخصيّ خاص ، لهذا نرى التجربة مُلتصقة بالأسلوب والرؤية ، وربما الموضوع أيضاً.
إنّ تجربة الشاعر الدكتور [ مّختار محرم ] تجربة ذاتية مُتمكنة، يعكس من خلالها رؤى ذاتية بأسلوب شعريّ على نظام بحور الخليل أو النص الحر أو التدورير السلس للنص، وهذا الإختزال الشعوريّ الشاعري المنغم الحزين الممتلئ بالشجن واللهف والحلم والحب، يتم توظيفه في كل نص بشكل يتوافق مع الشكل والأسلوب..
ولأن الهم العام يختزله في مفهوم البعد والإغتراب كونه يعيش في الغُربة ، يُعاني كأيّ مبدع يعيش خارج دائرته بفراغ ووحدة وشوق فيظلّ يدور حوله بشكل مستمر.
قمر شعري يجد في الشعر مُتنفس وحيد للبوح بنوازع الفقدِ العام ، ورغم أن تجربته الشعريّة كما يقول متوقفة، فقد قطع شوطاً كبيراً يجعله في أيّ لحظة يعيد احياء هذا الزخم الشعوري المائز، ويعبر بذاته إلى فضاء النص المختلف المعبر عن كينونته وتجربته المميزة في أي لحظة..
يجب الإشارة أيضاً إلى أنّ الشاعر في مجموعاته الثلاث يُطّعم نصوصه بالسياقات الحديثة والقديمة، وهكذا تتماوج النصوص وتتشكل، بين ماهو حاضر واقع وبين ماهو ماضي غابر وبين مايحاول النظر اليه بعيون الشاعر الرائي، وتتنوع الأحداث بين الحِكم والشخصيّات التاريخية والمعالم ،ويخرج الخِطاب من الخاص العام دائما ، ويحضر فيه الهمّ العربيّ والواقع الحاضر ومتغيراته، وهذا الإشتغال يُثبت موسوعيّة واطلاع الشاعر ومستوى ثقافته الشعريّة، والأدبية التي يقوم بتوظيفها بشكل سلس جداً، وفي نفس الرؤية الوجدانية بشكل تلقائي وبين ماهو هم كوني ذاتي يقيد نفسه به بشكل تخيلي.
أتمنى التوفيق للدكتور مُختار محرم في أعماله القادمة وأتمنى من النقّاد الإقتراب بجديّة من هذا الصوت، وغيره من الأصوات التي تولد في فضاء مغاير مختلف، وتظل ترسل ومضاتها وإشاراتها وتقديم مشاركاتها الإبداعية في الغربة ، فينعكس على تجربتها الإبداعية ما يجعلها تُقدم إنتاجات تستحق القراءة والتوجيه والنقد والتشجيع والدعم ..
ملحوظة : لا تُعد هذه الإشارة سوى عبور ذاتيّ طفيف على إبداع هذا القمر المُغترب الذي يدور حول الوطن من مكانه ، بأسلوبه ولغته ورؤيته الخاصّة .
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية