الشعرُ فنٌ قائمٌ في الأساس على المفارقة والمقابلة بين الشيء ونقيضه، بين الواقع واللاواقع، فهو بطبيعته التكوينية والبنائية سياق لغوي يفارق ما عهد من الكلام، فلا يمكن أن نطلق على لكلام لفظة الشعر إلا في حال اتسامه بتلك الأبعاد الجمالية التي تحاول أن تستفز المعتاد وتنسف القيم المتواضع عليها في اللغة المعيارية التي يستعملها الناس لأغراض التداول، وتشكل الثنائيات الضدية جزءاً مهماً من عمل تلك المفارقات (الليل / النهار ، الأبيض/ الأسود، الضوء / العتمة، الخير/ الشر، الحياة /الموت، الخ … )، فكل دلالة تتحرك في خط مستقيم لتقابل نقيضتها، وهذا يعكس الطبيعة التي ينبني عليها الأدب بشكل عام عندما يتخذ من مادة الصراع والنزاح حالة مثالية للتعبير عمّا يفكر الإنسان به. يستثمر الشاعر فارس مطر عدداً كبيراً من الثنائيات داخل منظومته الشعرية، إذ غالباً ما تتضح لديه فكره الصراع بين (الحق والباطل) أو (الخير والشر) أو (النور والظلام) أو (الفضيلة والرذيلة) أو (الإصلاح والفساد) أو (البياض والسواد) وهي كلها ثنائيات تقابلية تشير نصوص الشاعر أنه يعمل في كثيرٍ من الأحيان على توظيفها في ثنائية (الضوء والعتمة) إذ إنه يؤمن أن الضوء هو الحق والخير والنور والفضيلة والإصلاح والبياض، وأنّ العتمة تمثل الباطل والشر والظلام والرذيلة والفساد والسواد، فهو يعبّر عن هذه التفاصيل كلها عندما يوظف هذه الثنائية لذلك، يحدثُ ذلك عندما يحاول مطر أن يزاوج بين البعد الفيزيائي الحسي والبعد المدلولي المجرد لثنائية (الضوء والعتمة). يقف الشاعر مطر في قصيدته الرئيسة التي بعنوان “تمرات في الربذة” ليجسدَ فاعلية العتمة في نسقه التشاؤمي الوصفي، فالقصيدة تحاول أن تستثير الأحلام والهمم معاً من خلال العرض الوثائقي الشعري لما هو مؤلم ومر، ليتم توظيف العتمة في معنى الظل، يقول الشاعر: نحنُ المنفيون من عُمق التاريخ لحد الآن لا شيءَ بأيدينا إلاّ أن نبتهلَ ليدومَ علينا ظلُّ السلطان أرواحٌ نلبس أجساداً تبلى ونؤدي دور المسحوقين بكل زمان ينسج الشاعر معنى العتمة والظلام من خيوط الظل، ظل السلطان الذي أراده ظلاً بانطباع سلبي خالص، فالظل هنا يعني العتمة والظلام والظلم والهامش، ويبقى الطابع التراجيدي المأساوي الغالب على القصيدة علامة واضحة عندما يدرج الشاعر نفسه ضمن الكلية ويضع الجميع بكفة والسلطان بكفة، مع ذلك فيبقى ظل السلطان أو “ظلمه” كافياً ليشمل الناس جميعاً، ويحجب عنهم النور وحقيقة والحرية. كما يعمد الشاعر في مناسبةٍ جديدة إلى توظيف النور ليجسد حالة الضياء، ففي قصيدة “ياسين بقوش” التي تندرج ضمن النسق الدلالي نفسه الذي تسير عليه القصائد الأُخر للمجموعة نفسها، نجد الشاعر يرثي الفنان السوري “ياسين بقوش” عندما يحاول أن يضع بين الجلاد والضحية أو القاتل والمقتول جملةً من المداليل التي تفسر طبيعة الفعل الدرامي، إذ يستمر صوت الامتعاض ونشيد الرفض على امتداد أبيات القصيدة إلى أن تأتي خاتمة القصيدة لتشهد تحولا في عملية السرد ويكون بقوش هو المحور، وهو المخصوص بهالة الضياء والبهاء دون الباقين الذين تلاعبوا بالقيم وغشوا الأرض والإنسان والمبدأ، يقول الشاعر: تب الراشي (والمرشوش) حين مضيت هتفت تنادي هيا هيا يا غوار إنَّا ذاكرةٌ ونقوش لن يسمع غوار نداءك اذهب يا ياسينو اذهب لا لا ليست بالطربوش حقل النور لا يدخله أبداً شاميٌّ مغشوش يسعى الشاعر هنا إلى استخلاص قضية الكفاح نفسِها، ويفسرُ حقيقة المآل والنهاية ليصف ذلك بحقل النور، لأن النور الذي يراه “بقوش” اليوم أجمل من الظلام الذي خنق صدره بالأمس، وهذا الحقل هو بطبيعة الحال والمآل المخرج الأمثل لكل من يقف بوجه الطغيان والظلم والاستبداد، وتبدو هنا المفارقة في السياق الشعري فالقبور في واقع الأمر بؤرة مظلمة معتمة، لكنها تستضيء بنور الصدق والمحبة والإيمان الذي يشع من روح الإنسان لا روح الطغيان. وفي مرثيته لأبيه “أبي جاسم مطر” يتخذ الشاعر سبيلاً جديداً في رثائه عندما يأبن أباه بصدق وأحساس عالٍ، ليبقى المرثي على امتداد القصيدة هو المحور الرئيس لدالة الوصف والكشف، فلا مجال للحديث عن المجرم أو المقصر أو الجاني في الشعر، لأن في الشعر جمالاً يضاهي جمال وسحر الإنسان المغدور، وينسحب الكلام نفسه في هذا السياق إلى ثنائية الضوء والعتمة، فلا مجال للظلام ولا مجال للعتمة في حضرة من قُتل غدراً ومات شهيداً، فالشاعر يصر على أن يجعل المرثي هنا مصدراً للنور مصدراً للحرية: “أبي جاسم مَطر” تروحُ بعيداً فيرسو الحنين تثير الهطول بباب السحاب ليأتي انهمارك من سرمدٍ إلى باحةٍ ثم تأبى الغياب وتغمرُ طفلاً عدا الأربعين بعطفٍ جميلٍ وروحُ انسكاب آهٍ أبي كم أنا متعبٌ وضاق الزمان وعزَّ الصحاب عزائي بأني أراك القريب تنير طريقي وتعطي الجواب تسير هذه القصيدة على وفق برنامج وجداني يرثي الشاعر فيه أباه لكنه في الربع الأخير منها يغير من موجته السردية “آه أبي كم أنا متعب” ليخص نفسه بالحديث ويتحول الرثاء إلى شكوى يتقدم بها الشاعر إلى أبيه، ولكنه أباه هناك في عالم الغياب، فيستمد منه النور وينير به طريقه التي ملأتها ظلمات الواقع المر الذي تجرعه بعد الفقد، تجسدت حالة الضوء في هذه القصيدة في قول الشاعر “تنير طريقي” النور الذي يسعى إليه جاهداً هو نور الذكرى والحضور والأمنيات والألم معاً. بهذا التجاه تسير هذه الثنائية عندما تختبئ خلفها ثنائيات متضادة كثيرة كالخير والشر والحق والباطل والنور والظلام، أراد الشاعر أن يعبر عنها في هذه المجموعة الشعرية “تمرات في الربذة”، فدائرة الصراع تبقى تدور في إطار الحق المخلوع المقطوع الذي ما انفك الشاعر يبحث عنه في القصائد كلها وكأن المجموعة الشعرية قصيدة واحدة، تستثمر حركة الضوء والعتمة وتوظفها للتدليل بطابعه والإنساني الذي يرتكز على رؤية حقّة وأيديلوجيا فكرية سياسية واعية.