جدلية العلاقة بين الفكرة والواقع وتطويع الرمز في “سبع عربات مسافرة” ل (محمد عبد المنعم زهران)

بقلم: منال رضوان

“سبع عربات مسافرة” هو عنوان المجموعة القصصية للقاص والشاعر الراحل محمد عبد المنعم زهران، والتي تتألف من أربع عشرة قصة، حملت عناوين مختارة بحس شاعري دال على اكتمال الذائقة الإبداعية لدى زهران واختمار التجربة التي أدت إلى ظهور ما يجيز لنا تسميته (ثنائية) “سبع عربات مسافرة” والديوان الشعري “دون ضجيج”.

ولكي ندلل على ذلك الطرح بشيء من إيجاز فيمكننا القول إن :-

مجموعة “سبع عربات مسافرة” والتي تكلم زهران فيها عن حلم الإنسان بإعادة تشييد الكون، رغم أدواته البسيطة كما عبر عن ذلك في بدايتها، ألا يمكننا اعتبارها أحد الوجهين لتلك الديالكتيكية القائمة بين الفكرة والواقع والتي تعتمد على المفارقة بينهما في أحايين كثيرة ليبزغ نجمها أو ينجلي نهارها أو تتضح رؤاها، تلك الجدلية التي يعد وجهها الآخر هو رغبة ذلك الإنسان نفسه في التحرر من رقبة القيود والتخلص من نير اللازم والمفروض؛ ليستطيع العيش في دنياه، ومن ثم يتمكن من أن يحب ويحلق ويحيا حياته وفق رغبته في إعادة تشييد الكون بأحلام بسيطة وأنامل قابضة على تلك الحياة في تحد وأمل، بسلاسة ومن دون ضجيج رغم كل ما يحيط بها من ألم ووهن. وصعوبة تحقق تلك الأفكار لتعارضها مع الواقع واللازم والمفروض أيضًا!

ولذا فإن التجربة الأدبية لزهران يمكن تشبيهها بجدارية ملونة تكونت من تفاصيل ومنمنمات غاية في الدقة تصطف وتتراص في اتساق شديد، لتكون التشكيل النهائي لصور نابضة بالحياة، منتصرة للإنسانية، مليئة بالأمل رغم الصعاب. فثنائية (دون ضجيج) كشعر نثري هادىء الملمح ، بركاني النزعة ، وسبع عربات مسافرة كنص أدبي نثري يحمل في طياته الكثير من شاعرية حالمة، يمكن اعتبارهما بمثابة ركنين مثلا، الفكرة الأساسية لتلك التجربة الأدبية شديدة الفرادة والثراء، ومحاولة إعادة بناء الإنسان من بعد هدم، والنهوض به من بعد عثرات عدة.

بيد أننا سبق وأن تناولنا الديوان الشعري بشيء من تفصيل* لذا: يطيب لنا أن نتناول سبع عربات مسافرة بالعرض والتحليل مع الوقوف إزاء قصتين وهما على الترتيب:

١-  (روح البهجة)

٢- (أصابعي منك في أطرافها قبل)

واتخاذهما كنموذجين للتعرف على ميكانيزمية الكتابة عند زهران من خلال ما يلي :

١-  ديالكتيكية المفارقة بين الفكرة والواقع وتطويع العلاقة بين الكلمة والرمز.

٢- تنوع تقنيات السرد والمراوحة فيما بين المونولوج والديالوج الحواري وبوليفونية السرد.

٣-  ظهور قضية أزمة الإنسان في بنية النص وإبراز ماهية الوعي كسمت يميز الكاتب بشكل عام، وفي تلك المجموعة على وجه الخصوص.

القصة الأولى :-

روح البهجة

– تعد روح البهجة خير الأمثلة على تطويع العلاقة بين الكلمة وما ترمز إليه، كما يتضح من خلالها جدلية المفارقة القائمة دومًا فيما بين الفكرة والواقع..

هنا حيث أجاد زهران إبراز المعنى الدال على البهجة ومن ثم الحياة من خلال قطع الحلوى التي يبيعها الرجل البسيط صاحب طاولة بيع العسلية الغارقة في النشا، وعلاقة روحية ربطت بينه وبين الفتاة الصغيرة المريضة بمرض لا أمل في النجاة منه.

ومن خلال الصوت السردي غير المباشر فضلًا عن المونولوج (الحوار الأحادي) تدور الأحداث؛ حيث يحدث البطل ذاته تارة أو يقص قصته مع ياسمين، الفتاة التي منعها والدها عن العسلية لمرضها الخطير؛ فساءت صحتها وتحول لون حدقيتها إلى بياض، إلى أن عاد الأب وسمح لها بتناول السكاكر المحببة مرة أخرى، فاستعادت لون عينيها العسليتين من جديد في مهمة شفاء قامت بها قطع من البهجة (العسلية).

فبداية، نلمس وبقوة تأويل الرمز وإجادة تطويعه لإنشاء هذه العلاقة بين العسلية والبهجة،  وهي العلاقة التي تتصاعد وتخفت في ديناميكية متواترة على طول الخط السردي، والإلحاح على هذه الفكرة بطرائق عدة؛ فهي تارة يجب أن تمتص برفق لتذوب رويدًا رويدًا في الفم بعد أن تختلط برضابه،  وتارة أخرى هي إكسير الحياة وسرها الكامن في يد البائع الفقير وأوردة الصغيرة التي تدب الحياة فيها بمجرد استطعامها. وذلك المعنى الدال والمستتر على تذوق الحياة وارتشاف سلافها في غير تعجل، وبمتعة كاملة قدر المستطاع، فيقول:

(….فالعسلية تحديدًا يجب أن تظل وقتًا في الفم لتذوب ببطء، لتتلاشى في نعومة مع اللعاب، وبهذه الطريقة فقط تتسلل البهجة إلى روح أي شخص حزين…)

وهنا لم يستخدم زهران الرمزية في مباشرة تقريرية قد تضعف من قيمة النص الإبداعي؛ بل أجاد توظيف الرمز وتطويعه والاشتغال عليه عبر التراكم المعرفي، الذي يصل القارىء معه عند نهاية القصة إلى ماهية ذلك الارتباط الشرطي فيما بين العسلية والبهجة من ناحية، وفيما بين المتعة البسيطة والحياة من ناحية أخرى، كما أنه أجاد فك شفرة الجدلية القائمة بين الفكرة والواقع من خلال الربط بين بهجة الروح (الفكرة المعنوية) وبين تذوق العسلية وامتصاصها وذوبانها (المادية والواقعية).

كما يُلاحظ هنا استخدام الألوان بشكل دال وموحٍ، ويعد ذلك من الوسائل والأدوات التي يلجأ زهران إليها بشكل عام في كتاباته؛ فاللون لديه لابد وأن يعبر عن حالة وجدانية شديدة التكثيف وعميقة الأثر في الوقت ذاته :

(… قاومت بشدة ولم ألتفت ومشيت مبتعدًا، ولكنها بكت فجأة وارتفع صوت بكائها، أخيرًا استدرت ببطء، ورأيت عينيها: كانتا محض بياض خال من أي شيء، وكانت تتوجع، ثم بدأت تبتعد وهي تبكي وتنادي بصوت مرير…)

فهنا تجد أن البياض يدل على الشحوب والمرض، ويتضح المقصد في قوله (محض بياض) لينم عن الحال التي وصلت الفتاة إليها من ضعف وانتهاء، وذلك على العكس من اللون النابض الممتلىء بالحياة وهو لون العسل؛ فيعود عند نهاية القصة ليؤكد الفكرة حتى تترسخ في ذهنية المتلقي:

(… عيناها اللتان استعادتا أخيرًا لونهما العسلي النقي، وجسدها الصغير الذي صار متماسكًًا وقويًا كقطع العسلية الصلبة على منضدتي.)

القصة الثانية :

أصابعي منك في أطرافها قُبل

قصيدة (أصابعي منك على أطرافها قبل) والتي كتبها اللبناني جوزيف حرب، ولحنها الموسيقار المصري رياض السنباطي، وتعد من كلاسيكيات الغناء العربي، وقد استعان زهران بذلك العنوان ليضعه على رأس قصة غاية في النعومة والبساطة والكلاسيكية أيضًا حد تواري الفكرة وتلاشيها إلى جانب حليات السرد الموحية بفخامة تتلاءم وحالة الاستدعاء للعنوان من ذاكرة الإبداع الأصيل.

تتكلم القصة عن امرأة تجلس أسبوعيًا في انتظار حبيبها ولا تغير نمطها السلوكي خشية ألا يعود الحبيب الغائب إذا ما خالفت ما تركها عليه؛ فمنذ تناول الطعام حتى إشعال السجائر المحدد موعدها بدقة، إضافة إلى العشاء وفنجان القهوة.

كل ذلك يجب أن يتم في موعد معلوم من الجميع، وعلى الجانب الآخر نجد أن أحد الأشخاص، وهو على الظن الغالب صاحب ذلك المطعم أو مديره** يسقط في براثن حب السيدة الغامضة، ويوم أن يقرر مصارحتها.. فإذا بالغائب يعود، فيقرر الرجل أن يتراجع في محاولة منه لإنكار مشاعره أمام صديقه “الكاتب” الذي يواجهه بالحقيقة في تحد وعناد يصل بهما إلى المواجهة اللفظية.

(…. أنت تروي الآن بصورة جيدة، لأنني أتفهم تمامًا شغفك بهذه السيدة الغريبة ورغبتك في أن تروي حكايتها. ولكن عليك ألا تغفل دور هذا المكان الجميل. لقد قضيت فيه ساعات طويلة برفقتك في مكتبك الزجاجي أحيانًا لنتحدث، وأحيانًا لأكتب القصص بينما ألاحظك وأنت تتابع بتركيز هذه السيدة…..)

لكنه في النهاية وبناء على رغبة الحبيبين، يقرر أن يترك لهما الطاولة محجوزة كل أربعاء؛ لعلهما يعودان.

هذه القصة البسيطة في فكرتها، طرحها الكاتب بأسلوب غاية في الذكاء والفخامة؛ حيث عمل على تنوع أساليب السرد في ثراء داهش، كما جعل شخوص القصة يتحركون في ميزانسين درامي «Mise-en-scène» وحثهم على التفاعل  بقوة مع الأحداث القصيرة والسريعة والمليئة بالتفاصيل، كلون مفرش الطاولة، وقائمة الطعام، والكأس المكسورة التي مثلت إرهاصة العودة ورمزية انكسار الحلم لدى المحب الجريح.

وهنا.. لمرة أخرى نلمس إجادة في تطويع الرمز في خدمة الفكرة، كما جعل زهران الأبطال يتبادلون السرد في تعددية مكثفة سريعة ومتبادلة، فظهرت الجمل الحوارية حادة متوجسة سريعة بين الصديق والمدير ككرة (بنج بونج) لكنها علاقة قابلة للكسر كعلاقة البطل بكل ما حوله بداية من مكتبه الزجاجي الذي يقبع فيه كسجين صاحب إرادة مستلبة تنصاع لرغبات الزبائن، بينما هذه الجمل مقتضبة حادة كطعنات نافذة بينه وبين السيدة، في حين أنها لطيفة مخملية داعمة بين تلك الأخيرة والنادل الشاب والذي لحداتثه قد كسر الكأس، وتؤكد فكرة الزجاج دلالة هشاشة كل ما يحيط بذلك الرجل.

وعلى النقيض كانت الحوارات هامسة رومانسية بين المرأة وحبيبها الذي عاد في مباغتة صادمة أدت إلى تصاعد الحدث في مفارقة دالة على أن ميلاد الأمل لدى بعض الأشخاص يمكن أن يمثل وأد الحلم لدى البعض الآخر.

كما ظهرت وبقوة أصوات الموجودات والتي تتداخل مع أحداث القصة؛ فتقطع على المتلقي أي شعور بالفتور تجاه فكرة الرومانسية والتي لم يعد لها المقام المعتبر في عصرنا الحديث، فالموسيقى، أو أصوات الملاعق أو مباغتة كسر الكأس بددت الإحساس بالملل، ولذا فإجادة الطرح هنا قد أثرت هذه القصة الناعمة بشكل لافت، منذ استدعاء العنوان لأغنية قديمة واستخدام الحيل الدفاعية كالاسترجاع والإسقاط، فضلًا عن التمازج الاحترافي في تقنيات السرد وتنوعها فيما بين المونولوج والديالوج والبوليفونية مع التداخل والامتزاج فيما بين الأصوات السردية بتكثيف شديد غير مخل.

وبوجه عام..

فإن البنية الموضوعية لدى زهران تتضح بقوة في مجموعته سبع عربات مسافرة وقصتها الرئيسية التي حملت المجموعة اسمها، حيث تتمحور حول فكرة قصر حياة  الإنسان على الأرض وكيفية تعامله معها، وهل سينتهي به المقام إلى حيث اللاشيء، أم أنه سيصل إلى هدفه المنشود.

لذا فقد عبر زهران في القصة الرئيسية بشكل خاص وفي المجموعة ككل، عن فكرة (رحلة المتعة) و هذا السعي الدؤوب نحو الوصول إلى الهدف المنشود من الحياة، واختلاط الألم بالأمل وامتزاج الجدية بالمتعة على طول الطريق، ولعل تلك القضية كانت هي الهم الأكبر لدى زهران وأهم ما يميز أسلوبه من حيث التزامه باتباع فينومينولوجيا تبرز ماهية الوعي بأزمة الإنسان المعاصر وما يغل يده من قيود فرضها الواقع الذي يحياه، مما يجعل القارىء لنصوصه من الممكن وأن يطالعها على مستويين:-

فعلى سبيل المثال، فإن كان ظاهر النص يتكلم عن سبع عربات لقطار يتعرض لحادث يؤدي إلى مصرع من كانوا بداخل السبع عربات؛ إلا أن المقصد من وراء حكايات مجتزأة ونهايات مبتورة لبعض الأبطال أو حالمة رومانسية هادئة لآخرين عبر الانتقال بين زمن القص وزمن الحكاية، يوحي لنا في دلالة عميقة أن رحلة الحياة يمكن ألا تكتمل في بعض الأحيان ويمكن أن تتوج بنهاية غير منتظرة وغير متوقعة، غير أن القطار لابد وأن يسير في طريقه المحدد والمرسوم له، شئنا له ذلك أم أبينا.

…………………….

* دون ضجيج: مقال سابق دورية عالم الكتاب عدد يوليو من العام ٢٠٢٢.

** لم تتضح شخصية البطل ولعل الكاتب تعمد ذلك لإبراز مدى تواريه وتهميشه في عين السيدة والمحيطين.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!