جوهر العمر.. موسيقى الروح وسرّ البقاء

كتب/ فضل صالح

الحب في قصيدة فيصل النائب الهاشمي ليس انفعالًا عابرًا، ولا تجربة وجدانية تُكتب ثم تُنسى، بل هو مفهوم كوني يُعاد تشكيله في كل بيت شعري، حتى يغدو جوهرًا للوجود وسرًّا للبقاء. منذ المطلع، يتكرر الفعل أحبك كأنّه لازمة موسيقية، لكن التكرار لا يُنتج رتابة، بل يُعمّق التجربة ويحوّلها من مجرد اعتراف عاطفي إلى إيقاع داخلي، ينبض في كل صورة ويجدّد نفسه كما يتجدد الفجر كل يوم.

الحبيبة هنا ليست مجرد ملامح حسية تُرى، بل رمز كونيّ يتسع ليحتضن كل عناصر الوجود: فهي السماء إذا كان هو الأرض، وهي النبع الذي يسقي الحنين، والنهر الذي يفيض بروحه، والنسيم الذي يعطّر أزهاره، والليل الذي ينير بالنجوم. في هذا التوسيع الرمزي، يتجاوز النص حدود الغزل التقليدي، ليجعل من الحبيبة ملتقى الأضداد ومصدر الانسجام الكوني، حيث الرمل يتكامل مع الغيوم، والصمت يجاور الحديث، والجفاف يزهر بالحب.

على المستوى البنائي، يشتغل النص على ثنائية التكرار والتحوّل؛ فـ “أحبك” لا تأتي بصيغة واحدة، بل تتجدّد في صور متباينة: مرة هي ضياء، وأخرى نبض، وثالثة همس أو نبع. هذا التعدد التصويري يفتح النص على القارئ، فلا يظل المعنى مغلقًا، بل يظلّ مفتوحًا على التأويل، بحيث يشارك المتلقي في ملء الفراغات وصياغة التجربة وفق رؤيته الخاصة. وهنا يتجلى وعي الشاعر بجماليات التلقي، حيث يتحول القارئ من متفرج إلى شريك في بناء النص.

إيقاعيًا، تعتمد القصيدة على التناظر بين الثنائيات (الأرض/السماء، الليل/الضياء، الصمت/الحديث). هذه الثنائيات ليست مجرد تقابل بلاغي، بل آلية فكرية تكشف عن رؤية فلسفية: الحب قوة قادرة على جمع الأضداد وصهرها في وحدة منسجمة، حيث يتجاوز الزمن والمكان، ويتحوّل إلى مطلق يتجدّد بلا نهاية.

أما في البعد الوجداني، فإن النص يتجلى كـ شعرية اعتراف، حيث يكرّر الشاعر إقراره بالحب لا طلبًا لردّ، بل باعتباره فعل وجود. وهذا الاعتراف المتجدد يكتسب ملامح صوفية؛ فالحبيبة تتحول إلى مطلق، إلى طهر وسحر وكبرياء، إلى نداء يطهّر الروح من جراحها، ويزرع النجوم في ليلها. وهكذا يغدو الحب في القصيدة ليس غاية ذاتية، بل سبيلًا لفهم معنى البقاء نفسه.

إن “جوهر العمر” قصيدة غزلية في ظاهرها، لكنها تتجاوز الغزل المألوف لتصبح وثيقة شعورية ورؤية فلسفية معًا: فهي تحتفي بالحب بوصفه موسيقى الروح، وتحتفي بالشعر بوصفه القدرة على إعادة تشكيل العالم. الحب هنا ليس لحظة عاطفية، بل كيان يتسع للكون كله، كلمة تتكرر فلا تبلى، بل تظل نبعًا أبديًا يسكب الرجاء ويجعل من الحياة ربيعًا لا ينطفئ.

النص
جَوهر العمر
الشاعر: فيصل النائب الهاشمي

أحبك فجرا يسربل قلبي
يطهرني في بحور الضياء

أحبك نبضا تماهى بصدري
غراما، سلاما، سرورا، وفاء

أحبك همسا يبعثر صمتي
فهمسك داعٍ وشدوي دعاء

أحبك نبعا يسقي الحنين
ويروي خلاياه حدّ الرواء

أحبك ما دمت للحب أرضا
وما دمتِ للحب أنتِ السماء

حديثك نهرٌ يسحّ بروحي
وصمتك نبعٌ يزيل العناء

وطيفك نجمٌ تجلّى لقلبي
إذا ما سريتِ بليلٍ أضاء

ففيكِ التقى الحسن والذوق طوعا
مع السحر والطهر والكبرياء

كأن الزمان تنفّس شوقا
لينثر فيكِ معاني السناء

ويسكب فيكِ من الأمنيات
فيوضا تنير فضاء الرجاء

فكوني لروضي نسيمًا عليلا
يعطر زهري بريح اللقاء

وكوني لرَملي غيوما تفيض
هناء، رواء، أمانا، عطاء

أيا سرّ حرفٍ يضيء المعاني
إليك القصيد… ومنكِ الغناء

ففيه اختزلت القوافي بعزفي
وفيكِ… تجلّى ربيع النساء

فسيرِي بقلبي دعاءً نقيا
يبدد همي ويمحو الجفاء

فباسمك لو صِحتُ (يا أنتِ) يوما
لذاب الحنين بياء النداء

وطرّز شوقي بليل سمائي
نجوما تسامر توق المساء

أحبك دهرا وألف اشتياق
كأنك للعمر سر البقاء

إذا مر طيفك صارت جروحي
كجمرٍ تعرّت لقطر السماء

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!