بقلم الناقد – حامد أحمد الشريف
(ورث أبي من جدي صفة البخل، ومهنة صنع المقاعد. قال لي مرة وهو يفرك كفيه ببعضهما: لا يمكنك أن تُقدر عدد الأشخاص الذين يرتاحون الآن على مقاعد من صنع يدي! فتذكرت مقعد أمي الذي ترتاح عليه أثناء طهي الطعام، عبارة عن علبة زيت معدنية مكسوة بقماش قديم بلا ظهر تستند عليه). (الكاتبة وفاء الحربي)
بالتأكيد أنتم مثلي تماماً أستوقفكم هذا النص للكاتبة وفاء الحربي والتي تسمي نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً في تويتر “غولبهار مهشيد”، أظنكم شعرتم إلى حد ما بجماله، ولعلكم سترددونه كثيراً إن بنصه أو بمغازيه الرائعة التي سنتحدث عنها لاحقاً، ولكن ألستم معي بأنه سيكون أجمل لو أجريت عليه بعض التعديلات البسيطة؟!
ما رأيكم لو كتب على هذا النحو “ورث أبي من جدي بعض صفاته، ومهنة صنع المقاعد. قال لي مرة وهو يفرك كفيه ببعضهما: لا يمكنك أن تُقدر عدد الأشخاص الذين يرتاحون الآن على مقاعد من صنع يدي! فتذكرت جلوس أمي أثناء طهي الطعام على علبة زيت معدنية مكسوة بقماش قديم بلا ظهر تستند عليه”.
ربما لاحظتم أن ليس ثمة تعديلات كبيرة، لكنها في ظني عميقة تمثلت في اقتلاع صفة البخل واستبدالها بـ “بعض صفاته” كي لا تُفضح قفلة النص، فالبخيل يقيناً لن يصنع مقاعد لبيته حتى لو جلس عليها كل أبناء مدينته، فعندما حذفناها من المطلع أصبحت القصة غامضة ومشوقة، تدفع القارئ للاستزادة منها وصولاً للنهاية، والتي بالوصول إليها سندهش من بخله. كذلك حذفت مفردة “المقعد” من وصف حال الأم في البيت إذ لا داعي لها طالما ستفهم من السياق. واستبدلت “ترتاح عليه” بمفردة “تجلس”، بهدف خلق ثنائية ابداعية، فالأم يقيناً لم تكن ترتاح في جلوسها على مقد بالوصف الذي ذكر، وإنما تتكيف مع الوضع السيء الذي تعيشه مقارنة بالمقاعد المريحة التي يصنعها الوالد ويجلس عليها كل أبناء مدينته.
الآن دعونا نتحدث عن الرسالة الجميلة التي زرعتها كاتبتنا في نصها، فهي وببساطة شديدة أرادت اخبارنا ألا قيمة لما نقوم به ولا يحق لنا الفخر بإنسانيتنا طالما تأذى الأقربون من سلوكياتنا المشينة، وفقدنا قيمتنا الأخلاقية، كهذا الذي يفاخر بجلوس أهل مدينته على مقاعد من صنع يديه، بينما عجز عن صنع كرسي واحد للإنسانة التي تحملت بخله والصفات السيئة التي تلتصق عادة بهذه الخصلة الذميمة.
الأمر المهم والذي أرى أن الكاتبة وفقت فيه كثيراً، اتخاذها الابن تحديداً راوياً لهذه القصة وفي ذلك رمزية رائعة أوقفتنا على قيمة هذه الأم المثالية، التي لا سند ولا معين لها حسبما ظهر من وصف مقعدها البديل حين ألمحت الكاتبة بذكاء إلى أنه لا ظهر له، وعموماً البخيل لا يرى البخل إلا حسن تدبير وتعقل واستعداداً لأيام نحسات يخشاها ويحتاط لها، ولو كان الابن كأبيه لرآه ـ أي البخل ـ على هذا النحو، ولما أستوقفه بجاحة أبيه، ولأن ذلك لم يحدث فهذا يعني أن الأم نهضت بدورها فأبعدت ابنها عن تلكم الصفات السيئة، وفي ظني ما كانت هذه الدلالات القوية والعميقة لو كانت الراوية ابنته والتي غالباً ما تكون كأمها دون مجهود يذكر.
بقي أن نشير لثنائية أخرى خلاف ما ذكر سابقاً، كان فيها مزاوجة رائعة أيضاً بين وضاعة الأب وحقارته في مقابل سمو أخلاق الأم التي ظهرت متفانية في بيتها، وقد صنعت مقعداً متواضعاً يعينها على النهوض بواجبتها، مما عرى سلوكيات الأب تماماً وأوقفنا على العمق الحقيقي للنص، وهو الأمر الذي يحدث كثيراً عندما نتزين للأخرين ونكون في أسوء حالتنا مع أهلينا معاكسين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي”
وقد وصلنا للنهاية علينا تذكر، أن القصة الإبداعية تنطلق من فكرة خلاقة يؤمن بها الكاتب ولا يشترط لها أن تكون رسالة وعظية كما هي في هذا النص، ولكنها يقيناً لن تكون شيئاً مذكورا مهما كانت جزالتها، إن لم يمتلك الكاتب الحصافة والمهارة والتكنيك الإبداعي والأسلوب الكتابي الرصين الذي يسهل وصولها ويخلق منها قصة.
كاتب من السعودية
(نقلا عن مجلة فرقد الإبداعية)