في ديوانها الشعري الجديد ” تجليَّات على حافّة التجريد ” تتجه الشاعرة بسمة المرواني اتجاهًا فلسفيًا على مستوى الرؤية يقوم على طرح الأسئلة الشائكة التي تعكس قلق الذات الشاعرة وإيمانها بأهمية السؤال باعتباره بداية المعرفة , وتتمحور هذه الأسئلة حول الذات ووجودها , بل وماهيَّتها فتقول: (( من أنا/ سؤالٌ يتداخلُ بتابوتِ الغريبِ/ ليعيد ذاته المنسية في حدقةِ الحرِ/حسيَّةٌ أنا…/صوفيَّةٌ أنا…/ جاحدةٌ أنا…/مؤمنةٌ أنا…/غامضةٌ بائنةٌ من أوردة العتمةِ/ ذلك بعضي المتجزئ على بقايا اللاشيء))(1). وتوجه حديثها إلى القدَر موضحة جدلية العلاقة به من ناحية , وبالزمان من ناحية أخرى فتقول في ص 47: ((قدري / أيها المبعثر في أرصفة الهباء / أتوسل ضريح رفاتك/أمسح عن عيني دموع الطعناتِ./الزمن يقف على أشلاء جنوده / وأنا الإنسان/أغتسل بنهر الخلود المعتكر)). فعلاقة الإنسان بوجوده علاقة معقدة حيث (( يمثل الزمان إذن لغزًا من الألغاز الكبرى التي يواجهها البشر في حياتهم, فهو ظاهرة طبيعية لا يستطيع البشر الإفلات منها , ولكنهم في نفس الوقت لا يقدرون على اقتناصها أو إدراكها من خلال الحواس, لا نستطيع أن نراه بأعيننا أو نسمعه بأذننا , وليس له ملمس ولا رائحة , نحن نعيش في الحاضر ولكننا نعيش أيضًا في الماضي والمستقبل))(2) . لذا مع استمرار الزمان يستمر معه سؤال الهويّة /سؤال الوجود , فتقول في ص 28: (( قف يا نهرُ, ولا تجْرِ في حلق السحابةِ/ وأخبرني عن هويَّة ذاتي/ عن حديد الذاكرةِ الصدِئ/ من فيء الجمال…أنت اللاهويَّة)). وقد ارتبطت عناوين بعض القصائد بذلك البُعْد الوجوديّ مثل: (( نبوءة غير مكتملة – حتى أراني – عناكب السؤال – سألني مَن أنتِ – غياب – حيرة – صخب الغياب – غيب مشهود – سؤال على حافة الانتظار – قناع الروح الأخير)).
ومع ذلك البعد الوجودي المرتبط بأسئلة الهويّة نجد اعتداد الذات الشاعرة بنفسها باعتبار أن هذه الذات هي صورة من صور هذا التحقق الوجودي , فتقول في ص 9: (( يا أنثى/ تلمس الحجر فيكون وردًا/ توقظ الشجنَ لحنًا/ فما أنت/ أنت إلَّا/ أغنية من أنغام المطر/ يا أنثى تعانق وجه الغامضِ/ تقطر في كل لحظي بدرًا مكتملًا)).حتى نجد أن النبوءة لا تكتمل بدون وجود الأنثى أي بدون وجود تلك الذات وحضورها حين تقول في ص 15: ((للعروقِ أفئدةٌ صارخٌ فاسمعها/ نبيًّا في لحظة وحي/ لا نبوّة مكتملة/بلا أنوثةٍ تتدفق من القلب!)). وحتى في أكثر لحظات ضعف المرأة تكون هي القوية المفترسة حين تقول في ص 18: ((لا لستَ أنتَ / هي/ مَن تفترسكَ حين اشتهائها/ بعد أن قضيتَ لها وطرها المريب./ ولا شيء يظل سوى اثنين/ رجُلٌ وامراةٌ والليل الوسنان/ في هوامش الأرواح السامية)). تلك النظرة للذات الشاعرة والاعتداد بها ترتبط بمفهوم بعد ما بعد حداثي , بل هي أحد الحلول عند بعض النقاد المعاصرين فنجد أن(( حلول “بعد ما بعد الحداثة ” بآفاقها الجديدة حيث الفرد /المجتمع المتفائل الواثق من قدراته بوصفه” كيانات مجموعة” قادرة على الفعل تتحرك في مستويات”لاخطيّة” الكفاءة, برز الإنسان المؤهل الكفوء سواء على مستوى المجتمع الافتراضي ” ما بعد الافتراضي” أو المجتمع المعتمد على الافتراضي , إنسان/كائن تبدو الاستقلالية أهم سماته)) (3) . كما يذكرنا بمصطلح ” سيكولوجية الأنا ” الذي عرَّفه البعض بأنَّه: (( نهج في التحليل النفسي يهتم بالآليات النفسية التي تتوسط العلاقة بين” الأنا ” وينطلق من فهم “الأنا” بوصفها نسقًا عقلانيًا واقعيًا لوظائف الشخصية . أو بوصفها وحدة فاعلة تؤلف الفرد وتصوغ تصوُّره الكُلِّي عن نفسه ,مِمَّا يفضي إلى التركيز على العمليات التي تقوم بها الأنا في نمو الشخصية)) ( 4) .
ويأتي الجسد والتعبير عنه باعتباره صورة من صور التحقق الوجودي ومرتبط بسؤال الهوية , فالجسد ليس مجرد شيء من الأشياء العابرة ولا مجموعة من الرغبات فقط لكنه جزء من الإنسان ووجوده وتاريخه: (( فتجربة الإنسان مع جسده إن صحَّ أن يساق الكلام فيها بضمير الغيبة دون ضمير المتكلم تجربة أصيلة فريدة تكشف عن ضرب من الوجود الغامض الذي لا يسوغ معه أن يقال إن الجسد شيء من الأشياء ولا أن الشعور به من قبيل الفكر المَرَضِي لأنه مغاير لهما وتاريخه من تاريخ الإنسان))(5). من هنا كانت أهمية التعبير عن الجسد وتوظيفه كما في قولها ص 46: ((غارقة في طرق الغيوم/ المطر يهذِّب جسدي/ ويوقد في قلبي ضفاف البحر الغريب/ مرسومًا في لوحة ذاكرتي/ نبيًّا في ثوب من الحلم الشريد/ أقطف فاكهة الخيال في عينيك/ وأهرب في سرير الرغبات/ متنفسة دفء الخدر بقربكِ/ جاثمة بين نار جسدكَ/ وضبابية الألوهة في شفتيكِ/ مصليًا هلاميًّا/ تنقشع في جسده نوافذ اللانهاية)). كما جاءت عناوين بعض القصائد تعكس توظيف شعرية الجسد في تشكيل رؤية الشاعرة داخل الديوان مثل: (( تبتُّل على باب الصدر – أنثويات تنبض ذاكرة- زهو يزيد الشوق – دانية بقطوفي إليك – طين ورغبات – أنوثة مموسقة )).
وكما نجحت قصيدة النثر في التعبير عن الذات وهمِّها الوجوديّ وأسئلة الهويَّة وجدلية علاقتها بالواقع والآخر ها هي تنجح في التعبير عن القضايا الكليّة اجتماعية وسياسية لتثبت أنها ليست قصيدة منغلقة على ذات كاتبها وتنفي سيرها في اتجاه مناقض لأصحاب تيار الفن للحياة وفيه (( قد تناول بعض الكتاب العديد من القضايا الاجتماعية واعتبروا الفن وسيلة من وسائل الإعلام في جانب منه وأنَّ له وظيفة اجتماعية وتنويرية معًا))(6). وها هي الشاعرة تعبِّر عن القضية الفلسطينية قضية العرب جميعًا في ص 89 حين تقول: (( كيف تودِّع امرأة رجُلًا فليسطينيًا/ أين تخفي فيه قبلتها/ أين تدس منديلها/ كيف تمسح دمعتها الأخيرة/بكفيه أم بالبندقية؟!)). كما نجد تعبيرها عن تلك القضية في قصيدة” كان هناك” التي أهدتها لرسام الكاريكاتير الفلسطيني ” ناجي العلي” ص 90.
تلك الرؤية عبَّرَتْ عنها الشاعرة في قصيدة نثرية تقوم على توظيف السرد و الصورة الكلية الجديدة في لغة مكثفة وصفتها الشاعرة بقولها في ص 40: (( أصوغ لغةً للهباء/ فلا صوت/ ولا حروف لأتربة الدمع/ المنعجن عُشبًا/ أستشهد الأزلي/ في جداريات طيننا المتعفن/ والسماء تعيد عيونها/ في مرايا غيبها أنبياء!!)). أو قولها في ص 76 في تلك الصورة الكليَّة المبتكرة :(( لنفرك عيوننا بالقصائدِ/ ليل الحياة قصيرٌ/ ليل السنابلِ …يمضي/ ورد اللفظ وحده الباقي/ بجميل الكلام)). أو تلك الصورة البصرية في ص 81 حين تقول: (( انتبهت إليك عاريًا/ تخرج نخلة في ظلك/ ويصير فمك بئر رصاص/ تقول للصخرة الواقفة : / إنكِ في كل يوم عيدي/ وما كنتِ يومًا عدوَّتي/ أعطيني ذراعًا إنِّي قاتلكِ/ ولإنَّكِ وحدكِ الحزينة في الانتظار)).
مع الصورة الكليّة السابقة تستخدم الشاعرة لغة تقوم على الرمز والانفتتاح الدلالي الذي يجعل قصيدتها تأبى أحادية القراءة أو المعنى الواحد , فمع التوظيف الرمزي للمفردات في سياقها تنفتح الدلالة على معانٍ/دلالات/ قراءات متعددة , وهي إحدى إشكاليات نصوص ” ما بعد الحداثة” حيث (( تعرض ما بعد الحداثة فخًا محكمًا استثنائيًا لا مفرَّ منه فيما يتعلق بالمعنى , وأيّ محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن معنى تذهب أدراج الرياح لآنِّ كل علاقة تعد بنوع من المعرفة الأصلية تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر))(7).من هنا فالتعبير عن رؤية الشاعرة بتلك الأليات الجمالية يكشف لنا عن طبيعة وحقيقة موقف قصيدتها الجمالي القائم على التجريب ويتصف بالثراء الفني وعدم البساطة , فتوظيف السرد والرمز والخيال الكُلِّي والصور المبتكرة واللغة المكثفة كل هذا (( يكشف عن حقيقة الموقف الجمالي , فليس الموقف الجمالي بنفس البساطة التي يتصف بها الإدراك الحسي المباشر المتفق عليه اتفاقًا معتادًا ومألوفًا في حياة الناس , ويكفي أن تعالج أبسط القضايا المنطقية موضوعًا متعلقًا بالقيم الجمالية حتى تستحيل هذه القضايا إلى معضلات))(8).
من القراءة السابقة يمكننا أن نقول إن ديوان”تجليّات على حافّة التجريد” يُعبِّر عن رؤية الشاعرة التي تقوم على طرح أسئلة حول الهويّة والوجود مع الاعتداد بالذات وتوظيف لغة الجسد والتعبير عن بعض القضايا الكلية في قصيدة نثرية تسعى نحو التجريب موظفة لغة السرد القائم على التكثيف الدلالي والرمز والصورة الكليَّة المبتكرة.
الهوامش :
- – انظر بسمة المرواني – ديوان ( تجليات على حافة التجريد ) – زينب للنشر والتوزيع – قليبية/نابل/ تونس – الطبعة الأولى 2016 – ص96.
- انظر سيزا قاسم – ( القارئ والنص .. العلامة والدلالة ) – مكتبة الأسرة-سلسلة إنسانيات – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – ط 2014 – ص 68 .
3 – انظر د. هاني جازم الصلوي – الحداثة اللامتناهية الشبكية…آفاق بعد ما بعد الحداثة – أروقة للدراسات والترجمة والنشر والتوزيع– القاهرة- 2015 – ص 18
4 – انظر: ( عصر البنيوية ) – إديث كريزويل- ترجمة د . جابر عصفور – سلسلة آفاق الترجمة – عدد رقم 17 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – سنة1996– ص 382 .
- – انظر : د.لطفي عبد البديع – ميتافيزيقا اللغة- سلسلة دراسات أدبية –الهيئة المصرية العامة للكتاب –القاهرة – ط 1997 – ص 139.
- – يراجع محمد قطب عبد العال – الذات والموضوع…قراءة في القصة القصيرة- سلسلة دراسات أدبية –الهيئة المصرية العامة للكتاب –القاهرة – ط 1994 – ص 6.
- – انظر راؤول إيشلمان – نهاية ما بعد الحداثة – ترجمة أماني أبو رحمة – أروقة للدراسات والترجمة والنشر والتوزيع– القاهرة- 2013 – ص 209 .
- – انظر محمد شبل الكومي – الواقعية الروحية في الأدب والفلسفة- الهيئة المصرية العامة للكتاب –القاهرة – ط 2017 – ص 382.