دراسة بقلم أ.د. طارق منصور
كلية الآداب – جامعة عين شمس
في روايته الأخيرة، شوقي إلى ليلى، يطرح الأديب نشأت المصري عدة أسئلة تشكل العمود الفقري في هذا النص الإبداعي؛ حيث تغوص الرواية في نفس الراوي الرئيس ليلى حاتم، التي تطالعنا في بدايات النص بجر القارىء إلى فضاءات الذاكرة، وكأنها تدعوه للتلاحم معها، ومشاركتها ما مر في حياتها منذ أدركتها الأنوثة، حين تمنت زميلها أثناء الجامعة، دون أن تجروء على البوح بذلك، (ص 9-10) وحتى تَحول الأيام عنها، وإبراز البطاقة الحمراء لها، لتستعد لمغادرة الدنيا وهي قعيدة على كرسي متحرك، وقد فقدت أداة مهمة من أدواتها التي كانت تعينها على البقاء، أعني عالم الأحلام، الذي تارة يعصف بالإنسان حين يظله بسماوات سريالية الألوان، تكسوها قتامة لا تختلف عن قتامة الأيام حين يفقد المرء بوصلة الوجود، وتارة يحنو عليه فيزرع فيه الأمل ويحمله على بساط من سندس، ذي ستائر من حرير، مزركشة بفراشات شفافة، تستمد نورها من ضوء القمر، حين يخطف أبصار المارة، فلا يدركون كم من السعادة أصابها الإنسان، وهو مفتون بالشوق إلى الحبيب. يطرح الأديب نشأت المصري سؤالاً تلو آخر بين ثنايا هذا النص الإجتماعي، ذو الملامح الكلاسيكية-الرومانسية: هل يمكن للأحلام أن تصبح نبراسًا؟ هل لها أن تشكل وجدان المرء، فيحيا بها، وتصبح واقعًا يفر إليه من هجير البشر؟ وماذا لو اصطدمت بواقع يلقى قيوده حول رقبة الإنسان، فهل يمكن الفكاك من القدر؟ ومن رحم النص يخرج علينا سؤال آخر غير مباشر: هل لا يزال الوفاء سمة حية في هذا العصر؟ فوفاء شوقي عبد البديع، البطل الثاني في الرواية، إلى ليلى حاتم، بشكله الفريد، يجعلنا نطرح هذا التساؤل؛ بل لا نبالغ حين نقول أنها أيضا تشير إلى قضية أداء الأمانة، حين أؤتمن شوقي على ليلى وما تملك، فكان نعم المخلص الأمين. كان شوقي عبد البديع تجسيدًا لحلم عاشته ليلى حاتم منذ نعومة أظفارها، لكنها لم تمسك به، إلاَّ في منتصف العقد السادس، بعد أن أصابتها في مقتل سهام فريد سالم، الزوج الذي طرق باب الأسرة ذات يوم، حين كانت ليلى في ريعان الشباب، حيث قررت الأسرة أنه هو الأنسب، لتثبت التجربة أنه هو الوطواط الذي كان يهاجمها في أحلامها، ويحول فراشها إلى ساحة قرمزية داكنة، وهي تقاومه بكل ما أوتيت من قوة. لقد أصبح فريد سالم مصدرًا للكوابيس التي تهاجمها بين الفينة والأخرى، حين ولى حلمها العذري، الممزوج بعطر الشوق والشغف؛ رحلت مشاعر العذارى، وحلت كوابيس الزوج البارد، الذي عاش معها وهو يمارس حياة موازية مع نساء أجنبيات متعللاً بخدمة الوطن، ولا يعرف من الليل إلاَّ كأسًا وشفتين، مع أنجيلا اليهودية، ومن على شاكلتها؛ فتعود ليلى حاتم لتنكب على ذاتها، لترسم لنا عالمها الخاص، على جدران الغربة الباردة كبرودة الزوج، ما بين لندن وواشنطن، ليأخذها العمل في مجال الترجمة الفورية من نفسها، ولو لبعض الوقت، فتنسى مأساتها، التي زاد منها مرض الأب، الذي كان يمثل لها واحة الحب الصافي، بعد أن وضعت جنينها الأول قبيل رحيله بأيام. في مستهل الرواية يدفع لنا الكاتب بعنوان مباغت، متدثر بكثير من الألغاز، يثير الكثير من التكهنات “شوقي إلى ليلى”، وهو عنوان جاذب بحق، يحرك مشاعر القارىء تجاه ليلى مستخدمًا دلالة المعنى، دون أن ندرك أن شوقي هو البطل الثاني في العمل؛ كما يدفع إلينا بعدد من التساؤلات: ماذا وراء الشوق إلى ليلى؟ وإن كان شوقي إسمًا، فلماذا حمل العنوان اسمه بالتوازي مع البطلة؟ هل هناك قصة أو أكثر متدثرة بثياب الشوق؟ هل ليلى هي من تشتاق داخل هذا العمل لحياة ليلى الحالمة، التي نسجتها بخيوط الأمل وظلت دفينة اللاشعور، حتى التقت بشوقي عبد البديع؟ في هذا العمل أطلق الكاتب العنان لليلى حاتم كي تقص علينا حكايتها في هذه الدنيا، منذ خطواتها الأولى في عالم العذارى وحتى استلاب حلمها حين زوجتها الأسرة لضابط، يبدو من الوصف أنه يعمل ضابط استخبارات بسفارتنا بالولايات المتحدة، فريد سالم، الذي وفر لها كل ما تتمناه فتاة سيرتبط اسمها بشخصية مهمة، إضافة إلى شقة فخمة في وسط القاهرة. وسرعان ما سافر الزوجان إلى الولايات المتحدة بحكم العمل، ورويدًا رويدًا أثبتت الغربة لها أنه كائن بشع لا يمكن معاشرته، فالبون شاسع بينهما، حيث انغمس في علاقات مشبوهة، وأصبح ليله مقسمًا بين الشراب والنساء، أما ليلاه فقد أصابها الحزن، وفقدان الأمل في حبيب ظل مستكينًا في أحلامها وذاتها، حين كانت تحلم كرفيقاتها بالفارس المغوار، الذي سيشهر سيفه، ويحطم القيد لأجلها، محتضنًا إياها على صهوة جواده، منطلقًا نحو السماء، حتى تلمس النجوم من فرط النشوة، وحلاوة العشق. تتحدث ليلى حاتم عن نفسها، لكنها تتوقف برهة عن اعترافاتها، لتوجه دفة حديثها نحو القارىء قائلة له: “أكتفي بهذا القدر من حديثي مع نفسي، وأتجه إليكم، أنا اسمي ليلى حاتم، أجلس مع نفسي الآن، في شرفة بيتنا التي طُليت حديثًا، كل غرف بيتنا متشابهة في لون جدرانها…يحلو لي هذه الأيام أن أعترف لنفسي ولا أكذب عليها، ولا أراوغها”. (ص 8) لقد اتسمت اعترافات ليلى في مستهل الرواية بالجرأة الشديدة والصراحة، ليحفز الكاتب من خلالها القارىء على متابعة النص بشغف حتى نهايته، فها هي تقول: “لا بد من العثور على بديل أكثر دفئًا وجرأة منك”، أي من ماجد زميلها بالجامعة، الذي لم يفهم معنى ابتسامتها العريضة له، وقبضها على يده عن التقاء راحتيهما، فخاف من التمادي معها، وانسحب من الميدان. (ص 9-10) وفي موضع آخر تقول: “اعترف بأنني على يقين بأن زوجي فريد، ذا البريق والهالات، مجرد رجل تافه، أما سبب سكوتي فهو أنني أتحاشى الخسائر السريعة، ويلذ لي أن أمنح الأيام فرصة للإعتذار العملي، وأن تسترضيني، أو على الأقل ʼتطبطبʽ على وجعي”. (ص 13) لقد اكتست حياة ليلى الأولى بغمائم وسحب داكنة الألوان، أمطرتها بزخات من الحزن وخيبة الأمل، مع زوج فاسد، مزدوج الشخصية، يدعي حبه للوطن والعمل لأجله، ثم يجاهرها بقوله: “بالطبع أحب مصر، لكنني أحب نفسي أكثر”، (ص 13) وسرعان ما ثار عليها حين وضعت ابنهما الأول في القاهرة، وليس في أمريكا، كما كان يحلم، حتى يكتسب الجنسية الأمريكية، ويعيش من خلاله هناك، حين يتقاعد عن العمل. (ص 13، 17) وفي المقابل يُبرز الكاتب الحس الوطني عند ليلى، وكيف تفاعلت واضطرمت مشاعرها مع نكسة 67، وهزيمة الجيش المصري وقتها من العدو الصهيوني، وكيف تهللت أساريرها حين انتصر جيشنا العظيم عليه في 6 أكتوبر 1973م، وحين ضرب أبناء السويس أعظم البطولات في مقاومة العدو، الذي حاول اقتحام المدينة يوم 24 أكتوبر، وحالوا دون سقوطها بين أنيابه الزرقاء. (ص 18-21) وهنا تروي ليلى: “مضت شهور وسنوات أخرى التهمها الزمن، واشتد حنيني إلى القاهرة، وأحسست باتساع الهوة بيني وبين فريد، وتألمت أكثر حين رأيته غير آبه بمعاهدة كامب ديفيد، وحين قلت له: كيف تُصادق ذئبًا؟ قال: كل الناس ذئاب يا ليلى”؟ (ص 22) عادت ليلى إلى القاهرة، لتبدأ مأساتها مع الابن كريم، الذي التحق بكلية الزراعة، وكانت تراه نسخة من أبيه، لا سيما حين أصيب باضطراب نفسي، أثر على توازنه النفسي وسلامته، وجعل من أفعاله وردودها أمر يخشى منها؛ وقد دفع به الخلل النفسي إلى مرافقة صحبة السوء، ما بين السهر المتواصل، وتعاطي الحشيش معهم؛ بل دخل في علاقة آثمة، كان يستعذبها، مع خادمتهم وردة، زوجة نور صاحب الكشك القريب من العمارة، والذي سرعان ما سافر إلى ليبيا للعمل، حيث غاب هناك وانقطعت أخباره، ليصبح كريم بديلاً عنه، تتجرع معه وردة لذة العشق المحرم، كلما أخذهما الشوق، حتى لاذت منه بالفرار في أحد الأيام، حين انتابته نوبة عصبية، وهمَّ أن يقبض بكلتا يديه على رقبتها، وهما في وضع حميمي، فسحبت ثوبها بهدوء، ثم أفلتت من بين يديه نحو باب الشقة، ومنه فرت إلى الشارع، شبه عارية. (ص 97-98) كان كريم محطة الحزن الثالثة في حياة ليلى، بعد الزواج التعيس، ووفاة الأب؛ حين أدركت من خلال الأطباء أن كريم مريض نفسي، وفي بقائه خارج المشفى خطرٌ على نفسه وعلى من حوله، بل وعليها هي ذاتها، بعد أن هددها بالقتل ذات مرة؛ فقد كان يكره فيها كرهها لأبيه فريد، واحتقارها له، (ص 26) فكان يقبل نحو صورته المعلقة على الحائط في شقة القاهرة ويعطيه التحية العسكرية؛ كما كان يؤثر الحياة مع خالته نجاة على أمه، حيث جمعهما كراهيتهما لليلى. الآن يعالج كريم في المستشفى النفسي، ونجاة تكن كرهًا لأختها ليلى، وفريد رحل عن الدنيا، والوحدة قاتلة، والذكريات ترقص أمام ليلى كل مساء، حين تراودها عن نفسها، فتنظر في المرآة، محاولة أن تستنهض أحلام العذارى في جسد أخذت منه الأيام أكثرمما أعطته، وصار يخطو بحذر نحو المجهول. لم تر ليلى سوى القلم أنيسًا لها في وحدتها، ليعبر عن أحلامها، وخلجات نفسها، ومأساتها؛ فكان العمل كصحفية في مجلة “الوفاء”، التي يرأس تحريرها شوقي عبد البديع، ترياقًا لها من كل الآلام، وكان القلم أداتها السحرية، الذي أوقظ بداخلها عذراء آذار، التي هجرتها منذ ثلاثين عامًا، بعد أن لعب الشوق لشوقي برأسها، وهي ابنة الخامسة والخمسين. تسرد ليلى حكايتها مع شوقي، رئيس التحرير، الذي كان يصطلي بلهيب الشوق إلى حب يعوضه عن برودة الشتاء، الذي خيم على حياته، مع زوجة قيدت أحلامه ببنتين، كانتا بلسمًا وشفاءً لمشاعرة التي تجمدت مع زوجة لم تحاول الاقتراب منه يومًا، وتتوجيه ملكًا على عرشها. (ص 59-60) تزوج شوقي من ليلى، واكتمل النصفان، ليشكلا قلبًا واحدًا، بعد أن رشقهما كيوبيد بسهم نافذ. أخيرًا، وجد كل منهما في الآخر ضالته، وصار هيام ليلى بشوقي لا حدود له، ووفاء شوقي لليلى نموذجًا للعشق السرمدي. غير أن الحياة حين تفتح أبواب السعادة على مصراعيها، يخشى المرء ما تحمله الريح في جعبتها؛ وحين تسرى النشوة في جسد الإنسان، بعد فقد وحرمان، يخشى المرء من تحولها، والتلاشي شيئًا فشيئ. فقد هاجم الزهايمر ليلى، بعد أن ظنت أنها طوت الدنيا تحت جناحيها، وأن طريق السعادة سينتهي إلى جنة العشاق، فتلاشت الذاكرة تدريجيًا، وانسحبت الأحلام، وضاعت الأمال، وولت النشوة إلى حيث اللاعودة؛ وحين أطل الأمل برأسه ثانية، وأعيدت ليلى إلى دار المسنين، التي كانت قد أنشأتها على نفقتها، بعد إجرائها جراحة في المخ، على أمل الشفاء من الزهايمر، سقط شوقي بجوارها مغشيًا عليه، ليحل محلها في غرفة العناية المركزة، بلا أمل في عودة أي منهما إلى الطريق الذي جمعهما في بيت واحد. (ص 111) ومع نهاية الرواية ندرك ماهية الشوق إلى تحقيق الحلم، فقد كان شوقي يعيش بشوقه إلى اليوم الذي يجد ضالته، ويعثر على من تملأ دنياه حبًا وهُيامًا، بعد أن سلبته زوجته كل هذا؛ وعاشت ليلى تشتاق إلى ليلى الساكنة في ذاتها منذ نعومة أظفارها، ورغم ما أصابها من الأيام، لم تفقد الأمل، ولم يمت الحلم بداخلها، حتى التقت شوقي، الذي كان نموذجًا فريدًا في الحب والأمانة والوفاء، وكانت هي له النسمة التي هبت عليه في خريف العمر، ونثرت الشوق على أغصانه، وأطلقت العبير في بستانه، فازداد بها هُيامًا، وعشقًا، بصورة تذكرنا بقصص العشاق، التي تجرعناها في كتب الأدب ونحن صغارًا. ورغم أن الرواية ذات طابع كلاسيكي في المجمل العام، إلاَّ أنها تزينت بأساليب بنيوية استحدثها الكاتب، ووظفها بمهارة بالغة، ليطور بها تقنية السرد، ويضفي على النص بريقًا أدبيًا، تجعله يتلألأ بين يدي القارئ، فيلتهمه التهامًا. لقد عمد الكاتب إلى استخدام تقنية فريدة في التركيب البنائي للنص، حيث جعل الأحلام التي كانت تراودها من حين لآخر، أداة رمزية تعبر عن مشاعرالإنسان وتطورها، حين ينتقل من زمن إلى آخر، ومن دائرة إلى أخرى، ومن عالم إلى آخر، يتضافر فيه الواقع مع المأمول، في متاهات الأيام؛ فمن خلال عشرة أحلام -على الأقل- وردت في النص، نقف على حياة ليلى حاتم، ما بين الصبا وجماله، والغربة وكربتها، والشيخوخة وأوجاعها، والنفس حين تتصارع أمواجها، وتتحول أهوائها وغيرها. والأحلام بالنسبة للبطلة جزء من عالمها، وهي إحدى مكونات الحقيقة لديها، حيث تعيش ساعات إضافية مع كل حلم، فلم يعد اليوم عندها 24 ساعة، بل أطول من ذلك، “لأن ساعات الأحلام أطول بكثير من الساعات الأرضية”، على حد قولها. (ص 35) لقد استخدم الكاتب الأحلام كأداة رمزية تعبر عن كل حالة نفسية تمر بها ليلى، وتعكس ضروب الحياة، التي عاشتها؛ فمن يفسر أحلامها في سنوات زواجها الأولى، أو أثناء أزمة ابنها كريم النفسية، وعلاقتهما المتذبذبة، سيدرك اختلافها عن الأحلام التي راودتها بعد وفاة زوجها فريد سالم، وعودة الأمل إليها، والشوق الذي سرى في أوصالها ثانية، وزواجها من شوقي عبد البديع. لقد جعل الكاتب الأحلام أداة فنية في النص ليعبر بها عن الحالة النفسية لبطلي الرواية الرئيسيين، شوقي وليلى. فبعد خطبتها لفريد سالم جاءها الحلم الأول في الرواية حيث تقول: “نمت، رأيت وطواطًا أحمر اللون، يطارد فراشة تصرخ؛ تأهبتُ لضرب الوطواط برأسي، التي تضخمت لتلحق به، صحوت وأنا ألهث”. (ص 12) وهكذا، جاء الحلم ليغوص في أعماق نفس ليلى، ليكشف عن الصراع النفسي الكامن بداخلها، وعن مخاوفها من المجهول الذي ينتظرها، بعد أن ارتبط مصيرها بزوجها فريد سالم. ولما كان كريم -من وجهة نظرها- امتدادًا لأبيه، كانت تراه في الحلم أيضًا وطواطًا يتخبط في أفق حياتها، وقد اندفع ذات مرة نحو وجهها، وهو يطلق ضحكاته الهيسترية في الفضاء. (ص 36) والتقنية الثانية التي استخدمها الكاتب في هذه الرواية هي فكرة الهامش، الذي يلي النص، حيث من المعروف أن الهامش في المنهج العلمي هو ملك للمؤلف يصول فيه ويجول كيفما شاء، وبما أن ليلى هي الراوي العليم على مدار صفحات الرواية، فقد استحدث المؤلف فكرة الهامش عقب كل فصل من فصولها، ليعطي لنفسه مدخلاً مشروعًا من الناحية الفنية ليسرد علينا ما لم تسرده ليلى، أو ليكشف للقارىء شيئًا من المستور، فيوسع دائرة الضوء حول الأحداث؛ وقد يستدعي المؤلف الأبطال في الهامش، ليروي كل منهم جزءًا من الأحداث، ليكمل النص الأساسي. وقد بلغ الهامش من الطول أحيانًا إحدى عشرة صفحة مقابل صفحة واحدة، هي كل الفصل (انظر: الفصل السابع، ص 95)؛ ومع هذا جاء الهامش مكملاً في محتواه للنص الوارد في الثمانية فصول، التي تتكون منها الرواية، وكأنه استكمال للبناء الفني للرواية. والتقنية الثالثة التي استخدمها الكاتب، إضافة إلى دقته في اختيار عناوين الفصول لتعبر عن محتوى الفصل، هي أنه جعل استفاضة السرد أو اقتضابه داخل الفصل الواحد متناسب مع كل مرحلة من مراحل عمر الراوي، ليلى حاتم، وزخم الأحداث في حياتها، أو نضوبها؛ فالفصل الأول الذي جاء بعنوان “اعترافات ليلى حاتم”، والذي بمثابة البرولوج للرواية، جاء متخمًا بالأحداث، التي شغلت خمس وعشرون صفحة، بينما جاء هامش الفصل الأول خمس صفحات فقط. وعندما مضى العمر بليلى، وأصابها الزهايمر، جاء الفصل السابع فقرة واحدة، في حين جاء هامش الفصل السابع (في المستشفى) إحدى عشرة صفحة؛ وحين جاء الفصل الثامن والأخير (في طاحونة الغياب)، خلا من الكلام، مما يشير إلى أن الذاكرة لدى ليلى توقفت عن العمل، ولم يعد بإمكانها السرد، وهنا يلج المؤلف إلى الهامش ليتولى السرد بنفسه ويختم الرواية. ورغم أن الرواية اجتماعية-رومانسية، تعلي من القيم الإنسانية، في المقام الأول، فإن الكاتب عمد إلى بث إشارات تاريخية وسياسية في فضاءات الأبطال، بعضها جاء في سياق العمل بصورة طبيعية، والآخر جاء متعمدًا من المؤلف، أو لنقل مقحمًا على الأحداث. في مستهل العمل يطالعنا المؤلف بحالة الحب الطاغي التي حصدها الرئيس عبد الناصر -رحمه الله- في مصر وخارجها، حين يأتي على لسان فريد سالم قوله: “أنا أحب بلدي وزعيمها ناصر، فمعه سنكون أقوى من أمريكا ذات يوم”، (ص 14) وكأن الكاتب يتحدث هنا بلسان حاله، فقد عاشت مصر والعرب حلم الوحدة العربية، والقومية العربية مع ناصر، وانكسر الجميع يوم انكسر الحلم العربي، بنكسة 67، التي لم يفته الوقوف عندها في الرواية، وتصوير مشاعر ليلى حاتم المنتشية فرحًا، حين كانت تستمع لبيانات الإذاعة المصرية المزيفة حول مسارات المعارك بصوت المذيع أحمد سعيد، قبل أن ينقشع الغبار عن سماء مصر، ونواجه الحقيقة المرة. وحينئذ، هاجمها كابوس ثقيل الظل أثناء قيلولتها، فرأت الأرض مظلمة، والأفق محترقًا، والخفافيش تهاجمها، يتقدمهم خفاش أصفر طويل الناب. (ص 18-19) جاءت الازدواجية في الحلم هنا لتعبر عن ضعف البلاد بعد النكسة، وتحفز الأعداء للإنقضاض على المارد؛ ويحمل الحلم إسقاطًا أيضًا على ليلى نفسها، وما ستواجهه في المستقبل القريب. والكاتب في الموضع التالي يسجل فرحته بنصر أكتوبر 73 على لسان ليلى، حين تقول: “تبخر حزني الطويل حين تأكدت من معجزة إذلال خط بارليف على شاطىء القناة بسيناء وتركيعه، بخطة مدافع المياه التي ابتكرها الضابط المصري العبقري اللواء المهندس باقي زكي يوسف”. (ص 19) وهنا استخدم الكاتب الفعل يتأكد، ليبين للقارىء أن النصر لا مراء فيه، ويسجل شهادة للتاريخ باسم البطل صاحب فكرة فتح الثغرات في الساتر الترابي بمدافع المياه؛ وإن كانت هذه الشهادة مقحمة على السياق، مما يشير إلى رغبة الكاتب الذاتية في التعبير عن فرحته بالنصر، ولو على حساب البنية السردية في هذا الموضع. ويشير الكاتب إلى قوة القبضة الأمنية في عهد الرئيس مبارك -رحمه الله- حين أمسك الأمن بكتب الطهي والمكياج في بيت ليلى ليلفقوا تهمة لابنها كريم، بأنه يستخدم هذه الكتب في التخفي عن أعين السلطة. (ص 46) وفي موضع آخر ينتقد الكاتب الرئيس مبارك بصورة مباشرة، على لسان ليلى، حين تقول: “مصر الغنية جدًا جدًا لماذا سبقتها دول كثيرة متخلفة؟ رأيت جريدة تتوسطها صورة مبارك، بأي منطق استمر هذا الكائن وجمد مصر ثلاثين عامًا، طال معه ليل مصر، وألقانا في عصر الخيبات”. وتضيف: “مصر مثلك يا شوقي في سبات طويل، لم تعد تحبنا، لكنك لست خائبًا”. (ص 79) وهناك لفتة ذكية من الكاتب، تستدعي الابتسامة، حين جعل من قفا الوزير زمن مبارك مؤشرًا على أدائه وذمته المالية، فذات يوم وليلى وشوقي حاضرين أحد أفراح الكبار، جلس أمامهما أحد الوزراء، وعقبت ليلى على قفاه قائلة: “لم يكن سمينًا مكتنزًا، لعله حريص على حقوق الناس”. (ص 67) ولم يفت الكاتب أن يشير إلى الجموع الثورية التي خرجت في 25 يناير 2011م، فها هي “الأرض تلد بشرًا جديدًا، والأحلام تتنفسن الكل يغني بالصوت وبالصمت، مصر هي أمي”؛ وأخذت ليلى تهتف: لا أمريكا بعد اليوم، لا إسرائيل بعد اليوم، المصري هو سيد العالم كما كان. (ص 80-81) وقد حرص الكاتب على تذييل هذه الأحداث بأن مبارك تم إيداعه مستشفى المعادي تحت الحراسة، وهو يعالج من أمراض الشيخوخة، أثناء محاكمته. (ص 93) وفي ختام الرواية يطرح المؤلف على لسان شوقي صورًا من صور الأمل، فقد عمد إلى ذكر تجربة سنغافورة الاقتصادية والسياسية، حيث تحكمها رئيسة مسلمة، رغم أن تعداد المسلمين بها 15% فقط، وتمكنت من النهوض بالدولة وزرع العدل في أركانها.(ص99) وهنا أقحم المؤلف هذه السردية، غير الضرورية في بناء النص، ليشير إلى أن النهوض بمصر ليس بمعجزة، فقط يحتاج إلى العدالة الاجتماعية، والسلامة السياسية. وفي موضع آخر يجعل من باكستان، وهي إحدى دول العالم الثالث، هي من تكتشف دواءً لعلاج الزهايمر، رغم أن باكستان ليست من الدول الراسخة في العلوم الطبية ككبرى الشركات الغربية التي غنمت مليارات الدولارات أثناء أزمة كوفيد 18، المعروف باسم كورونا، في عام 2020م. (ص109) لقد أراد المؤلف هنا أن ينثر بذور الأمل، وأنه قد يأتي يوم من الأيام ونحاكي الآخر، بل ونتفوق عليه. بيد أن هذه النظرة التفاؤلية سرعان ما ختمها المؤلف بما تم وأقضى مضاجعنا عند منابع النيل الأثيوبية، وكيف أن سد النهضة أصبح طوقًا يخنق النيل، فقد ورد في مذكرات ليلى قولها: “النيل الآن جريح، وسيظل يتألم معنا ولنا، لقد كان إلهًا مصريًا أيام الأجداد، فكيف حال الإله حابي الآن؟”. (ص 104) وهذا النص أيضا، أراه لم يضف للسردية كثيرًا، بل هو رغبة من الكاتب أن يبوح ببعض أوجاعه بين ثنايا الرواية، التي تؤلمه، وتؤرقه حين يغدو أو يروح في أرجاء