تقديم ورؤية: وداد أبوشنب
“داليدا” ذلك الاسم الذي يحمل بين دفتي وجوده (ميلاد.. ورحيل) في هذه الرواية، كيانا مقاوما للفكر والسلوك المجتمعي، وهو يتكرر عبر الأزمان والمجتمعات بالمفهوم ذاته، لكن حسب السياق العام للأحداث والبيئة والشخصيات. عندما تكون عتبة العنوان اسم علم، تكون أيقونة راسخة يستقبلها المتلقي كأحداث أشبه بالسيرة الذاتية التي تستثير فضوله لمعرفة ماهية الروائي الذي يتابعه، ولرصد سيرته السردية المسربة ما بين السطور، وتلك حيلة جميلة تنم عن إتقان النّاص أو الروائي لنسج نصه بدقة وتشويق مع بث رسائله بطرق واعية جدا لمتلقيه..
في رحلة سردية ماتعة مؤلمة مفرحة تتغلغل كل الأحاسيس في دواخلنا، حيث تسكب الروائية من روحها علينا رقيا لم نشهده من قبل، أشبه بالحرف الأرسطوقراطي الذي يعبر عن ألم مكتوم نتحسسه عبر البرامج السردية المنوطة بكل شخصية من الشخصيات، فنلمس الشر ونتقمصه، ونتحسس الخير ونكُونُه، ونبحث عن الحبِّ فنجده. في هذه الرواية تحاول الروائية دينا العزة إيصال تجربتها الحياتية في الكتابة والاتصال بالآخر، وفتح بوابات للنجاة والنجاح عبر طاقات الأمل، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.. هكذا شكلت الروائية بطلتها التي تحمل الرواية اسمها، ودعمتها بشخصيات (بطلة أيضا) تحمل طاقة الأمل ذاتها، على منصة الرواية. شخصيات عانت أقصى أسباب الألم، فاجتمعت على صناعة الأمل والفرح، من هنا يتضح للمتلقي أن الشخصيات المحورية تسير على خط الأهمية ذاته فحضور داليدا، لا يفوق حضور ريم التي لا يفوق حضورها وجود سراب، الشخصية المحورية هنا جماعية على خلاف ما عرف في الروايات النفسية من قبل حيث التشظي لوجود شخصية رئيسية واحدة ومونولوجات متداخلة كثيرة، وهنا يجدر بي التنويه إلى أن الرواية تُصنَّف في إطار الرواية النفسية الاجتماعية، وهذا لا يعني أنّها تقتصر على سرد أحداث بلغة بسيطة أو مباشرة أقرب إلى العامية كما هو معتاد أيضا، بل إنها شُغِلت بلغة عالية الشعرية، غير مرهِقة، كأنما هي دعوة للانبهار، تارة باللغة، وأخرى بسير الأحداث، وحَبْك الرواية تقنيا وفنيا ولغويا وخيالا، كما دلت النصوص المستحضرة تناصا، على ثقافة “داليدا” الشخصية وعلى ثقافة “دينا العزة” الروائية على حد السواء، تلك الثقافة المتشعبة حد السحر الأسود وعبادة الشياطين ومسالك النفس البشرية المريضة منها والسوية.
قصص وحكايات في رواية واحدة، أبدعت الروائية في مَحوَرَةِ عمادها حيث التقاء الشخصيات تنافرا وتجاذبا بطريقة سلسة جدا، إنها صور من الحياة انسابت بأسلوب دينا العزة فشكلت كُلّاً لا ينفصل، بل يتمفصل ببراعة النّاصة واتّساق مخيالها وتراتب عناصره، فيتشظّى الزمن بالسوابق واللواحق، ويتشظى السرد مع الانتقال من راوٍ إلى آخر، وهذا الأمر يلائم تماما الروايات النفسية التي تبحث عن الذات بعد تشتتها، بيد أن الروائية تعود إلى لملمة ما تشظى منها عن طريق خلق جو من الائتلاف بين الشخصيات وتسارع أحداث تصوير الأمل رغم الصعاب.. ما يجعل متلقيها يتنفس الصعداء ويشعر بانتعاش حقيقي بعيدا عن وهم الاكستازيا.
عندما يخالج الإحساسُ التجربةَ والثقافةَ واللغةَ الشاعريةَ تكتمل أسس بناء الرواية ويبقى الطرح قائما على مسرح الحياة، كم يلزمنا من حياة كي نبدأ بداية جديدة؟ وهل يمكن لأي بداية أن تقوم من جديد وتستمر دون الوقوع في مآزق؟ وكم يلزمنا من لغات حتى نسمو إلى حروف نخوض غمارها فتأسرنا ونسافر معها لنتلقى درسا في الحبّ والصبر والتجديد والعطاء؟ وكم من تجربة يلزمنا حتى ينتصر الخير؟ وهل سينتصر بشكل نهائي؟
“داليدا” عنوان الأسى والأمل بحروف من حب ومن ألم ومن فكر، تُحرِّك الذاكرة البشرية، مذ قابيل وهابيل: حياة/موت، ومن طوفان نوح عليه السلام: ابتلاء/انتخاب، ومن تضخم الوجع الإنساني بفعل الإنسان ذاته، ونزغات الشيطان، وما بين أصوات الغضب ولعنات الانتقام وأصداء الشر المجاني، هناك بعض الوقت الجميل نقضيه بذكاء كمّاً وكيفاً في كنف من نحب.. وبالانشغال فيما نحب!؟