عبد الغفور مغوار – المغرب
تحولات البناء الروائي: من نسق التمثيل إلى مختبر السرد
-Iالجذور الكلاسيكية لفنون السرد وأسس التقنية الروائية
مدخل عام
تبدو الرواية اليوم فنا مركبا يجمع بين المتخيل والفكر، بين التقنية الجمالية والوعي التاريخي، وبين الحرية الإبداعية والصرامة البنيوية. لكنها، رغم حداثة ظهورها مقارنة بالشعر والمسرح، تعتمد على تراكم طويل من التجارب السردية التي تعود إلى جذور كلاسيكية أثرت في تصور الكتابة الروائية لقرون. ومن أجل فهم تقنيات الرواية وفنياتها في حاضرها وتطوراتها، لا بد من العودة إلى النواة الأولى التي تشكل وعي الإنسانية بالسرد، وإلى المفاهيم التي أرساها الفكر النقدي القديم حول التمثيل، الحبكة، والراوي، وإلى كيفية تحول هذه المفاهيم مع الزمن حتى بلغت ما نعرفه اليوم من تنويعات سردية متشابكة.
هذا المحور يقدم تأصيلا تاريخيا مفصلا، يتتبع العناصر التي ستؤثر لاحقا في بناء الرواية الحديثة وما بعد الحديثة، مع إبراز العلاقة بين السرد الكلاسيكي ونشأة التكنولوجيا الجمالية للرواية.
1- المفاهيم المؤسسة: التمثيل، الحبكة، والشخصية
كان السرد في بداياته جزءا من رؤية شاملة للعالم تبنى عبر الحكايات والأساطير والملحمات ولم يكن فنا مستقلا. ومع ذلك، أسهمت الفلسفة اليونانية، خصوصا عند أرسطو، في صياغة المصطلحات الأساسية التي ستشق طريقها إلى النقد الروائي لاحقا.
أ) مفهوم التمثيل (Mimesis)
رأى الفكر الكلاسيكي أن السرد، شأنه شأن الفنون الأخرى، يقوم على تمثيل الفعل الإنساني. على الرغم من أن الرواية الحديثة ستتجاوز مفهوم «التقليد» الأرسطي نحو فضاءات أعقد، فإن جوهر العملية السردية – أي بناء عالم مواز يحاكي منطق الواقع – ظل حاضرا. هذا التصور القديم مهد لفكرة العالم الروائي ككيان متماسك داخليا، وهو ما سيصبح ركنا أساسيا في تقنيات الكتابة الروائية المستقبلية.
ب) الحبكة بوصفها مركز البناء
عرف الفكر القديم الحبكة على أساس أنها ترتيبا منظما للوقائع، يضمن تماسك الحدث وتطوراته المنطقية والمشوقة. هذا الفهم هو مبدأ ما عرف لاحقا بـ «البناء الخطي» الذي سيظل مهيمنا على الكتابة الروائية حتى بدايات القرن العشرين.
أهمية الحبكة الكلاسيكية تكمن في أنها تجعل من الرواية عملية توجيه للوقائع بدل جمع لها، وتشترط بداية ووسطا ونهاية، وصراعا، وانفراجا، ومغزى.
ج) الشخصية كأداة لفهم العالم
في المرحلة الكلاسيكية، كانت الشخصية تعرف تبعا لوظائفها داخل الحبكة، باعتبارها أداة تحريك. ومع ذلك، فإن المفاهيم الأساسية حول الصفات، الأخلاق، النيات، المصائر بدأت بالتكون في هذه المرحلة. ومع تطور السرد، ستصبح الشخصية مركز الثقل في الرواية الحديثة.
2- من الملحمة إلى البدايات الروائية: تحول في الوعي السردي
الملحمة القديمة، مثل الإلياذة والأوديسة، تشكل واحدة من أهم منابع السرد الروائي عبر التاريخ. ورغم أن بنيتها الشعرية واشتغالها على البطولات والأساطير يبعدانها عن الرواية كفن حديث، إلا أنها قدمت مبكرا نموذجا متكاملا عن:
– الرحلة كقالب سردي.
– التحول كدينامية جوهرية للشخصيات.
– البناء الزمني المتدرج.
– السارد العليم الذي يطل من كل الجهات.
تشكل هذه المكونات أساسا للبنية الروائية اللاحقة، حتى وإن كانت الرواية الحديثة ستبتعد عن النبرة البطولية للملحمة.
أ) الحكاية الشعبية والمرويات الشفهية
بين الملحمة والرواية، لعبت الحكايات الشعبية والأساطير المروية دورا كبيرا في صياغة تقنيات السرد. فهي:
– تحتفي بتعدد الأصوات
– تشتغل على الإيقاع الحكائي
– توظف التكرار والرموز
وكلها عناصر ستظهر لاحقا في بناء الرواية المتعددة المستويات.
ب) الروايات المبكرة في أوروبا
شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تبلور الأشكال الأولى للرواية بتأثير عوامل اجتماعية وثقافية:
– صعود الطبقة الوسطى
– انتشار الطباعة
– التحول نحو الحياة اليومية
– نزعة الفرد نحو التعبير عن ذاته.
هذه المرحلة ستقدم صيغا سردية متحررة نسبيا من القوالب الملحمية، وأكثر التصاقا بالواقع، مما مهد لظهور الرواية الحديثة.
3- التقنية السردية في المنظور الكلاسيكي
تتمتع المرحلة الكلاسيكية بمجموعة خصائص تقنية واضحة شكلت، لقرون، نموذجا معياريا لما يجب أن تكون عليه الرواية:
أ) السرد الخطي
يتسم بتتابع منطقي للأحداث دون قفزات زمنية معقدة. النموذج الكلاسيكي يفترض أن القارئ يتتبع السرد كما يتتبع رحلة واضحة: بداية – صراع – ذروة – نهاية.
ب) السارد العليم
هو سارد يتجاوز جميع الشخصيات، يعرف ما لا يعرفونه، ويتحكم بالمشهد وتفسير الأحداث.
هذه التقنية تمنح النص سلطة تفسيرية واضحة، لكنها تحد من حرية تعدد وجهات النظر، وهو ما سيحاول الأدب الحديث تفكيكه لاحقا.
ج) اللغة الوصفية التفسيرية
ينظر إلى السرد الكلاسيكي على أنه بناء محكم يخدم وضوح الحبكة، ولذلك كانت اللغة وسيلة تفسير أكثر منها وسيلة تشكيك. فالكاتب في هذا الإطار يمنح القارئ “المعنى جاهزا”.
د) وحدة الزمن والمكان
وهي موروث من الفكر البلاغي القديم، حيث يفضل ألا تتشتت الأحداث زمنيا أو مكانيا في مسارات كثيرة. هذا المبدأ، رغم انحساره لاحقا، ظل مرجعا مهما في تحليل الأعمال الروائية.
4- أثر الرؤية الكلاسيكية على نشوء الرواية الحديثة
عندما ظهرت الرواية الحديثة في أوروبا، لم تقطع مع التراث الكلاسيكي تماما، وإنما استثمرت عناصره بطرق جديدة. فقد:
– حافظت على العالم الروائي المتماسك، لكن مع مزيد من التفاصيل اليومية.
– احتفظت بالحبكة الواضحة، لكن مع تعقيدات نفسية وشخصية أعمق.
– استعملت السارد العليم، قبل أن تظهر أصوات جديدة متعددة.
– انطلقت من البناء الخطي لتطور لاحقا تقنيات التقطيع الزمني.
بمعنى آخر، كانت الرواية الحديثة استمرارا وترميما للموروث، أكثر من كونها ثورة عليه. لكن هذه العلاقة ستتغير جذريا مع الحداثة وما بعدها.
نستخلص أن تجربة الحداثة لم تأت من فراغ، لقد جاءت نتيجة تراكم طويل من المفاهيم والممارسات السردية. فالقرن العشرون سيشهد ظهور تقنيات جديدة تعيد تعريف عناصر الرواية:
– الشخصية لم تعد أداة للحبكة إنها أصبحت وعيا داخليا.
– السارد لم يعد مرجعا يقينيا وإنما صار وجها صوتيا محدودا.
– الزمن لم يعد خطا مستقيما، لقد أصبح نسيجا متعددا للتجربة.
هذا ما سنعالجه في المحور الموالي ضمن تحليل معمق لفنيات الحداثة الروائية.
-II الحداثة الروائية: من مركزية الحدث إلى مركزية الوعي
إن ظهور الحداثة في الفن والأدب أحد أهم التحولات التي عرفها التاريخ الجمالي للإنسان. ففي مطلع القرن العشرين، بل تحولت الرواية إلى فضاء تجريبي يسعى إلى مساءلة العالم الداخلي للإنسان أكثر من مساءلة الوقائع الخارجية، بعد أن كانت مجرد وثيقة اجتماعية أو مرآة للواقع اليومي. ومن هنا ولدت تقنيات جديدة كانت بمثابة ثورة هادئة نقلت السرد من حقبة “الحكاية” إلى حقبة “الوعي”.
قد عرضنا في المحور الأول الأسس التي قامت عليها الرواية الكلاسيكية، وفي هذا المحور الثاني سنذهب إلى النقطة التي بدأ عندها التشقق في ذلك البناء التقليدي، حيث غادرت الرواية مركزها القديم كوسيلة لعرض الأحداث نحو كونها وسيلة لعرض التجربة النفسية والوعي الذاتي.
1- الحداثة كمنعطف جمالي وفلسفي
لا يمكن فصل تحولات الرواية الحداثية عن التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين:
– الثورة الصناعية
– صعود الفردانية
– تقدم العلوم النفسية، خصوصا التحليل النفسي عند فرويد
– تراجع اليقينيات الدينية والعلمية
– الأزمات الكبرى (الحرب العالمية الأولى).
أمام هذا الزخم، وجد الروائي نفسه أمام عالم متنافر ومتغير، لا يمكن التعبير عنه بأدوات السرد الكلاسيكي. ومن ثم بدأت عمليات واسعة لإعادة صياغة مفهوم الرواية.
أ) الرواية كوعاء للوعي
بدلا من تقديم الشخصيات كأدوار في حبكة، بدأت الرواية الحداثية تنظر إلى الشخصية على أنها تجربة داخلية. لم يعد المهم ما يحدث، بل كيف يحدث داخل النفس. هذه النقلة ستؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة جذريا مثل تيار الوعي والمنولوج الداخلي.
ب) الانفصال عن “المرجعية الخارجية”
أصبحت الرواية تبحث عن إعادة تشكيله عبر اللغة والوعي بعدما كانت تصر على محاكاة الواقع. بهذا المعنى، نقول بأن الحداثة كانت إعادة كتابة لمفهوم السرد من جذوره، ولم تكن مجرد تطوير للكلاسيكية.
2- تقنيات الوعي: ثورة جمالية في بناء السرد
أهم ما قدمته الحداثة في مجال الرواية هو إعادة تعريف العلاقة بين اللغة والوعي. وكانت النمساوية Dorrit Cohn من أبرز النقاد الذين درسوا بنية السرد الذهني، خصوصا في كتابها المرجعي ” Transparent Minds“، يستكشف هذا الكتاب جميع تقنيات تمثيل الحياة الذهنية للشخصيات الخيالية، سواء في الرواية التي تتبع تدفق الوعي أو في أشكال أخرى من الخيال. يتناول كل فصل تقنية رئيسية، موضحا من خلال مجموعة واسعة من الأعمال الأدبية للقرنين التاسع عشر والعشرين من قبل مؤلفين مثل ستندال، دوستويفسكي، جيمس، مان، كافكا، جويس، بروست، وولف وساروت. في نفس الوقت يقدم هذا الكتاب تمييزا دقيقا بين نمطين رئيسيين:
– المنولوج الداخلي
– تيار الوعي.
أ) المنولوج الداخلي
هو شكل من أشكال التعبير عن أفكار الشخصية بضمير المتكلم دون تدخل الراوي. إنه صوت داخلي مباشر، لكنه ما يزال منظما نسبيا.
من الأمثلة الشهيرة:
– مقاطع كثيرة في أعمال فيرجينيا وولف
– بعض فصول “مدام بوفاري” التي مهدت لهذا الاتجاه.
يمتاز المنولوج بأنه لغة الذات المصفاة التي تعبر عن رؤية الشخصية للعالم.
ب) تيار الوعي
يمثل أكثر الصيغ الحداثية جرأة، حيث يجري عرض الأفكار كما تتدفق في الدماغ: مشاهد متقطعة، ذكريات، صور لحظية، قفزات زمنية، وانقطاعات. أشهر الأعمال التي جسدته:
– جيمس جويس ” Ulysses ”
– فرجينيا وولف “ Mrs Dalloway ”
– ويليام فوكنر “ The Sound and the Fury ”
– مارسيل بروست “À la recherche du temps perdu ”
على الرغم من أن بروست لا يصنف مباشرة تحت تيار الوعي بالمعنى المتطرف كما عند جويس، إلا أن تقنية الذاكرة اللاإرادية (mémoire involontaire)، والتداعي الحر، والانغماس في أعماق الوعي الداخلي للشخصيات، جعلت عمله أحد أقرب النماذج الفرنسية لأسلوب الوعي الداخلي.
– ناتالي ساروت “Tropismes “
تعتبر ساروت من أوائل المنظرين لمفهوم الحركة النفسية الدقيقة أو الـ tropisme أو التوجهية وهي قوة مظلمة وغير واعية تدفع إلى التصرف بطريقة معينة، فهي حيث كتبت نصوصا قصيرة تحاول الإمساك بالتحركات الميكروسكوبية للوعي قبل أن تتبلور في فعل أو كلمة.
تقدم ساروت شكلا فرنسيا خالصا من تيار الوعي: وعي يتشكل قبل أن يصبح كلمة.
إن تيار الوعي تمرين لغوي وفلسفي على استحضار الذات في لحظتها قبل أن تخضع لأي ترتيب منطقي.
3- الأسلوب الحر غير المباشر: هدم جدار السارد
ساهم الأسلوب الحر غير المباشر (Discours indirect libre) في تخفيف سلطة السارد، إذ يسمح بتداخل صوت الشخصية مع صوت الراوي. وهذه التقنية، التي ارتبطت أساسا بكتابة الفرنسي غوستاف فلوبرت، تتمتع بقوة جمالية لأنها تجعل القارئ يعيش داخل وعي الشخصية دون أن ينقطع عن إطار السرد.
ومن خصائصه:
– لغة السارد تمتزج بلغة الشخصية
– نبرة تتأرجح بين الذات والآخر
– كشف غير مباشر للتحولات النفسية.
أهمية هذه التقنية أنها كانت جسرا بين الرواية الكلاسيكية والحداثية، لأنها لم تهدم البناء الحكائي، لكنها غيرت زاوية النظر تماما.
4- تراجع السارد العليم وصعود السارد المحدود
كانت الحداثة نقطة الانعطاف الحاسمة في مفهوم الراوي. فالسارد العليم، الذي كان يتيح رؤية كلية للأحداث، لم يعد مقبولا في عالم فقد يقينياته.
لذلك ظهرت بدائل أهمها:
أ) السارد المحدود المعرفة
يقدم العالم من خلال منظور شخصية واحدة أو عدد قليل من الشخصيات، بحيث يبقى القارئ محصورا داخل حدود تلك الرؤية.
ب) تعدد الأصوات
وهو ما سيسميه باختين لاحقا بـ “البوليفونيا” أو التعدد الصوتي. هذا الاتجاه كان ثوريا لأن الرواية لم تعد رأيا واحدا، وإنما قد صارت فضاء تتحاور فيه رؤى متعددة، متناقضة أحيانا.
ج) السارد غير الموثوق
وهو أحد أهم ابتكارات الحداثة، حيث يصبح الراوي نفسه محل شك. لا يمكن للقارئ الاعتماد على حكايته، لأنها جزئية أو مخادعة أو مشوشة. هذا السارد سيمهد لاحقا لذروة ما بعد الحداثة.
5- تحولات الزمن الروائي: من الخطية إلى التقطيع
تخلت الرواية الحداثية عن الزمن الخطي لصالح تقنيات جديدة أبرزها:
أ) الاسترجاع (Flashback)
ليس بهدف كشف البنية العاطفية والنفسية للشخصيات وليس لملء فجوات السرد.
ب) الاستباق (Prolepse)
حيث يتم تقديم لمحات مستقبلية تربك خط السرد.
ويعرف الاستباق أيضا بالتنبؤ، فإن ما يسمى بالتقديم الزمني هو توقع سردي يأتي لكسر التوازي بين ترتيب السرد (أو الحكاية) وبين ترتيب الأحداث التي تشكل القصة. بشكل عام، يسمح التقديم بنقل القارئ إلى لحظة أخرى من القصة، متجاوزا خطوة زمنية معينة من خلال حذف مؤقت، وأحيانا يصل إلى التناقض الزمني عندما يكون البناء غير محكم.
ج) تشظي الزمن
وهي تقنية حداثية أصيلة، تجعل الأحداث تبدو وكأنها تحدث في وقت واحد أو في أزمنة متعددة متداخلة، في محاكاة للحياة النفسية للإنسان.
هذه التقنيات ستصبح لاحقا جزءا راسخا من التجريب الروائي.
6- اللغة كأداة اكتشاف: من الوصف إلى الإدراك
الحداثة الروائية لم تنظر إلى اللغة بكونها وسيلة لنقل الوقائع فحسب، فلقد أصبحت اللغة:
– أداة لإعادة تشكيل العالم
– فضاء لإدراك الذات
– مجالا لصنع المعنى.
وهكذا ظهرت لغة روائية تبتعد عن البلاغة الكلاسيكية وتقترب من الشعرية الداخلية.
وكمثال تطبيقي رمزي، يمكن ذكر أعمال فرجينيا وولف، حيث يصبح الوصف لحظة كشف وجودي.
7- خلاصة وتمهيد للجزء الثالث
ما نخرج به من دراسة الحداثة هو أن الرواية تحولت من فن يحكي العالم إلى فن يحكي تجربة الإنسان داخل العالم.
هذا التحول سيبلغ ذروته فيما بعد الحداثة، حيث سيصبح السرد نفسه موضوعا للكتابة، وستظهر تقنيات جذرية مثل:
– السارد غير الموثوق بأقصى صوره
– الميتافكشن (السرد عن السرد)
– تفكيك العالم الروائي
– تعدد العوالم السردية
– اللعب بالهوية والزمن.
وهذا ما سنعالجه مفصلا في المحور الثالث.
-IIIتقنيات كتابة الرواية في الحداثة
يمثل المشروع الحداثي في الرواية واحدة من أهم المنعطفات التي عرفها التخييل السردي في القرن العشرين. فبعد أن رسخت الرواية الكلاسيكية معاييرها الكبرى في القرن التاسع عشر، جاء القرن الجديد ليقلب مسلمات كثيرة، ويعيد بناء السرد على أسس مختلفة تمس الزمن واللغة والشخصية والحبكة، وتعيد النظر في مفهوم الواقع ذاته. لقد أتت الحداثة الروائية برؤية فنية ترى أن العالم لم يعد قابلا للتمثيل الخطي أو للانضباط وفق نموذج واحد، وأن الإنسان المعاصر أكثر تعقيدا من أن يقدم ضمن سرد مستقيم هادئ كما كان عليه الحال عند بلزاك أو جورج إليوت أو فلوبير.
هذا التحول كان تعبيرا عن سؤال فلسفي عميق، عبّر عنه ت. س. إليوت في نصوصه النقدية، وبلوره لاحقا نقاد كبار مثل إريك أورباك (Auerbach) في كتابه المذكور سابقا “محاكاة ” (Mimesis)، الذي اعتبر أن الحداثة كرست للمرة الأولى سرد الأعماق الداخلية بكونه المضمون الأساسي للكتابة. كما أن لوماتر وبول فاليري وريمون كينو وبول ريكور وغيرهم ساهموا في بلورة وعي بأن الرواية باتت مشروعا معرفيا ونفسيا قبل أن تكون مجرد حكاية.
1- تفجير الخطية الزمنية وبناء الزمن الذهني
أحد أقوى التحولات الحداثية هو انتقال الرواية من الزمن الخارجي إلى الزمن النفسي أو الذهني. لم يعد الزمن يقاس بالأحداث، بل بالوعي الذي يعيش تلك الأحداث. مارسيل بروست في “البحث عن الزمن المفقود” يعتبر المثال الأوضح لهذا الاتجاه: فهو لا يستعيد طفولته لأنه يريد سرد ذكريات، بل لأن الذاكرة – كما يرى هنري برغسون في “المدة والزمان” – هي جوهر الوعي. هذا الاختيار يجعل الزمن في الرواية الحداثية:
– غير خطي
– غير مستقر
– يتحرك بين الماضي والحاضر بدافع من التداعي
– يعاد ترتيبه باستمرار.
وقد درس الناقد الفرنسي جيرار جينيت هذه الظاهرة بتفصيل لافت في كتابه “خطاب الحكاية” (Discours du récit)، محددا مفاهيم مثل:
– الاسترجاع (analepses)
– الاستباق (prolepses)
– المفارقة الزمنية.
هذه الأدوات تمنح الرواية الحداثية حرية غير مسبوقة في التعامل مع الزمن، بحيث يصبح البناء الزمني بنية نفسية أكثر منه بنية أحداث.
2- تفكك الحبكة وإعادة بناء الحدث من الداخل
لم تعد الرواية الحداثية تعتمد على حبكة متينة أو عقدة تقود إلى حل نهائي. الحداثة تعتبر ذلك قريبا من “النموذج المسرحي” الذي فقد صلاحيته. تقول فرجينيا وولف في مقالتها الشهيرة “الرواية الحديثة”:
“إن الحياة ليست سلسلة من المصابيح المنارة بالتتابع؛ إنها هالة مضيئة حول الوعي.”
إن هذه العبارة هي الجوهر الذي عبرت به وولف عن رفضها للشكل الروائي التقليدي الفيكتوري، ودعوتها إلى التعبير عن الحياة الداخلية أو “تيار الوعي”، بالنسبة لها:
– السلسلة المتتابعة للمصابيح: ترمز إلى السرد التقليدي الذي يركز على الأحداث الخارجية المتسلسلة والمنظمة زمنيا (الذي اعتبرته زائفا).
– هالة مضيئة حول الوعي: ترمز إلى الواقع كما تختبره النفس البشرية، وهو عبارة عن خليط فوضوي ومتدفق من الأفكار، والمشاعر، والانطباعات العابرة.
ومن هنا أصبحت الحبكة في الحداثة:
– سلسلة من الانطباعات
– مشاهد منفصلة
– بناء ينمو عبر الوعي لا عبر الحدث
– تقاطعات بين الداخل والخارج
– غياب النهاية المطمئنة.
وهذه بعض الأمثلة من الأدب الفرنسي:
* كلود سيمون” La Route des Flandres ” (الطريق إلى فلاندر)
أحد أهم روايات الحداثة الفرنسية وركن أساسي من الرواية الجديدة، نظرا لما فيها من خصال:
+ تفكك كامل للحبكة
+ أحداث تتكرر بوجهات نظر مختلفة
+ ذاكرة تتداخل مع الحاضر
+ أصوات ووعي متعدد.
فالحدث يعاد تشكيله داخل الوعي دون أن يرو بترتيب، مما يجعلها أحد أقوى النماذج الفرنسية.
* آلان روب- غرييه ” La Jalousie” )الغيرة (
هذه الرواية هي معمل سردي حداثي بامتياز، بحيث:
+ لا وجود لحبكة تقليدية
+ لا نعرف حتى يقينا من هو الراوي
+ العالم يقدم كجملة من اللقطات البصرية المتكررة
+ الحدث يلغى لصالح الوصف الذهني.
* ناتالي ساروت ” Tropismes” )الانقباضات النفسية (
كتاب قصير لكنه مؤسس لكتابة الحداثة الفرنسية، يتميز بـ :
+ لا حبكة
+ لا شخصيات واضحة
+ فقط نبضات داخلية صغيرة
+ حدث يتبدد لصالح توترات نفسية دقيقة.
تعتبر ساروت أن الرواية بما مضمونه تمثل ما يحدث تحت سطح الوعي.
* ميشيل بوتور “La Modification ” ) التغيير(
مكتوبة بصيغة المخاطب (أنت)، وتعتبر واحدة من أهم روايات الحداثة، لأن :
+ الحدث كله رحلة بالقطار
+ لكنه يتحول إلى مراجعة داخلية للحياة
+ قفزات زمنية داخل وعي واحد
+ انعدام أي حبكة تقليدية.
الحدث الخارجي أقل من هامشي، بينما الحدث الداخلي هو جوهر العمل.
* كلود مورياك ” Le Dîner en ville”
هذه الرواية تشتغل على:
+ تداخل الأزمنة
+ الوعي الجماعي
+ الحدث كفسيفساء داخلية
+ شخصيات تحضر بالصوت لا بالفعل.
وهي من الأعمال التي رسخت جمالية “الحدث المتشظي”.
3- تفجير مفهوم الشخصية: من “الشخص” إلى “الوعي”
في الرواية الكلاسيكية كانت الشخصية كائنا مستقرا، يمكن القول إنها “تشبه شخصا حقيقيا”.
أما في الحداثة، فقد صارت الشخصية:
– وعيا يتحرك
– ذاتا تتشتت
– صوتا داخليا أكثر مما هي جسد
– شبكة من الأفكار المتدفقة
– كائنا غير مكتمل.
ويعود الفضل في هذا التغيير إلى علم النفس التحليلي (فرويد، يونغ، آدلر)، الذي نقل الاهتمام من الظاهر إلى الباطن، ومن الفعل إلى الرغبة.
وقد حللت الناقدة الفرنسية مونيك موافان (Monique Mauffret) هذا التحول في كتابها حول وولف وجويس، معتبرة أن شخصية الرواية الحداثية تبنى من نسيج الوعي وليس من سيرة جاهزة.
أمثلة:
– الشخصية المتعددة الأصوات عند فوكنر
– الشخصية غير المتمركزة عند بروست
– الشخصية المتماهية مع الوعي عند وولف
– الشخصية الغائبة تقريباً عند روب-غرييه.
4- اللغة كموضوع للرواية: تفكيك الجملة التقليدية
أحد أهم أركان الحداثة الروائية هو التعامل مع اللغة بكونها مادة قابلة للتشكيل بعدما كانت أداة نقل.
لذا نجد:
– جملة طويلة متشابكة (بروست)
– جملة شعورية متموجة (وولف)
– جملة مقطعة متوترة (ساروت)
– جملة تتلاعب بالإيقاع والفراغ (دوراس).
اللغة الحداثية لا تريد تقديم العالم، إنما تريد أن تقول إن العالم غير مستقر، وأن اللغة أقل ثباتا منه.
يقول رولان بارت في “الدرجة الصفر للكتابة” ما مضمونه أن أسلوب الحداثة يقف في المسافة بين اللغة والعالم، حيث يصبح التوتر هو معنى النص.
5- تيار الوعي: الصيغة الحداثية الأكثر جرأة
يمثل تيار الوعي (le flux de conscience) ذروة التقنية الحداثية، وهو أسلوب يقوم على تقديم الوعي كما يتدفق في الذهن. وهذه مجمل خصائصه:
– غياب التراتب المنطقي
– ذكريات متداخلة
– قفزات زمنية
– تراكم صور داخلية
– حضور ضمير المتكلم بقوة.
وقد كرس هذا الأسلوب بشكل لافت لدى:
+ جيمس جويس في “يوليسيس” و”بورتريه الفنان شابا”
+ فرجينيا وولف في “إلى المنارة” و”السيدة دالاواي”
+ وليام فوكنر في “الصخب والغضب”
أما في الأدب الفرنسي، فقد تجلى عند:
+ بروست (التداعي الذاكري)
+ ناتالي ساروت (tropismes)
+ كلود سيمون (الرواية الجديدة)
+ ميشيل بوتور (المونولوج الداخلي)
وقد تناول الناقد Jean-Yves Tadié – جان-إيف تادي هو أحد أبرز وأهم الباحثين في أدب مارسيل بروست ومحرر النسخة المرجعية لكتاب “البحث عن الزمن المفقود” (À la recherche du temps perdu) – هذه الظاهرة في دراسته “بيروغرافيا الوعي عند بروست”، مؤكدا أن الرواية الحداثية وسعت حدود الإدراك لصالح العالم الداخلي.
6- حضور الفلسفة والميتافيزيقا داخل السرد
لا يمكن الحديث عن الرواية الحداثية دون الإشارة إلى حضور الهم الفلسفي. أمثلة:
– “الغثيان” لجان بول سارتر: الوجود والعبث
– “الغريب” لألبير كامو: اللامبالاة والعبث
– “الرجل بلا صفات” لموزيل: الإنسان المفكك
– “الزمن المستعاد” لبروست: الزمن وماهيته
فالحداثة إذن ترى الرواية مختبرا فكريا، لا كما رأت قبل الحداثة أنها فحص لسلوكيات البشر. ومن هنا، يصف ميلان كونديرا الرواية بأنها “فن الوجود” في كتابه المرجعي “فن الرواية”.
7- القارئ كشريك في بناء المعنى
لم تعد الرواية الحداثية تقدّم القصة جاهزة، لقد أصبحت عملا مفتوحا، يتطلب جهودا تأويلية.
وقد حلل أمبرتو إيكو هذا الأمر في كتابه “القارئ في الحكاية” و”العمل المفتوح”، مؤكدا أن:
– النص الحداثي يوزع المعنى
– القارئ يعيد بناء العلاقات بين المقاطع
– السرد يتحول إلى تجربة معرفية.
وهذا التحول سيصبح أساسا لما بعد الحداثة.
فالحداثة كاستنتاج أعادت تشكيل الرواية عبر:
– زمن جديد
– لغة جديدة
– وعي جديد
– شخصية متشظية
– بنية مفتوحة
– فلسفة تسكن السرد.
وبذلك تحولت الرواية من حكاية إلى مختبر للتجربة الإنسانية.
-IVتقنيات كتابة الرواية في ما بعد الحداثة
يمثل الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الرواية تحولا معرفيا وجماليا عميقا، تجاوز مجرد تطوير تقنيات السرد إلى إعادة التفكير في معنى الكتابة نفسها. فإذا كانت الرواية الحداثية قد انشغلت بالوعي واللغة والداخل النفسي، فإن رواية ما بعد الحداثة تتجاوز ذلك نحو مساءلة حدود النص، والزمن، والهوية، والمرجع، ومفهوم الحقيقة. إنها رواية الشك، واللعب، والهجنة، والنص المفتوح المنفلت من مركز ثابت. إنها، بتعبير الناقدة الأميركية ليندا هتشيون في كتابها المرجعي “Poetics of Postmodernism”، رواية تسخر من نفسها ومن العالم معا، لأنها تدرك أن الحقيقة ليست إلا بناء نصيا.
فيما يلي أهم السمات والتقنيات التي تعرف الكتابة الروائية فيما بعد الحداثة.
1- تكسير مبدأ المرجع: العالم لم يعد خارج النص
أحد أبرز تحولات ما بعد الحداثة هو الشك العميق في قدرة النص على تمثيل الواقع. لم يعد السرد يسعى إلى “قول الحقيقة”، إنما يسعى إلى الكشف عن أن الحقيقة نفسها بناء لغوي. يذهب جان فرانسوا ليوتار في “La Condition postmoderne” إلى ما معناه: السرد يفقد سلطته الكبرى، ولا يبقى إلا خطاب مشتت يتنازع التأويل.
لذلك، تعتمد رواية ما بعد الحداثة على:
– مساءلة الحقيقة
– اللعب بالمرجع
– التشكيك في صدق الراوي
– كشف التخييل كعملية صُنعت داخل النص.
وهذا ما نجده مثلا في أعمال ريمون كينو (Exercices de style) حيث يصبح السرد استعراضا لطرق القول وليس لحدث خارجي.
2- التهجين الأسلوبي: اختلاط الأجناس واللغات
تتميز ما بعد الحداثة بفتح الرواية على الأجناس الأخرى:
– السيرة الذاتية والسيرة الغيرية
– المحكي التاريخي
– المقالة
– المذكرات
– الخطاب الفلسفي
– النص الشعري
– الوثائق والصور والأرشيف.
إمبرتو إيكو في “اسم الوردة” يجمع بين التحقيق البوليسي، والتاريخ، والفلسفة، واللاهوت. وفي فرنسا نجد:
– جان إيشينو (Jean Echenoz): رواياته تمزج المغامرة بالسخرية بالأسلوب الصحفي.
– هارفيل ريليه: خليط من التاريخ والخيال والوثائق.
– جان-فيليب توسان: لغة شبه سينمائية بوعي نقدي ذاتي.
ويسمي باختين هذا الطابع بـ الهجنة النصية.
3- الرواية كخطاب حول الرواية (الميتانص = الرواية عن نفسها)
في ما بعد الحداثة، يصبح السرد موضوع نفسه. الرواية تتحدث عن كيفية كتابتها، عن الراوي، عن اللغة، عن أزماتها. أبرز الأمثلة الفرنسية يمكن ذكر:
– ألان روب-غرييه “Dans le labyrinthe”، الرواية تكشف بنيتها خلال كتابتها، وتناقش طريقة سردها.
– ريجيس دوبريه “La Guerre de la terre et du ciel”، النص يعترض على ذاته باستمرار.
إيف بونفوا وبول أوستر (من الخارج): يمزجون الكتابة بالهامش النقدي حولها.
وهنا تشير ليندا هتشيون إلى أن: الرواية ما بعد الحداثية تعري آلياتها، وتكشف لعبتها السردية، لكي تثبت أنها لا تدعي أي حقيقة.
4- تشظي الهوية: الشخصية ليست فردا إنها كيان مركب
يتجاوز السرد ما بعد الحداثي فكرة “الشخصية” المتجانسة. لم تعد الشخصية: ذاتا واحدة، مستقرة، لها جوهر ثابت، لقد أصبحت: كيانا لغويا، وهما سرديا، خطابا يتغير، أدوارا تتبدل حسب السياق …
في فرنسا نرى هذا بوضوح عند:
– باتريك موديانو: الشخصيات تتلاشى بين الذاكرة والنسيان، ولا هوية نهائية لها.
– ماري ندياي: الذات متعددة ومتحولة.
– جورج بيرك (Georges Perec) “La Vie mode d’emploi”: الشخصيات مجرّد عناصر في لعبة تركيب كبرى.
في الفكر، يعود هذا إلى أعمال دريدا حول تفكيك الهوية، وبول ريكور حول الهوية السردية.
5- العبث الجمالي ولعب اللغة
التجريب الشكلي هو السمة الأقوى لما بعد الحداثة:
– روايات بلا فصول
– روايات بلا حبكة
– روايات تُكتب بأوامر رقمية (Queneau)
– روايات تعتمد على القوائم، الخرائط، الرسوم
– قصص تُفكك الجمل والكلمات
– حكايات تُكتب بطرق حسابية (Oulipo).
ومن الأمثلة الفرنسية نستحضر:
– جورج بيرك) – La Disparition اختفاء حرف e من الرواية كلها(
أسطورة في تاريخ التجريب.
– Mathias Énard – Zone
رواية مكتوبة كلها في جملة واحدة طويلة جدا (500 صفحة تقريبا).
6- تلاشي الحدث: من الحدث الخارجي إلى الحركة المفهومية
مثلما تفكك الحداثة الحدث من الداخل، تأتي ما بعد الحداثة لتقول: ليس هناك حدث، هناك تأويل للحدث. ونجد ذلك بوضوح في:
– روائيي الـNouveau Roman (روب-غرييه، ساروت، سيمون)، الذين اكتمل مشروعهم في ما بعد الحداثة.
– جاك ريفييه
– جان-ماري لوكليزيو في أعماله المبكرة والمتأخرة حيث يصبح المكان أهم من الحكاية.
– كريستيان بوبانك: الحدث اختفاء متصاعد.
7- تفكك الزمن إلى لحظات غير متصلة
زمن ما بعد الحداثة ليس مجرد زمن نفسي كما عند الحداثة، إنه:
– زمن بلا مركز
– زمن دائري أو حلزوني
– زمن يعاد ترتيبه حسب المفهوم لا حسب الذاكرة
– زمن متعدد اللغات والسياقات.
مثال فرنسي: جان رولو “Le Ravissement de Lol V. Stein” مارغريت دوراس هنا تعيد الزمن وتكسره، وتقدمه كحركة فقدان لا كترتيب أحداث.
أما في النقد، فقد تناول بول ريكور في ثلاثيته “Temps et récit” هذا التداخل بين الزمن والحكي، مؤكدا أن ما بعد الحداثة تذهب نحو تفكيك الزمن نفسه.
8- حضور القارئ كمشارك في بناء النص
لا تكتمل رواية ما بعد الحداثة إلا بالقارئ، لأنها تعتمد على: الفراغات، الاحتمالات، التأويلات المتعددة، التشتت، الانقطاع …
إيكو في “القارئ في الحكاية” يؤكد أن النص ما بعد الحداثي يصنع حين يقرأ. فالقارئ يركب النص كما لو أنه يحل لغزا.
9- السخرية الكبرى: اللعب على الحقيقة والخيال
السخرية ليست للضحك وإنما هي أداة فلسفية. لأن النص يسخر من: السرد، التاريخ، الذات، القارئ، المفهوم نفسه …
كما في أعمال Michel Houellebecq الذي يسخر من الخطابات المعاصرة كلها.
كاستنتاج، نقول بأن الرواية ما بعد الحداثة تنقلب على نفسها وعلى العالم، وتعيد بناء السرد عبر:
– شك في الحقيقة
– هجنة الأجناس
– تفكيك الهوية
– تجريب في اللغة
– غياب الحدث
– تشتت الزمن
– لعب سردي
– حضور قارئ فعال.
إنها رواية تقول إن العالم متشظٍ، وأن النص ليس مرآة بل أداة تكسير للمرايا.
-Vنحو إعادة تعريف “الحدث” في ضوء حداثات الكتابة الجديدة
إن التحولات التي أحدثتها حداثات القرن العشرين في تقويض بنية السرد التقليدي لم تكن مجرد ثورة جمالية، بل كانت إعادة تفكير جذرية في مفهوم الحدث نفسه؛ الحدث كنقطة توتر، أو لحظة دلالة، أو انبثاق للمعنى. ففي الرواية الكلاسيكية ظل الحدث يرتكز على التعاقب المنطقي والسببية الصارمة، معلقا وجوده على سلطة الزمن الخطي وسلطة السارد العارف. غير أن الحداثة الروائية – بما فرضته من انفصال عن مركزية الحكاية وانشغال بالبنى النفسية واللغوية – أدت إلى تفكك وحدة الحدث وإعادة بنائه ضمن منظومة أكثر هشاشة، وأكثر توترا، وأقرب إلى دينامية التفكير البشري كما تتشكل في وعي الفرد وذاكرته.
ولم يعد الحدث “واقعة تقع”، إنه غدا “عملا يتشكل”، أي أنه فعل لغوي قبل أن يكون واقعة سردية. فالأحداث لم تعد تقاس باتساعها الخارجي كما كان في الماضي، بل بعمق الصدمة الداخلية التي تحدثها في الوعي. بتعبير آخر، انتقل الحدث من الظاهر إلى الداخل؛ من الشبكة الزمنية للأفعال إلى الشبكة الإدراكية للحظة الشعورية. وهذا التحول جعل النص الروائي أقرب إلى طوبوغرافيا داخلية تتحرك وفق نبض الذاكرة، وتقلبات الشعور، وتداعيات اللغة.
ويبرز هذا التحول خصوصا في الروايات التي جعلت الزمن الذاتي بديلا عن الزمن الكرونولوجي، حيث يتحكم اللاوعي في توجيه مسار الحدث، فتغدو “اللحظة العابرة” أهم من الواقعة الكبيرة، ويصبح “التفصيل الصغير” حاملا لدلالة أوسع مما تحمله الأحداث الفخمة في السرد التقليدي. فالحداثة الروائية، في جوهرها، أعادت تعريف القيمة السردية: فليس الضخم هو المهم، وليس المثير هو اللامع، وإنما ما يحدث أثرا ارتجاجيا داخل الذات، وما يفتح في اللغة شقا نحو المجهول.
ومن ثم لم يعد الحدث وحدة مغلقة، فقد أصبح نسيجا مفتوحا يتقاطع فيه الزمن بالمكان، واللغة بالفكرة، والتجربة بالذاكرة، في حركة أقرب إلى الموسيقى منها إلى الهندسة. فالنص لم يعد يبحث عن “ماذا حدث؟” صار يبحث عن “كيف يحدث المعنى؟”؛ ولم يعد يطرح سؤال “الحدث” بما هو واقعة، إنما بما هو إمكانية. إن الحدث في الرواية الحديثة لا يقع في العالم، إنه يقع في اللغة؛ لا يبنى من الخارج إلى الداخل، إنما من الداخل إلى الخارج.
وهنا يظهر المغزى العميق لهذا التحول: إن الروائي الحداثي لا يكتفي بتمثيل العالم، بل يسعى إلى اختراع شكل جديد لوعيه، وبهذا يصبح الحدث مرآة لشروخ الذات الحديثة، ولتشتت المعنى، ولتفكك اليقينيات. ولعل القيمة الأكبر لهذا المسار تكمن في أنه فتح أمام السرد أفقا رحبا لم يكن ممكنا من قبل: أفقا تتجاور فيه التجربة واللغة، الذاكرة والخيال، الفوضى والتركيب، ليولد من مجموعها حدث ليس له مركز، لكنه مشع في كل الاتجاهات.
وهكذا يمكن القول إن الحداثة لم تلغ الحدث بقدر ما نقلته من مجال إلى آخر: من الخارج إلى الداخل، من الواقعي إلى التخييلي، ومن السرد إلى اللغة. ويظل هذا التحول من أهم المنعطفات التي غيرت هندسة الرواية، ودفعت الأدب إلى إعادة التفكير في وظيفته، وفي علاقته بالإنسان والعالم، وبما تبقى من المعنى في زمن يتسارع نحو التشظي.
خاتمة
يتبين أن التحولات التي عرفها مفهوم الحدث في الرواية الحداثية لم تكن مجرد انزياحات أسلوبية، لأنها أصبحت مسارا عميقا نحو إعادة تشييد صلة الكتابة بذاتها وبالعالم. فقد تحرر الحدث من قيود الزمن الخطي ومن سلطة السرد التقليدي ليغدو نقطة توتر معرفي، لحظة اشتعال داخلي، أو ومضة إدراكية تشكل من شظايا الذاكرة ومن نبض الوعي فضاء سرديا جديدا. ومع هذا الانقلاب البنيوي، أصبحت الرواية مجالا للتجريب ولتوسيع إمكانات اللغة، وبات القارئ شريكا في بناء الدلالة غير مجرد متلق لها.
لكن هذه التحولات لا تعني القطيعة مع الحاضر، لأنها تدعونا إلى طرح سؤال آخر أكثر إلحاحا: ما خاصيات الرواية الناجحة اليوم؟
في زمن تتقاطع فيه التكنولوجيا مع التجربة الإنسانية، وتتجاور فيه الهويات المتعددة، وتتصاعد فيه أصوات الهامش كما لم يحدث من قبل، لم يعد الحدث الروائي يكتفي بالتجريب الشكلي أو الانغماس في الداخل، لقد بات يبحث عن اللحظة التي يلتقي فيها الجمالي بالإنساني، واللغوي بالوجودي، والفردي بالجمعي. إن الرواية المدهشة في عصرنا هي التي تخلق حدثها الخاص من المسافة بين الإنسان والعالم، من الصدوع الخفية التي ترسم ملامح كينونته.
ويمكن أن نجد مثالا بليغا لهذا الاتجاه في أعمال جون فوسه (Jon Fosse)، الكاتب النرويجي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2023. فوسه – الذي تقارن أعماله بجماليات الصمت عند بيكيت- لا يكتب عن الأحداث الكبرى، بل عن هشاشة اللحظة، عن اليومي الذي يتشقق ليكشف ما وراءه. في روايته «Septology» مثلا، يقوم الحدث على التكرار، والتأمل، والبحث الروحي عن معنى في عالم متعب لا على الفعل. ورغم بساطة الوقائع، تنجح الكتابة في خلق عمق إنساني يجعل القليل يبدو كثيرا، والصمت يبدو كلاما، والبطء يتحول إلى مجرى كثيف للدلالة.
إن نجاح فوسه – زيادة على كسره للقوالب- يتجلى في قدرته على الإنصات لعالم يتغير بسرعة دون أن يتخلى عن جوهر الأدب: الكشف، والإضاءة، والبحث عن حقيقة الإنسان خلف ضوضاء الحداثة. وهذا ما يجعل أعماله نموذجا للرواية المعاصرة التي تتجاوز حدود الحدث التقليدي لتؤسس حدثا آخر: حدث اللغة، وحدث الوعي، وحدث اللقاء بين القارئ والنص.
وعليه، فإن الطريق نحو كتابة روائية ناجحة في زمننا هذا لا يمر عبر التخيل الفخم وحده، ولا عبر التجريب المحض، وإنما عبر القدرة على الإمساك بتلك اللحظة الدقيقة التي يتقاطع فيها نبض الإنسان مع نبض اللغة. فهناك يولد الحدث الحقيقي: الحدث الذي يقع العالم فحسب ويقع في القارئ نفسه.
لائحة المراجع
– مراجع نظرية ونقدية حول الرواية وأساليبها
- Bakhtine, Mikhaïl. Esthétique et théorie du roman. Gallimard, 1978.
- Barthes, Roland. Le Plaisir du texte. Éditions du Seuil, 1973.
- Barthes, Roland. S/Z. Éditions du Seuil, 1970.
- Butor, Michel. Essais sur le roman. Gallimard, 1969.
- Genette, Gérard. Discours du récit. Éditions du Seuil, 1972.
- Genette, Gérard. Figures III. Éditions du Seuil, 1972.
- Lukács, Georg. La Théorie du roman. Gallimard, 1968.
- Ricoeur, Paul. Temps et récit, 3 tomes. Éditions du Seuil, 1983–1985.
- Sarraute, Nathalie. L’Ère du soupçon. Gallimard, 1956.
- Todorov, Tzvetan. Poétique de la prose. Éditions du Seuil, 1971.
- Woolf, Virginia. Modern Fiction (essay). 1925.
– مراجع حول الحداثة الروائية وبنائها
- Bourdieu, Pierre. Les Règles de l’art : Genèse et structure du champ littéraire. Éditions du Seuil, 1992.
- Deleuze, Gilles & Guattari, Félix. Kafka. Pour une littérature mineure. Minuit, 1975.
- Lyotard, Jean-François. La Condition postmoderne. Minuit, 1979.
– أمثلة سردية فرنسية وعالمية استُشهد بها
- Proust, Marcel. À la recherche du temps perdu. Grasset / Gallimard, 1913–1927.
- Robbe-Grillet, Alain. La Jalousie. Minuit, 1957.
- Claude Simon. La Route des Flandres. Minuit, 1960.
- Nathalie Sarraute. Tropismes. Minuit, 1939.
- Michel Butor. La Modification. Minuit, 1957.
- Louis-Ferdinand Céline. Voyage au bout de la nuit. Denoël, 1932.
- Marguerite Duras. Moderato cantabile. Minuit, 1958.
– أعمال عالمية أشير إليها في التحليل
- James Joyce. Ulysses. 1922.
- William Faulkner. The Sound and the Fury. 1929.
- Virginia Woolf. Mrs Dalloway. 1925.
- Robert Musil. Der Mann ohne Eigenschaften (L’Homme sans qualités). 1930–1942.
- Jon Fosse. Septology. Transit Books (traduction anglaise), 2019–2021.
(النص النرويجي الأصلي نُشر بين 2019–2020).
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية