النبض السومري عند (الأجود)
الناقد عبدالباري المالكي
لكل جيل من الأجيال تجربته الشعرية المتمثلة بنتاج شعرائه وفنانيه الموهوبين والمبدعين ، وهي تجربة تعبر عن سمات وملامح الوجود الذي ولدوا في أجوائه .
وشاعرنا الأجود يكاد يختفي كلياً في نبض سومرييه
حين يصور هموم وآلام أجوائه التي ولدت فيها روحه ودمه ، حتى ليكاد حبره يصبح مساراً كفءًا لفكره الذي عكس ارتباطه بمعاناة وحيرة بني قومه في وجدان متوهج ، ونبرة ثائرة ، وسر ٍ اقتنصه في عمق .
وثمة إطناب – لا أصدق َ منه – لسومرييه الذين ارتبطت زقوراتهم بتاريخ طويل ممتد ، أكسب َ قمحَه وجداناً ملتهباً ، وريحه اكفاً حانيةً استثارت أوتار قيثارتهِ المشدودة بالذكريات التي تتربص العطر في أزهاره والخمرة في ليله وهما يستحيلان الى موسيقى تعانق غصون الآس والسوسن التي تنمو وتنبت لتخص عالماً طفولياً من الصور للسري والغرين .
و (الأجود ) يكتشف في سومرييه انهم ابناء الحياة وأن ألوانهم هي تلك الألوان القادرة على رسم شموخ الجبال ، وصفاء البحر ليوقظ في أهله الحياة التي اختفى شاعرنا كلياً في ضبابها المتكثف عن جثث لابد أن تدفن .
والجثث تلك هي التي قد أحالت الارض بوراً ، وشجرة الحور يبوساً ، والمرايا أجزاءً متناثرة من خوف ، حتى أثقلت نفس شاعرنا وأوجدت فيه من التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت في حرم البردي وأستوطن ، الأمر الذي زاد من انفعالات الشاعر لسبر أغوار مدنه اللايقينية التي اكتظت بالحزن الخافق حين اعتراه عشقٌ مثخن من (داخل حسن) .
وجدلية البحر التي تنبعث كنبوءة سومرية للغزٍ يُحار منه ، هي الاخرى جدلية فطرية يعيش عليها شاعرنا بإشارة الى هزيمة روحية فيه ماتزال شغله الشاغل ، لكفاح فاشل ، فهو اذ يجوس ذلك اللغز دون هوادة ويطرق بابه ، فإنه يخرج بجرحٍ مزرق ّ ، ورؤيا عن الموت غامضة ، وإدانةٍ مريرة لبلالٍ غير بلالٍ قد أذّن ، ولقصبٍ مهدور ، ولزمنٍ ليس ثمة مهرب الى ملاذ فيه من واقع مريب ، ومن فتنة لطالما حذر منها .
والأرق لم يسمح لشاعرنا أن يغمض عينيه نتيجة لحظة ضياعٍ ابدية ضاع فيها كل ما هو أثير ، وتوقف عندها كل متدفق مجيد ، حتى أغرقه ذلك البحر ، وتركه يتغنى بفتى ً مصلوب ، وبوجوه شاحبة على شاطئهِ ، وبأرواح مهجورة عند ساحلهِ ، وبأشكال ممزقة من الغرقى بلا مسكن ، وبصخور جوفاء كالإسفنج مغروسة برماله ، وبفراغ خلفته ريح باردة في أديم السماء حين خلقت ْ له جناحين خرقتهما رصاصة .
ففي قصيدته (السومريون) تكون قافية النون الساكنة هي نقطة الارتكاز مرتبطة بجماليات الصور من حيث القوة والأهمية والخطورة ما يجعلها نقطة أقوى وأوقع معنى .
وفي هذه القصيدة نجد أن الأجود يقرر ماهية صوره الشعرية من خلال الحقائق التي ضمنت قصيدته , فهو لم يكن ليفتت المعنى الواقع لكي يفقدها تماسكها البنائي حتى أصبحت صوره المكانية والزمانية مكتملة التكوين أمام الاذن السامعة الموافقة لمنطق التنسيق للشعور بالاشياء ، (في ليلة مع زقوراتهم ولدوا ) والتي لا تقف عند حدودها الرؤية الشعرية وانما تتجاوزها الى الوجدان والافكار .
وهكذا فان السومري هو صاحب الأقداح المعلاة وهو الزمن كل الزمن ولا عجب ان يعتزله اصحاب الفكر الأجوف ولا غرابة ان يتمسك هذا السومري بالانفراد مع قصبه المهدور ومواويله التي فاحت كالعطر .
انه لا يعلل خسة الانسان وفساده بالفطرة ولا ينسب الشر الى الطبع بل الى الانظمة الجائرة التي يفقد بها الانسان كل أمل ورجاء , حتى اذا حانت لحظة اليأس انتفض الأخيار والأبطال الذين يؤمنون بأن التاريخ لا يولد الّا بأصوات تدوس كل ظلم وطغيان ، فترتفع من الجمع الحاشد امام الادغال غمغمة قوية وتجيش بالحركة ولايمكن لاحد ان يكبح جماح غنائهم وهم الذين احتفظوا بظلهم واستضاؤوا بعاصفة مدوية من الموال والهتاف لا لشيء الا لانهم قد انشقت حناجرهم من غدوقهم الصوفي الذي يكرهونه ، ويزعجهم بشكل كبير تلك الفرصة التي تمنح للنهر ان ينام بين ضفتيه هلال يلوح من نوافذ احلامهم التي تحييهم والتي طالما انتظروا مرورها تحت اشعة شمس الصيف المحرقة عسى ان يحيوا نصيبهم من المجد الفاتح المنتصر فترتفع اصواتهم الخشنة يحدوهم نشيدهم الوطني الذي يحطم الاغلال وياخذهم الى الموت الذي لايهابونه لانهم ولدوا من رحمه .
انه يعيش زمن الظل المؤكد والموال المضيء , انه يرى ذلك وحياً لعصره ومقتضى زمانه , فالمغنون هم وحدهم من رددوا الالحان الرزينة والمعزوفات السويّة , فقد سخروها لينام الهلال بين ضفتي ذلك النهر دون أن يأبهو للانذارات الشريرة والتحذيرات المستمرة التي لا يرون فيها الا غلوّاً واستهتاراً بالروح النضالية والنفسية التي تدور رحاها في خيالهم اتقاء ثورتهم وتمردهم على ظلم الظالمين .
وحين يشتد الالم والغيظ على حد سواء ولا يجد (أجودنا) لواقعه الفاسد علاجاً فانه ينشد تحطيم كل سلاسل و أغلال الانحطاط الفكري والاجتماعي , فهو ينتقد الحكام الجائرين ويندد بالظلم والتحكم ويحمل عليهم حملة شعواء فهو يلوم الناس على تقديس الاشياء .
وهو بذلك قد أدرك غاية أبعد مما كتبه فلا يستولي عليه الاشمئزاز واليأس فهو مازال يعيش في حدود ذاكرته وعشيقته في السر والعلن وما هي سوى بغداد التي يتحسس آلامها ويتطلع اليها أن تكون قوية ومتحررة من العبودية التي رزحت طويلاً تحت نيرها الثقيل وعانت ما عانت من الحروب وهزتها الكوارث والخسائر والآلام هزّاً عنيفاً .
ان عملية الابداع الشعري تمثل اقوى ما تتمثل في ابداع اللغة والصورة , والشاعر هو الذي يصنع لغته وصورته , ولشاعرنا لغته الخاصة وصوره المتعددة وهي وسيلة تواصل ناجحة بينه وبين قرائه , فأي تعبير مغنٍ هو أداة توصيل من ابداعه الى متذوقيه فهو يستخدم تلك اللغة التي يعيشها القارئ في حياته الاجتماعية بطاقة تعبيرية مصفاة ومكثفة .
و هي فكرة نبض تنضوي تحتها حقيقة استعاراتٍ خاطب بها شاعرنا قرّاءهُ وهذا ما يسمى بسرّ الشعر .
فسرُّ ( أجودنا) في نجاح قصائده أنها المفتاح لأحساس نابض تربى عليه الشاعر بذوق لاءم نبض الحياة الراهنة وباسلوب يشعر بها القارىء على أنها ليست مجرد لفظ له دلالة أو معنى وانما صارت تجسيماً حياً لوجوده حتى اذا اتحدّت اللغة والوجود في منظور شاعرنا صار هذا الاتحاد ضرورة لا بديل له , تلك الضرورة التي يقررها شاعرنا لنفسه والتي من شأنها أن تجعل لكل جزء فيه حياة جديدة وتجربة خاصة .
ان شاعرنا كمن يحتفظ في خزائنه المعجم اللغوي ويستخرج منها ليضعها على افكاره دون أن تكون منفصلة عن وجوده , وليمنحها وظيفتها الحقيقية من حكمة خالية من الالفاظ المحشوة .
فدور الكلمة في شعر أجود مجبل هو التلاحم ما بينها وبين التجربة الحية له ما يجعلها كياناً متفرداً عن كل ما عداه .
فالطين وأسرار هيبته والشمس الماحقة للظلام وطفل يتيم ضاع وسط البحر , وزهرتين يحاول بهما اقناع رمله لينمو فيه حقل حنّاء , كل ذلك هو ما تنطق الحياة الواقعية وهي ليست مجرد كلمات وصفية , وكأن هذه اللغة هي بكر تجتمع فيها أبعاد تجربته الواقعية وتتولد نتيجة البحث والتنقيب , فهي ليست لغة يتجاوز بها شاعرنا قشرة الوجود الى أعماقه , وان كل الكائنات الحية وغير الحية في الكون في منظور شاعرنا ليست الا حروفاً ينسج منها الوجود الكلي لغته .
وليس ذلك ببعيد حين نرى شخصيات شاعرنا الاسطورية والماضية قد ارتبطت بمعاناة الانسان المعاصر في شتى صور قصائده ، ويتمثل هذا الجانب بانتهاج شاعرنا منهج الاسطورة في التعبير عن موقفه الشعوري ، وهو منهج تعبيري غلب على اسلوب كثير من قصائده التي تبلورت فيها رموز شاعرنا فأصبحت حية دائماً لأنها هي ذات الشاعر ومعاناته ومعاناة ابناء مجتمعه ووطنه , فما بين ندمان انصرفوا الى مغنٍ قد اغتيل الى قيثارة سرقت , ومفتاح جنة قد ضاع , وقرطبة بكت عليها قريش وعصفورين لم يجدا غصناً والماء قبر جماعي وخمر النبوءات الى غير ذلك انما هي مدلولات شعورية خاصة توحي بالمشاعر الإنسانية الحزينة والحالمة بنفس الوقت .
قصيدة (السَّومريون)
في ليلةٍ مع زقُّوراتِهم وُلِدوا
والقمحُ مازالَ طفلاً بعدُ لم يُطحَنْ
فاستقبلَتهُم أكُفُّ الريحِ حانيةً
وعانقَتهم غُصونُ الآسِ والسوسَنْ
أوراقُهُم طينُ هذي الأرضِ حِينَ وَعَوا
وحِبرُهم دمعُها السِّريُّ والغِريَنْ
السومريونَ بَنّاؤو مدائنِهم
باللايقينِ
وبرقٍ فيهِ لا يُضمَنْ
لذاكَ هم يخزِنونَ البرقَ في دمِهم
وليس شيءٌ لدَيهم غيرَه يُخزَنْ
هنا أناروا عَشِيّاتِ العِناقِ ،
هنا (داخل حسن) يعتريهم عشقُه المُثخَنْ
…………………………
السَّومريونَ أبناءُ الحياةِ
وما أنتم سِوى جُثَثٍ
لابدَّ أن تُدفَنْ
مِن أين جئتم؟
وكيف استسلمت مُدُنٌ لكم؟
وأيُّ بِلالٍ فوقَها أذَّنْ؟
وكيفَ هزَّ المرايا الخوفُ فانكسرَت؟
ومَن سيجمعُ أجزاءَ المرايا مَنْ؟
لم تَبقَ أغنيةٌ لم تسفِكوا دَمَها
ولا نهارٌ على الأبوابِ لم يُطعَنْ
نحن اخترعنا لهذا الليلِ خمرتَهُ
ثُمَّ اقترحنا على الأقداحِ أن تَأمَنْ
سِرنا هُداةً وجيفارا مشى معنا
والشيخُ ماركيز يَروي (موتَه المُعلَنْ)
…………………………
السومريُّ إذا ارتابَ الطغاةُ بهِ
أقامَ في حَرَمِ البرديِّ واستوطَنْ
أشارَ للماءِ أن يختارَ ثورتَهُ
وقالَ للقصبِ المهدورِ : لا تحزَنْ
فاحَت مواويلُهُ في كلِّ مُفترَقٍ
كالعطرِ يرفُضُ في الأزهارِ أن يُسجَنْ
تُصغي لروعةِ مُوسيقاهُ
آلهةٌ نشوى
وفي يدِهِ قِيثارُهُ الأثمَنْ
شبعادُ قالت له
: إنّي أحبُّكَ يا فَتايَ
فَلْتحتضِنْ بي كُلَّ ما يُحضَنْ
البحرُ لُغزٌ فلا تُوقِنْ بهِ أبداً
يوماً سيغرَقُ فيهِ كُلُّ مَن أيقَنْ
وحينَ يرحلُ هذا البحرُ مبتعِداً
يظلُّ مِن بعدِهِ الغرقى بلا مَسكَنْ
………………………
السومريُّ له الأقداحُ باقيةً
إن ذاقَها قمرٌ في ليلةٍ أدمَنْ
لا تُزعجوهُ رجاءً
واحذروا زمناً في قلبِهِ
فهو لا يدري متى يُفتَنْ