ديوان “جنون الأماني” ورُقِيّ المشاعر الإنسانية
كتب إبراهيم موسى النحَّاس:
في ديوانها الشعري الرابع “جنون الأماني” تقدِّم لنا الشاعرة المصرية عواطف درويش رؤية تقوم على ترسيخ المشاعر الإنسانية الراقية في قصيدة تقوم لغتها على السلاسة التي لا غموض فيها ولا تعقيد، مع بِنْيَة إيقاعية تؤثّر في نفس القارئ، إضافة إلى خيال خصب نبع من خبرتها الطويلة في كتابة القصيدة باللهجة العامية المصرية إضافة إلى استفادتها من الأنواع الأدبية الأخرى بسبب ثقافتها الواسعة.
أوَّل عتبة نصيَّة تطالعنا بها الشاعرة هي عتبة العنوان، حيث نلمس فلسفتها الخاصة في وضع عناوين قصائدها، إذ نجد العنوان كثيرًا ما يحمل دلالات رمزية ولا تعطي المعنى كاملا لتدفع القارئ بتشويق مُتعمَّد إلى قراءة النص كاملا لجيب على التساؤلات التي يطرحها عنوان القصيدة، فنجد عناوين مثل: (( جنون الأماني – في عِزِّ البرد – يِهِلّ الليل – قلوب العطشانين – في الوداع – أبدًا يا قلبي…وهكذا)).
كما تطالعنا بتقدير وتعظيم الشعر ومعاناة الشاعر ومعاناة مَن حوله معه في قصيدة “بِين حروفه” حين تقول:
((كان بيكتِبْ
كُلّ حَرفِ بِالقلمْ
قالْ وقالْ
وهُوَّ بيداري الألمْ
حَسِّيتْ كَإنُّه
فْلَحْظَة مِنِّي
كانَ كلَام زَيّ المَنَامْ
كُلّ شَيءْ قُدَّام عِينَيَّااااا
كان هُلامْ)).
ثم يتطوَّرالجانب الإنساني المتمثل في الخوف من انقضاء العمر حتى أنَّ الأحلام تراود المنام برغم ما تحمله تلك الأحلام والمشاعر من مخاوف، في ختام نفس القصيدة السابقة التي انتهت بالمفارقة الرائعة حين تقول:
((مَرَّة وَاحِدَة
لَمَسْت حَاجَة
حِلوَة
مَرَّة
جُوَّه قلبِي
قُلت إيْه يَّالحِكَايَة
تكُونش قِصَّة بِدُون بِدَايَة
وَلَّا دِي هِيَّ النِهَايَة
كُلّ دا بِلَمْسِة سَلامْ
وَلَّا إحْسَاسْ بِالكلامْ
إنتِخايفة
أيْوَهخايفة
إللَّي بَاقِي ينْكِسِرْ
يسِيبْ جِرَاحْ
والعُمْررَاح
قُلت خِيرْ
إنشالله خِيْرْ
قُمْت وِصْحِيتْ
مِ المَنَام)).
وتأتي الأم كأعظم قيمة إنسانية عبَّرَتْ عنها الشاعرة في قصيدة “الزمن الجميل” حيث تقول:
((عَايشَةحَالة
اسْمَهَا
الزَّمَن الجَمِيلْ
شُفْت أُمِّي
فِيهَا طِيْبَة
وِبْعِينِيها شَلّ المَحَبَّة
وِفْ إيدِيها
عُمْرَهَا
تِسْقِي مِنُّه
الأحِبَّة كُلُّهَا
كُنْتِ نَبْعِي
وِحَنانَي
تِرْوِيقلبِي
مِن حَنَانِكْ
أيْوَه إنتي
الكُوْن بِحالُه)).
وعلى الجانب الفني نجد توظيف لغة الحوار في قصيدة “فات الوقت” مما يعطي للنص حيوية وقدرة على التأثير في نفس القارئ مع الصدق الفني والتخيُّل في قصيدة حملت عنوان “فات الوقت” وتقول فيها:
((بَعْدما فات الوَقْت
يا قلبي
جاي بتِحْلمْ
تُشُوف أفراحي
بتقُولْ لِيآ دِي حنيني
واِرسِمِي صُورَة
فِيهَا بَسَاتِيني
إزَّاي يا قلبي
تِرْجَعْ تَانِي وِترَجَّعْنِي
لعُمْر ناسيني
فَات وَسَبَقْنِي
رَدّ عَلِيًّا القلب وقالْ لِي
الْفَرْحَة بترقص
في عِينِيكي
لمَّاإيديكي
حَضَنِتْ إيدُه)).
كذلك توظف الشاعرة المعجم المرتبط ببيئتها ، ولأن الشاعرة من مدينة بورسعيد – إحدى المدن المصرية الساحلية- حضر البحر بكل مفرداته بقوة داخل الديوان، ولنتأمَّل مفردات قصيدة ” زَي البحور ما تبان” التي عبَّرَتْ فيها بعمق فلسفي عن تفاوت البشر في صفاتهم، فتقول:
((شُفْت
الْبُحُورأشْكَالْ
مليانة بِالْأَلْوَان
بَحْرالْحَيَاة شدِّنِي
مُوجَة وَرَا
التانية
غَرِقِتْ بُحُورْهَا
طُوفانْ
بَشرْ
على كُلّ لوْنْ
فِيهَا القلوب أَلْوَانْ
فِيه الملامح
بَيَاضْ
والقلبْ كُلُّه سَوَادْ
حَتَّى السَّوَادْ ما يبانْ
أيْوَهالبَشرْألوَانْ
في ناسْ قلوبه انهارْ
آصْفَى مِن الْأَنْهَارْ
مِنْهَا الضِّيَا وَالنُّورْ
نُورْهَا مِنْ الرَّحْمَنْ
جُوّه الْحَيَاة نلاقي
بَشرْ
لُؤْلُؤ مَعمَرْ جَان)).
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إن الشاعرة عواطف درويش في ديوانها ((جنون الأماني)) ترتكز على المشاعر الإنسانية الراقية التي تُعظّم قيمة الأم، وأرض المنشأ، والحب كقيمة إنسانية رفيعة في قصيدة وظفت لغة الحوار والمعجم المأخوذ من البيئة الساحلية التي تعتز بالانتماء إليها مع بنية إيقاعية سريعة مؤثرة في المتلقي مع عمق فلسفي تجاه الكون والحياة والناس، بل امتد هذا البعد الفلسفي ليشمل عناوين القصائد أيضًا.