((ديوان “قِدِّيسٌ هو”…..بين تجليَّات الذات وحضور المكان))

 

 

كتب إبراهيم موسى النحَّاس:

في ديوانه الشعري الجديد”قِدِّيسٌ هو” يقدِّم لنا الشاعر سامي دياب رؤية تقوم على المزج بين حضور الذات و تجليَّات المكان, في قصيدة تتبنَّى التجديد في الصورة الشعرية والمعجم الخاص داخل النص، وكي يتحقق هذا المزج اتسع الحقل الدلالي للمكان ليشمل مدلولات متعددة ضمَّت التفاصيل الصغيرة بعيدًا عن المفهوم التقليدي للمكان المتمثل أحيانًا في فكرة الأرض أو الوطن كقضية كلية، ليتسع مفهوم المكان داخل الديوان ليشمل الشوارع وأعمدتها والفاترينات والمِرآة والنافذة والسماء…وهكذا.

فنجد المكان متمثّلًا في الشوارع وأعمدتها للتعبير عن اغتراب الذات الشاعرة ومعاناتها داخل مجتمعها، فيقول في قصيدة “البكاء بين يدَي أعمدة الشوارع” ص7:

((رُبَّمالأنَّأعمدةالشوارع

هيالوحيدةالتىأحسَّتْبك

انتظرتكحتىطلوعالفجر

كيتشارككالبكاء !

وخبأتلكَآخِرذراتالضوء

لتكفنفيهاحلمك

ورُبَّمالأنَّهالنتقايضه ..

أوتساومعليهعُمَّالالبلديَّة

حينيفصِّلونلهاثوبًاجديدًا

قبيلمرور ” السيِّدالوزير ”

أوتتركهجثةهامدةلمناقيرالعصافير

حينتفقأعيونهافيأواخرمارس

بالقش؛وبأحلامهاالصغيرة .

أعتقدأنَّهالنتهربكمافعلتُ

مهماربطواأعناقها

منكلِّالجهات

مهمابدَّلواقبلتها ..

لنتركعإلّاللسماء)).

نفس الملمح نجده في قصيدة حملت عنوان “الشارع” ص 55، 56 حين يقول:

((يا لَقلبِهالممتلئبالسذاجة

يتَّسعلكلِّأوجاعنا؛

وبصقاتناعلىوجهه؛

وأحلامناالضائعة ..

دونماأنيصفعناعلىوجوهنا

كبردالشتاء

أويجرحقلوبناكأحِبَّةخائنة

يتحمَّلذاكالضجيجبمفرده

و ” قلةأدب ” الكثيرينتجاهه

وذاكالألمالذىيعتصره

وهويوَسِّدكلَّهذهالأجسادصدره

كلليلة ..

تتعرَّىأمامهكثيرًا

وقديمنحهابعضًامنالخفاء

والطمأنينة

لتنظفملابسهاالمُتّسِخة .

ثمَّةزهورٌ ذابلةتُتركلهفيالنهاية

وبقايانقوشوأمنياتعلىصدره

يدافععنهاباستماتة

كأنَّهاله

يخاصمالمطروالريح

ويغلقمجالهالجوِّيفىوجههما

إنفكّرافيالاقتراب .

هوالذىلميُفكّرأحدمِنَّا

أنيمنحهقُبلةفيالصباح

أويحملعنه ..

بعضهذاالعِبءالثقيل

هوالذيلاينامإلّا

غارقافيدموعأبنائنا

الذينتنكّرنالهُم ..

ومنحهماسمه!)).

 

كما يوظف الشاعر الفاترينات وما بها من تماثيل – كمكان – للتعبير عن معاناة الذات الشاعرة مع واقعها، فيقول في قصيدة”التمثال” ص 12:

((لكَمهيسعيدةتماثيلالفاترينات

ملابسجديدةبلاانقطاع؛

سجنٌزجاجيٌّهش؛

قلوبٌلاتعرفالألم؛

ولاالجوع  !

هىبطلةالعَرْضِفىكلِّ المواسم

تظلُّترويحكاياتهاالمثيرة

منعالمهاالزجاجيّ ..

دونأنيصادرَ لهاأحدٌرأيًا .

لاتعرفبَرْدالجيوبالخاوية

فىالشتاء

ونحيبالأطفالمحرقةللأبالعجوز

الذىأرهقهعناءالتفكير

فىكارثةإلغاءالدعم

كيفسيوفِّرلهُمْ فيالغدرغيفالخبز؟)).

كما تتسع المدلولات للنافذة باعتبارها مكانًا في قصيدة “هي ذكية للغاية” ص 52 حيث يقول:

 

((تتركالنافذةمواربة

أمامقلبيالجائع

فتنطلقخفافيشهثائرة ..

وقبلأنتصعدلبقعةالضوء

توصدالنافذةدونها

وفيالصباحتحاكمني ..

بتهمةالخيانة

وأنَّاللومكلَّاللومعلىالجوع

والقلبالذيلميضبطمشاعره)).

يوظف الشاعر أيضًا السماء بأبعادها الدلالية الرمزية للتعبير عن رؤيته المرتبطة بالحلم الرومانسي في قصيدة “رُبَّما” ص 79 حين يقول:

((متشابهان … أناوأنتِ

فأناطيلةعمري

أطيّرعصافير قلبي

إلىالسماءولا تعود

وأنتِدائمًاماتفتحين

قلبكِللسماء

ولاتدخلالعصافير

فتعالينتبادلالأدوار

أونبتعدخطوة .. أوخطوتين

عن ” الشاخص ”

المُعلّقفوقوجوهنا

فرُبَّماتدركالعصافير

أنهلاثمَّةخطرٌ ينتظرها

فتعودوتحطّ

وأنَّكلَّالقنابلِالتيتنتظرنا

رُبَّمايقاومقلبُها ..

الفتيلَالمُشتعِلَ

ويفوّتالفرصةعلىالانفجار!)).

ومن أشد الحقول الدلالية ألمًا توظيف الشارع وتحديدًا شارع صلاح سالم للتعبير عن الحزن الشديدة في قصيدته الرثائية للشاعر (محمد أبو المجد) التي حملت عنوان ” الموت يفشل أحيانًا” حيث يقول في ص 73:

 

((تسحَّبَعلىأطرافأصابعه ..

تخفَّىفىإطاراتالسياراتالمسرعة

محاولًااقتناصروحك

بشارع ” صلاحسالم ”

لكنَّهافرّتْكفرخحَمَامإلىالسماء

تاركةلهالجسد .

فنَمْقريرالعينياصديقي

لقدنجوتَ

وسافرتَ رغمًاعنهإلىهناك

دُوْنَالحصولعلىتأشيرةسَفَرٍ

أوإشهارأوراقكالثبوتية)).

وتبقى المِرآة باعتبارها مكانًا تخلق العالم الموازي الجميل الذي يخفف من وطأة متاعب الواقع وسلبياته على الذات الشاعرة ، فيقول في قصيدة “حتى المِرآة تحبك” ص 19:

((أنظرُفيالمِرآةمُبتسِمًا ..

كمأبدوجميلا؛

وأناأصفِّفُشَعْريالناعم؛

وأناأعدِّدُالجزرالغرقى

بعينَيَّالساحرتين

وأناوأنا …

وكمتسحرنيتلكالشامة

علىخدَّيكِ

وهىتتدلىتشربمنبحرٍلجِيّ .))

وعلى المستوى الفني نجد تنوُّع قصائد الديوان بين القصائد الطويلة نسبيًّا إضافة إلى القصيدة القصيرة القائمة على التكثيف الدلالي كما في قصيدة ((حالمة)) ص 31، كما نجد القصيدة القائمة على التفكيك من خلال تقسيم بنيتها إلى عدد من المقاطع الصغيرة مثل قصيدة ((أحبك بشكل مختلف)) ص 41 حيث جاءت القصيدة في ستة مقاطع، كل هذا جاء في لغة بعيدة كل البعد عن التقريرية سواء على مستوى المعجم الشعري أو على مستوى الخيالوالتوظيف المجازي والرمزي للغة، فعلى مستوى المعجم الشعري نجد الشاعر يُضفِّر ألفاظا تنتمي للمعجم التراثي كي يؤكد أن قصيدة النثر ليست منقطعة معرفيًّا ولا جماليًّا مع الأصالة، نجد هذا المعجم في قصيدة ((مجاز مُرسَل)) ص 95، وقصيدة ((مراوَدَة)) ص 99 حين يقول فيها :

((اخلعينعليكِ ..

إنَّكِبقلبيالمُعذَّبِ

وهزِّيبجذعالنخلة

ريثماأستخلصلكِأرغفةالخبز

منألمروحي

وأدّسالسمَّ لأنيابالكلاب

التي …

رشقتفىبلحكِالمُدَلّى)).

وعللى مستوى الخيال والمجاز نجد اللغة الشعرية القائمة على التشبيه في قصيدة ((وداع لا يليق)) ص 37، والتشبيهات الجديدة المبتكرَة في قصيدة ((أناكوندا)) ص 47، والصورة الجديدة المراوغة التي تنظر بنظرة مختلفة للأشياء، في تلك اللغة الثرية وذلك الخيال الخصب في قصيدة حملت عنوان ((لو)) ص 87 ، فنرى الأحجار قلبها طيِّب وتُفرغ االثمار حين يقول:

((لوأنَّالأحجار؛

تمهّلتْقليلا …

أوحكّمتقلبهاالطيِّب

قبلأنتفزعالثمار

علىهذاالنحو .

تلكالثمارالتيما زالت

تضمِّدجرحالنخلة؛

وتمحومنذاكرتها

الذينسقطوا؛

والذينحاولواإسقاطها)).

من تلك القراءة يمكن أن نقول إنَّ ديوان ((قِدِّيسٌ هو)) للشاعر سامي دياب تقوم رؤيته على الاتكاء على المكان للتعبير عن معاناة الذات الشاعرة في واقعها بما قد يحمله هذا الواقع من سلبيات من خلال قصيدة تهتم بالتكثيف الدلالي والخيال الخصب القائم على الرمزية مع توظيف للمعجم التراثي أحيانًا تأكيدًا منه على عدم انقطاع قصيدته معرفيًّا وجماليًّا مع الأصالة التي تربينا عليها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!