رواية (رغوة سوداء) للروائي الإريتيري حجي جابر، صادرة في طبعتها الأولى عن دار التنوير للطباعة والنشر في مصر عام 2018 تتناول في صفحاتها التي تتجاوز خمسين ومائتي صفحة موضوعاً قلَّ من طرقه. إنه موضوع اليهود الإثيوبيين المعروفين بـ (الفلاشا) ورحلتهم إلى أرض المعاد.. بطل الرواية يهودي مزيّف اندس بين الراحلين متخذاً من الكذب والتزوير وسائل لتحاشي المشكلات، ووسائل للعبور إلى مبتغاه. أيُّ بؤس يجعل مواطناً إريتيرياً يتخلّى عن جنسيته وأهله ووطنه ليتعلّق بأهداب حفنة يهود مدعياً أنه منهم للخروج من عالمه وواقعه؟!
كان حجي جابر متمكناً إلى حد بعيد حتى يخرج لنا بهذا العمل النادر. يحدثنا حديث الخبير العارف بكل أجزاء الرحلة وخط سيرها وكأنه قد خاض التجربة بنفسه. لكن السر افتضح حين قرأت في ختام الرواية شكره لفريق عمل كان لكلٍّ منهم مهمته، فهناك – مثلاً – وزارة الثقافة الفلسطينية التي وجهت له الدعوة لزيارة القدس، وهناك الصحفية نضال رافع التي رتبت له زيارة المسجد الأقصى.
المشاهد تتوالى دون ترتيب، وكثيراً ما ينتقل بنا الروائي من مشهد إلى آخر وكأننا أمام شاشة مجزأة نشاهد أقسامها في آن واحد. فهناك مشاهد من (أسمرة) وواديها الأزرق المعد لتعذيب العصاة، ومشاهد من مخيم هيئة الأمم في (أنداغابونا) لتوزيع اللاجئين على المناطق الآمنة، ومخيم (غوندار) المعد لتأهيل المغادرين إلى إسرائيل، ومشاهد من أديس أبابا ومطارها، ثم مطار (بن غوريون) وتل أبيب وحارة الأفارقة فيها، ثم القدس ومعالمها الدينية والأثرية.
يضعنا بطل الرواية في متاهة بدءاً من اسمه الذي تغير أربع مرات بحسب الظروف، وحكايته التي تتغير بحسب الموقف، لأنه كان يختار الحكاية أو الكذبة التي تنجيه. لقد رفع كلمة (النجاة) شعاراً له، وحتى حينما أراد أن يودع حائط المبكى أمنياته – كما يفعل كل السائحين – لم يجد غير كلمة (النجاة).. حكايته الحقيقية التي كان يخشى أن يعرفها الناس هي أنه مجهول الأبوين، أباح بها للمحقق الأوروبي في مخيم (أنداغابونا) طمعا في أن يمنحه حق اللجوء!
حين بلغ من العمر سبعة عشر عاماً كان يساعد المجندات في مداواة الجرحى وتطبيبهم، وحين أُعلن عن استقلال أريتيريا كان يحتفل في شارع (كمشتاتو) وسط العاصمة أسمرة مع المحاربين بوصفه أحد المساهمين في تحقيق النصر.. يتعرف على (عائشة) وتتطور العلاقة معها على الرغم من عدم ترحيب أمها به. يتغيب عن المدرسة فيعاقبه الضابط حبساً انفرادياً مقابل الساعات الجميلة التي قضاها مع عشيقته، ويتغيب عن الحبيبة فيلقى جزاءه صفعة منها على خده، وهو لا يستطيع أن يصرح للضابط أو لحبيبته أين كان؟!
وفي سبيل الإبقاء على حبيبته يقرّر الهرب نهائياً من المدرسة ومن التجنيد، لكن يقبض عليه عند والد صديقه في أول ليلة يهرب فيها، فيُنقل إلى الوادي الأزرق، ومن هذا المعسكر البغيض يغامر فيهرب إلى مخيم هيئة الأمم المتحدة في (إنداغابونا)، حيث يجري المسؤولون مقابلات مع النزلاء لبحث حالاتهم يتقرّر بعدها إما الإعادة من حيث أتوا أو الإبقاء عليهم أو إرسالهم إلى بلد ثالث. أخفق داود في إثبات أحقيته في اللجوء، لكنه تعرف على رفيق دربه (يوهانس) الذي أفصح له عن نيته المغادرة إلى مخيم (غوندار) والانضمام إلى (الفلاشا) المقرّر إرسالهم إلى إسرائيل، وكشف له عن الوسيط الذي سيدفع له مبلغ عشرة آلاف (بر) نظير الوساطة أو أجور النقل أو الرشوة أياً كانت التسمية.. ولأن النجاة هي الهدف فلا تهمه الطريقة التي يصل بها، ولا يخشى تأنيب الضمير، فيقدم على سرقة عشرة الآلاف من صديقه، وبدلاً من أن يدفعها للمهرب يقرّر الذهاب ماشياً وتوفير النقود للحاجة. ولم يهنأ بما سرق فقد لقيه قطاع طرق اكتفوا بأخذ المال مقابل إبقاء حياته، ووصل أخيراً إلى (غوندار)!
في غوندار يحاول الدخول للمخيم لمقابلة المسؤولين فيطرد. وتصل به قدماه إلى الفندق الوحيد في المنطقة فتُسكتُ صاحبته (سابا) جوعه لكنها لا توجد له عملاً في فندقها، فيفتعل حدثاً يجعلها تحقق له كل ما يريد، وتحنو عليه حنو الأمهات. بناءً على سيرته السيئة لا بد أن تكون الخطة سيئة أيضاً. انتهز فرصة قلة الموظفين والخدم في منتصف الليل فأشعل النار في مستودع الفندق، وإتماماً للمهمة هب لإطفاء الحريق بواسطة طفاية انتزعها من مكانها قبل إشعال النيران..
بعد عمله البطولي أسكنته (سابا) فندقها ووظفته وعلمته اللغة العبرية وتعاليم الديانة اليهودية؛ فضلاً عمّا سيتعلمه في المخيم حتى يتمكن من تجميع المبلغ اللازم للترحيل مع الفلاشا.
ومع ذلك ظل غريباً طول عمره حتى بعد أن تمكن من دخول المخيم بوساطة سابا.. نبذه أهل المخيم لأنه لا يشبه اليهود لا شكلاً ولا لكنه، ولم تكن الحال خارج المخيم أفضل، إذ كان ينظر له هؤلاء على أنه من اليهود المكروهين من مجتمع غوندار.
من غوندار ركب إحدى الحافلات المعدة للفلاشا في طريقهم إلى (أديس أبابا) ثم إلى مطارها، ومنه في طائرة خاصة إلى (تل أبيب). وفي تل أبيب مكث مع مرافقيه مدة قصيرة تعرف خلالها على حي الأفارقة القريب من المعسكر، ومع ذلك عانى مشكلة الغربة، فهو غريب بالنسبة للفلاشا داخل المعسكر، وغريب بالنسبة للأفارقة في الحي الإفريقي. تعرف على يعقوب السوداني الذي جاء متسللاً من سيناء فلم يحصل إلا على صفة متسلل وليس لاجئاً كبطل روايتنا.
بعد ثلاثة أشهر انتقل مع مجموعة من الفلاشا إلى محطتهم النهائية (القدس)، ولم يكن الوضع أحسن حالاً، فظل غريباً في داخل المعسكر وخارجه. تسرّب إليه الخوف من أن ينكشف أمره فهرب من المعسكر، لكن قدره لم يمهله طويلاً فقضى برصاصة طائشة كانت موجهة لشاب فلسطيني طعن مستوطناً.
تزدحم الرواية بالأحداث والأماكن والأشخاص مع الإيغال في التفاصيل، فعلى سبيل المثال يحدد الكاتب المأوى الذي استقر فيه بطل الرواية في القدس بأنه غرفة في الشقة (18) في الطابق الخامس من البناية السابعة من المربع (22) من مستوطنة (بيسغات زئيف).
يتسرّب الأسى على لسان بطل الرواية في كل مناسبة وإن بدا ساخراً كما في قوله وهو يعدد محاسن أن ينشأ من غير أهل: «وحدنا بلا انتماءات قبلية أو دينية، الثورة وجهتنا الوحيدة، هي الأم والوالد». ص117
وغير بعيد عن هذا شعوره وهو يموت دون أن يعرف اسمه أو هويته أو ديانته: «أراد أن يسألهم عن هويته، عن اسمه إن كان داود أم ديفيد أم داويت. أن يسأل عن ديانته، إن كان مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً. عن جنسيته، إن كان إرتيرياً أم إثيوبياً أم إسرائيلياً أم فلسطينياً». ص249
وفي هذه المساحات المملوءة خوفاً ورعباً لم تخل من قدر يسير من المواقف العاطفية والعبارات الرقيقة، فمن ذلك حديث البطل عن اسمه بعدما سمع الحبيبة تترنم به: «يا له من اسم؛ خاصة حين تنطق به عائشة بكل هذا الغنج. إنه ولا شك أكثر الأسماء ملاءمة لي». ص104