بقلم: عقيل هاشم/ العراق
تُعدّ الكتابة عند الكاتبة د. سناء الشعلان وفي مشغلها السردي من أبرز المحاولات الجريئة في معالجة الواقع وفي متابعة اختلاف القيم وتيّاراتها المتضادّة.
لعلّ أبرز هاجس في أعمال الكاتبة د. سناء الشعلان هو التحرّر والبحث عن جوهر المفاهيم والعلاقات في الواقع الجديد المعقّد عموماً، وفي ما يتّصل بشخصيّة المرأة على وجه الخصوص في عالم الاغتراب والتّشرذم. لقد تميّزت كتاباتها السردية بالتراكم الإبداعيّ التصاعديّ في مجال الإبداع، وحضور فاعل ومؤثّر في المشهد الثقافي العربي.
لذلك نجد في سرديّاتها تحوّلاً على مستوى البناء الفنيّ والدّلالي وهذا نتاج تراكمي، وهو ما يفسّر تطور وعيها الفكري بالأساليب الفعليّة للسرد والحجاج، وبمقوّمات السّرد الحديث؛ لذلك تراكمت التّجارب عند الكاتبة وتنوّعت مضامينها وأساليبها من حيث شعرية اللّغة والسّرد والذّات-الآخر.
من أجل الانطلاق وبناء الخصوصيّة المميّزة التي جمعتْ بين جدّة البناء وثراء الدلالة، كتابات شكّلت نقلة نوعيّة في توليد الدّلالات وصوغ المتخيّل، ممّا جعلها تمثّل نموذجاً بارزاً للقلم الحرّ والمدافع عن حقوق الإنسان، في بنائيّة سرديّة لها خصوصيّتها وأسلوبها ولغتها.
إنّ تطوّر الكتابة يعكس بكلّ جرأة إبداعيّة جوانب مهمة من تحوّلها وانفتاحها على المغاير والمختلف نحو التجديد والتجاوز.
أمّا عن الثيمات التي تناولتها، فقد تنوّعتْ، وتشظّت بين الذّات والأمكنة والأزمنة والمرأة والجسد، وهي ثيمات تتداخل مع أخرى مجاورة لها ولا تقلّ عنها أهميّة. وأمّا من جهة الخصائص الأسلوبيّة والبنائيّة التي ميّزت هذه التّجارب في نشدانها للحداثة والمغايرة، فنجد توظيف العديد من التقنيات السردية التي توسّلت بالجرأة في الكتابة والبوح، أو في ارتياد عالم كسر التابو والمسكوت عنه.
“أدركها النّسيان” هي رواية من تأليف الكاتبة والروائية د. سناء الشعلان, صدرت الرّواية في طبعتها الأولى في شهر كانون الأوّل من العام 2018، عن دار أمواج للنّشر والتّوزيع، عمان، الأردن، وتتكوّن من ثلاثين فصلاً تحمل على التّوالي اسم النّسيان من واحد إلى ثلاثين.
العنوان جاء في مديح النّسيان: امرأة تحتاج أن يدركها النّسيان كي تنسى آلامها وأحزانها. إنّ بطلة الرّواية “بهاء” سعيدة بهذا النّسيان الذي أنقذها من وجع الذّكريات وجرائر أفعال الماضي التي تورّطت فيها رغم أنفها وإرادتها
هذه الرّواية تنتمي الى ما يسمى ب “السّرديات المصطنعة” وهي أطروحة لـ “جان بودريار بعنوان “موت الواقع”.
الأطروحة تقول إننا نعيش لحظة انقلابية تنقلنا من عصر الواقع إلى عصر موت بسبب موت أو نهاية أو تحلل المبدأ المؤسس للواقع، مبدأ الصراع والمواجهة والجدلية والتناقض والنفي والقطعية والمجاوزة والثورة والتقدم. لقد انتهى عصر الواقع، عصر الأقطاب والمواقع والايديولوجية التي شكل تجاذبها وتطاحنها المادة الخام والمحرك الذي لا يكل للواقع وللحدث وللتاريخ.
لقد مات ذلك الواقع الذي كان اﻹنسان بموجبه يميز بين الواقع والخيالي، الحقيقيّ. الواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر هو واقع مزيف. أي مشوّه. واقع لا يمتّ بصلة للواقع الفعليّ والحقيقيّ، الذي عشناه قبل سقوط جدار برلين.
هذا الواقع، كان واقع الوضوح والتّوازن الأيديولوجي بين الشرق و الغرب واقع النفي والأطروحة و نقيضها، واقع تجاوز البنيات التقليدية الهشة و الصراع من أجل تجديد دماء الحياة التي تعني حياة الثورة و التغيير والحرية.
إنّها المعطيات المبدئية الأساسية التي تقوم على أساسها الأطروحة. هي بمثابة رؤية نقدية جريئة لواقع بشري متحكم فيه، من طرف نظام آلة القوة العالمي الاستهلاكي، الشيء الذي يفرض علينا رفض هذا الواقع “المزيف”، المنتصر لفكر الأقوياء والأغنياء على حساب فكر وحلم الضعفاء و الفقراء، وبالتالي فهو واقع مفروض ومهيمن وطاغٍ، يستدعي من الشعوب المنتمية إليه، نهج ثقافة تشديد الصراع و سلك أسلوب المقاومة بجميع تجلياتها، من أجل رد التوازن لمنطق التاريخ، و أيضاً ردّ الاعتبار لما هو إنسانيّ و قيميّ في هذا الواقع “الإنساني” المفتقد في واقع اليوم.
العتبة الأولى: تجربة الكتابة:
إذا كان السّردُ الحديث ذاكرةً تتموضع مع الكتابة الرّوائية في إعادة صوغ الواقع، فإنّ السّردَ المعاصرَ يصطنع ذاكرته لصوغ (ما فوق الواقع)، من هنا يمكننا البوح بأنّ هذه المقاربة معنية بتقصي وتحليل رواية ادركها النّسيان كونها رواية معاصرة أخذتْ على عاتقها أهمية الإبداع والنّزوع نحو نمط سردي مغاير، فضلاً عن التخييل ولذة القراءة، هي محاولة التعبير عن المعاصرة ومواكبة الانتقالات العميقة في التفكير الحضاري؛ لذلك فإنّ تدقيق النّظر في مقولات السّرديات المصطنعة وذاكرة إنتاجها المفترضة، يعني العناية ببداية كتابية جديدة نظرتْ إلى متغيرات العصر بوعي مضاعف، محاولةً الخروج عن المألوف بتنصيص جديد يعيد إنتاج ذاكرة الذات والمجتمع والواقع،
هذا واضح تماماً؛ إنّ الكاتبة لم تقف عند حدّ من الإحالات، بل سمحت لنفسها بأن تكتب ما تشاء دون أن تبالي سوى بشيء واحد، وهو “بهاء” و”الضّحّاك” وحبّهما المشتهى، ودون ذلك لم تبال بالواقع المأزوم الذي عرّته دون احترام له، وفضحت المسكوت عنه فيه، وقالتْ بكلّ جرأة: ” أنا أراكم..”.
الكاتبة تحاول تحطم التقانات، ويعيد بناءها متأثرة بالبنى الوهمية واليوتوبية، الأمر الذي يمكن تحديده إجرائيا عن طريق مقاربة سمات هذه المتغيرات في ذاكرة الرّواية من خلال رصد (الزمن المستعاد واصطناع تأريخ المهمشين، سرد الذّاكرة والبحث عن ما وراء الحكاية) .
النّص يركز على الذّاكرة في رسم الاتصال بالأشياء لاختلاق بنية اجتماعية مغايرة في علاقتها مع الواقع، مما يولد ذاكرة سردية مصطنعة تقتات على النّظم المرجعية جميعها مولدة بذلك نظاما سيميائياً المقصود منه استبدال السّائد بعلامات إجرائية معبرة عنه، بمعنى أنّ الأحداث في الحاضر تتواصل مع آلية استعادة بعضها من الماضي،
الرّواية تدور أحداثها حول امرأة ستينيّة اسمها “بهاء” مصابة بمرض السّرطان في دماغها، وقد استفحل إلى درجة أنّه قد أصابها بحالة مرضيّة نادرة تجعلها تخسر ذاكرتها حتى كادت لا تتذكّر من تكون بالضّبط، كما أصابها بجملة من الإعاقات الجسديّة، على رأسها حالة شبه شلل كامل في أطرافها ووظائف جسدها.
في هذه المرحلة الكئيبة من حياتها وعجزها وشيخوختها، تلتقي بالصّدفة البحت بحبيبها “الضّحّاك” بعد نصف قرن من الغياب بعد أن أصبح عمره في نهاية السّتين، عند اللّقاء تكون مريضّة عاجزة حزينة ووحيدة وفقيرة، وتطلب الاستشفاء في منتجع صحيّ في غابة اسكندنافيّة برفقة صديقتها المخلصة لها “هدى”، بعد أن بدأتْ تتيه في عوالم النّسيان، وفقدت القدرة على النّطق والحركة خلا القليل الباقي منهما، كما فقدت المعين والمال والملجأ.
لكن المفاجأة أنّها تتجاوز مرضها المسيطر عليها، وتذهل أطباءها عندما تتذكّر حبيبها “الضّحّاك” بمجرّد رؤيتها له، وتهتف بفرح: “أنتَ الضّحّاك سليم. أنا أعرفكَ. أنا أعشقكَ”.
عندها يقرّر ” الضّحّاك” أن يعود بها إلى بيته وحياته حيث يعيش حياة سعيدة ومرفّهة وراقية في مدينة من إحدى المدن الاسكندنافيّة.
العالم الحكائيّ مصنوعٌ من حقائق، بل من خيارات وسيناريوهات عالم اُختلِق بواسطة اللّغة، ويجري إبقاؤه متماسكاً من خلال مجازيات ومعانٍ؛ لأنّ ما بعد الحداثة لا تؤمن بصنع التأريخ واستعادة مجرياته إلاّ من خلال اختلاق حكايات مغايرة يمكن الذوبان فيها بعيداً عن ضجة الواقعيّ والحقيقيّ.
لعلّ ذلك ما تحقّق في نهاية هذه الرّواية، عندما عاد البطلان إلى عالم البراءة الخالي من الأمراض والكوابيس والدنس.
هنا تكمن المغايرة، بمعنى لا تستدعي الماضي بوصفه حرباً، بل تعتمد على أنْ تروي نصاً مفترضا مركزيته أحلام؛ لأنّها مفترضة خالية من المواجهة.
ليس الواقع كما هو ما قدمتْه الرّواية ولا هو صورة عنه، بل هو صورة صنعها السّرد عن صور أخرى هي بدورها مُصَنعة من ذكريات مؤلمة.
عمدت الكاتبة في هذه الرّواية على إدراج المكان دار الأيتام –الميتم- بصورة ومعنى مغايرين ومنفتحين على مغايرة كون الميتم مكان رعاية إلى مكان للكوابيس وممارسة الرذائل، الشخصيات لا تتبرأ من الماضي لكنّها تعمد إلى إعادة صوغه وافتراضه من جديد، من منطلق أنَّ هذا النمطَ من القص يبدي عناية فائقة بالأسس الفوتوغرافية المدمجة مع الحقائق لإنتاج نوع كتابي مفارق للواقع المباشر.
الرّاوي يحتل مركز العملية السّردية ليكون صوتا يسرد نصاً متداخلاً أكثر مما يسرد أحداثا متلازمة وقد توضح ذلك من البناء الفني للرواية – حكاية داخل حكاية قصة الضحاك سليم وحكاية العاشقة صديقته، يسردها من الداخل راوٍ عليم يصعب مفارقته عن ذات المؤلفة إلى نهاية الرّواية “أدركها النّسيان”.
الرّواية تنتهي بخيار خطير، وهو خيار النّسيان الكامل للماضي، وإنكاره، والبدء من جديد في حياة أخرى مشبعة للرّغبات المكبوتة، ومتجاهلة لكلّ ما حدث في الماضي من أوجاع، وبذلك يبدأ البطلان وهما في سنّ السّبعين حياة أخرى فرحة مناقضة لحياة الماضي التي عاشاها بما فيها من حزن وإخفاقات، بعد أن أخذا هذا القرار ضمن توليفة صراع مرير مع الماضي والحاضر، وصولاً إلى صيغة مصالحه مع الحاضر تتلخّص عندهما في شيء واحد، وهو نسيان الماضي الذي لا يمكن الانفكاك عنه إلاّ بتجاوزه.
كما لا يمكن تغير حقائقه إلاّ بإنكارها عبر لعبة النّسيان التي بدأتها بطلة الرّواية “بهاء” عبر مرضها ثم غيبوبتها، ومن ثمّ انساق إليها بطل الرّواية “الضّحّاك” الذي قرّر أن يجاري حبيبته في لعبتها المرض/ النّسيان، وأن ينسى الماضي والحاضر، ما دام لا يستطيع أن يأخذها إلى المستقبل الذي يقدّمه لها في حياته الرّاقية الجميلة الهادئة، وأن يلعب معها لعبتها التي اختارتها ،وهي لعبة النّسيان، من أجل أن يحظيا بحياة أخرى، أو فرصة جديدة عادلة على خلاف الحياة الظّالمة التي تورطا فيها في الماضي.
رواية يتوهم متلقيها بين واقعها وكونها مشهداً مستلهماً من إحدى توهّمات ماضوبة من الذّاكرة، وهذا ما يحيل واقع/ تأريخ/ ماضي النّص الرّوائي إلى ذاكرة مصورة متخيلة وهميا من حياة مقموعة، وهي تجرب تأويل الوجود عزلا عن الواقع المباشر، مما يجعلها نمطا اعتمده الحكي يتجه نحو الوهمي غير الحقيقيّ وغير الواقعيّ، والممكن واليوتوبيّ.
بالمجمل تنتصر “بهاء” بحبّها لـ “الضّحّاك” على المرض وعلى الموت، وتستيقظ من سباتها الذي دام لعامين، وتتعافى من السّرطان بعد عدّة جلسات كيميائيّة، وتفاجئ الجميع بأنّها قد عادت إلى الحياة بعقل طفلة صغيرة لا ذاكرة عندها أو ماضٍ؛ إذ لا تتذكّر في الحياة أيّ شيء، سوى أنّ اسمها ” بهاء”، وأنّ اسم حبيبها هو ” الضّحّاك”، وأنّها تعشقه.
بهذا يتحقق اصطناع الذّاكرة كون النّص الرّوائي لا يلتفتُ إلى الزّمن المستعاد بهذا الواقع، بل يعمل على إنتاج مسودته الخاصة، لكي يُماهيَ بين المُنتج والمُستعاد، والوهمي والحقيقيّ، حيث التداخلُ النّصيُ والانشغالُ بذاتيته وانعكاساته الفنية؛ بوصفه أمرا مفترضا رغم دلالته الحقيقة لأنّنا لا يمكننا إدراكه إلاّ من خلال اصطناع الواقع، بل يعني إعادة إنتاجه وتصنيعه بنمط فوق واقعي لا يقدم على أنّه معطيات غائبة، إنّما يقدم بوصفه معطيات حاضرة أو مصطنعة عن الماضي.
عندما يقرّر بطل الرّواية أن ينكر حاضره، وأن يخرج منه؛ ليدخل إلى زمن مفترض، وهو زمن الطّفولة المستدعاة بعودة حبيبته، وبذلك ينكرا كلاهما العالم الحقيقيّ الذي يعيشان فيه، ويقرّران أن يعيشا طفولتهما مرّة أخرى في سن شيخوختها ليظفرا بكلّ ما حرما منه في الماضي من فرح وسعادة واغتباط وبراءة الطفّولة ونقائها.
حقيقة الأمر أنّ الرّواية بدأتْ باصطناع ذاكرة مغايرة لبناء أحداثها من خلال تبني أساليب متباينة لخرق واقع الحكاية ومحاولة الالتفاف حولها للوصول إلى منطقة (ما فوق الواقع) عن طريق رواية النّص ونرجسيته، ورواية الرّواية، واستلهام ما وراء الحكاية السّردية، وسعيها لإنتاج درجة كتابية تنطلق من نرجسية السّرد واصطناعها ذاكرة جديدة للحكي عن طريق رواية الرّواية، من منطلق أنّ النّص الأدبيّ المعاصر يجب أنْ يُقدَم بوصفه مثالا نمطيا للغة تتخلى عن شروط الحقيقة موهمة بالواقع.
هنا تتداخل الحكايتان معا في ذاكرة واحدة هي ذاكرة المؤلفة/ البطلة للوصول إلى نهاية تتناسب مع ما وراء سرد الحكايتين- حكاية الضحاك والسيرة للبطلة العاشقة بهاء.
للأمر علاقة بكيفية اصطناع الواقع والشخصيات معا كون هذا الواقع لم يعدْ مرتبطا بحكاية واحدة من الماضي، بل هناك وعي لإنتاج ذاكرة تغاير الماضي عن طريق بناء حكاية ثانية مجاورة تكمل الرؤية الجمالية والفنية للنص،
في الفصل الأخير تظهر لنا نهاية افتراصية تصدم المتلقي بخرق أفق التوهم والانتظار: نهاية تهدم ما حدث في الفصول التي سبقتها، إذ تفترض أنّ الرّواية المخطوطة الخاصّة بـ “بهاء” لم تُحرق، وأنّ هناك اتّجاه آخر في الأحداث “في الرّواية المخطوطة- الملعونة التي لم تفنَ في حادثة إحراق “الضّحّاك” لها ” لم تجد “بهاء” الدّرب إلى “الضّحّاك”؛ لذلك اخترعتْ “ضحّاكاً” جديداً من بناء خيالها الحالم، وظلّت تهذي باسمه وبقصصها الكثيرة معه حتى غدت مجرّد اسماً مكتوباً في لائحة الموتى في مشرحة كليّة الطّبّ في جامعة العاصمة؛ لأنّ لا أحد أبدى أيّ رغبة في استلام جثّتها من المستشفى، ودفنها على حسابه الخاصّ في أيّ بقعة من بقاع الأرض جميعها”.
هذا أمر كفيل بإرباك المتلقي الذي سوف تتداخل لديه أحداث الرّواية بين الأصلية والمصطنعة، ويفقد القدرة على تمييز بؤرة الحكي موقعاً وشكلاً، كون الذّاكرة السردية تشكلتْ من إيحاءات المؤلِفة- حقيقيّ وشخصية تؤلف داخل العمل وشخصيّة تسرد الحكاية، وبهذا تخرج الذّاكرة السردية عن عالمها الورقي المتخيل، لتكون صناعة يشترك فيها الوعي لما فيها من قدرة هائلة على الإيهام وخلق للشخصيات، مما يتجاذب مع بنية الرّواية ضمن مسار سردي مستعاد في الذّاكرة بوصفه نسخة مغايرة، عن أحداث مجسدة بمكوناتها السّردية جميعا.
الرّواية قدمتْ رؤية جديدة لبناء الحبكة وسرد أحداثها عن طريق سرد مركزي يروي فيه أكثر من حكاية واحدة اعتمادا على تقنية الميتاسرد -مرتبطا سرديا -بما يحدث في السّرد المركزي داخل مجريات الأحداث وتقديمها على هيئة ذاكرة متخيلة،
يمثل في الرّواية ذاكرة المكان – الميتم- وما يعنينا هنا طبيعة الذّاكرة المصطنعة سردياً عن طريق سرد حكاية الغريزة الشهوانية للشخصيات بمعنى، أنّ الرّواية تصنع بنية اجتماعية أكثر مما هي تنقلها بواقعية جامدة، على غرار الرؤية المعاصرة التي تؤمن بذوبان عالمي الخيال والحقيقة ببعضهما لإنتاج عالم مستقل بذاته.
إذن هناك وعيٌ ورغبةٌ متجسدان في الرّواية يعملان على تكوين بنية مغايرة يمكن وصفها بانفراط اليقيني .
الكاتبة تختم الرّواية بعبارة “البداية”، بدل أن تختمها بعبارة ” النّهاية”؛ إذ إنّها تعطي أبطال روايتها فرصة جديدة للحياة والأمل والفرح بفضل انتصار واحد في الحياة لا ثاني له، وهو انتصار الحبّ على قبح العالم، وهذه رسالة واضحة تحمل معانيها ودلالاتها وتحريضاتها.
تتضمن رواية “أدركها النّسيان” مجموعة من الأسئلة والأشكال والأنواع الفنية للقالب الميتاسرديّ الذي وظفته الكاتبة بطريفة فنية وجمالية أخاذة ورائعة ومتميزة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على مدى تمكنها من تقنيات السرد ويعبر ذلك أيضا عن مدى اختبارها لمقومات هذا الفنّ، واستيعابها الجيد لمكوناته الثابتة وسماته المتغيرة.
لعلّ أهمّ ما لاحظناه هذا النّسق المضمر من الحكاية:
ان الأوطان تسير لحظة تلو أخرى نحو الدّمار، وأن لا أمل فيها للنّجاة أو الإصلاح، تماماً كما لا فرصة فيها لانتصار الحقّ والفضيلة، ومحاربة الفساد ،ومعاقبة المفسدين؛ فهي عوالم مفلسة تماماً: “وأنا أراقب قطعان الجاموس تسرح في السّهوب، تذكّرت الجياع في كلّ مكان في أصقاع هذه المعمورة، وحسدتُ الأبقار على اختلاف أنواعها وسلالاتها في هذا المكان وفي بلادي على وافر حظّها مقارنة بعذابات البشر في كلّ مكان، وقرع ذهني سؤال قلق نخزه بوجع مسلّة عمّا تراه يحدث الآن في مدائن الشّرق التي فارقتها وهي تستعر بالنّار والفتن والابتلاءات والمصائب، ويجوبها اللّصوص والقتلة آمنين فرحين، ويموت فيها الأبرياء والأبطال والصّالحين، في حين تسمن الكلاب والأبقار والخنازير والفئران الآدميّة حتى تختنق بسمنتها”.
تزداد الفجيعة في نفس “بهاء”؛ لأنّها تدرك مقدار الخسارات حولها: “كلّ شيء حولي أصبح خاسراً بامتياز؛ المدن والمواطنون والأفكار والأحداث والمذعنون والرّافضون جميعهم الآن خاسرون، بلا شيء هناك في الأفق سوى الخسارة، والجميع ضلّوا الدّرب في متاهة تاريخيّة مخيفة ينزلقون فيها دون مقاومة.”
تكون الخسارة الحقيقة لـ “بهاء” عندما تخسر انتمائها لوطنها، ولا تعود تبالي بمصيره ما دام هذا الوطن لم يقم بدوره الطّبيعيّ تجاهها، فلها عندئذٍ أن تخلعه غير آسفة على ذلك .
إنّ المعنى الذي تمنحه الكاتبة للموت في المجتمعات الشرقية في الرّواية لا يهمّ البطلة المريضة فقط كفرد من الأفراد وانما هو مجتمع بأكمله، وإن لهذا الموت الآخر معنى أوسع وأخطر هو ما حاولت تشخيصه الكاتبة في آخر جزء ودّعت به الإدانة على لسان بطلة الرّواية ، وهو نصّ شديد الدلالة. يصف النص هذا الواقع بالموت الخفيّ الذي يكتسح واقع الإنسان الاجتماعيّ والنّفسيّ، ويعلن الاغتراب .
” الضّحّاك” الذي وجد وطناً ثلجيّاً يحتضنه ،ويحبّه، ويعوّضه عن وطنه الطّارد له ولغيره من أبنائه ” فهو يشعر أنّه الآن في وطنه؛ فالوطن عنده هو الاحتضان والحبّ والاكتفاء ،وهذا المكان قد احتضنه، وأحبّه، ولذلك هو وطنه، أمّا تلك الخرائب القاسية في الشّرق حيث يرتع اللّصوص والقساة، فهي ليست أوطاناً في نظره، إنّها ليست أكثر من خرائب تاريخيّة قد سطا عليها لصوص عابرون للتّاريخ؛ إذ خرجوا من رحم الماضي حيث قصص الشّطار والعيّارين والبصّاصين والوشاة وقطّاع الدّروب، وعاثوا فساداً في الحاضر”
لقد خلع ” الضّحّاك” وطنه الشّرق بما جنى عليه، وأصبح عنده لا يساوي أكثر من البصق عليه: “يشرب كأساً وراء كأس نخباً لوطنه الحنون عليه، ويبصق مرّة تلو الأخرى على وطنه الماضي كلّما تذكّر يتمه ووحدته وحياته الضّالة فيه حيث عاش فيه حياة قطّ أعور حزين مقطوع الذّنب مهترئ الحظّ”.
ختاماً يمكن القول إنّ الكاتبة رسمت لنفسها مساراً قائماً على التحرّر والانعتاق وحاملة لرؤية تسعى إلى تحقيقها عبر الكتابة؛ لذلك خاضت التجريب، وجدّدت في أساليب الكتابة والتّعبير إيماناً منها بأنّ الكتابة هي فعل ممارسة، وفعل اختلاف، فلا كتابة خارج الاختلاف، ولا كتابة خارج الأسئلة الكبرى التي لا جواب لها
إنّ هدف الكتابة عندها هو أن تقول بشجاعة ما يخلق الإحساس بالقلق نحو الوجود من خلال شخصيات تخفي التمزق والانقسام،تعيش أحداث لامعقولة، فضاءات اجتماعية ونفسية لا تعرف التناسق والانسجام .
لكتابة تقول ذلك كلّه بسخرية سوداء تحطّم جدران الواقع ، وتفجّر منطقيته الزائفة ومعقوليته المصطنعة، وتكشف النقاب عن ذلك الاغتراب المرعب الذي يكتسح فضاءات الحياة.
إنَّ تقنية الميتاسرد شكّلتْ فعلاً احتجاجيّاً ومغايراً؛ الغرض منه الإدهاش وتوريط المتلقي في الحكي، فصهر المسافة البعيدة التي بين النص والقارئ، ليغدو الأخير شريكاً مهماً للكاتبة في عملية التخييل.
هذا ما توافر في نصّ “أدركها النّسيان”، فقد أشرك المتلقي في عملية السرد بوصفه طرفاً أساساً فاعلاً في العملية الإبداعية، وفي بناء الأحداث.
حيث تقع الأحداث في منطقة يختلط فيها الواقعيّ الممكن الحدوث بالخيالي غير الممكن الحدوث. كما إنَّ الشخصيات التي تمظهرت عبر بُعدها الغرائبيّ بدت مُحمّلة بالتناقضات مما نتج عن ذلك كسر الخطاطة السردية والزمنية للحكي بدون الاخلال في شاعرية النص وتماسكه.