بقلم : إبراهيم موسى النحَّاس
استطاعت الرواية العربية في فترة وجيزة إذا ما قورنت بتاريخ الشعر العربي أن تحتل مكانة كبرى بين الأنواع الأدبية, بل صارت تنافس أقدم الأنواع العربية ظهورًا و هو الشِعر في الانتشار, ليس لحصول كاتبنا نجيب محفوظ على جائزة نوبل عن مجمل أعماله الروائية فقط, بل نافست الرواية الشعر في مدى التأثير في جمهور القُرَّاء, مِمَّا دفع الكثير من النقاد إلى رفع شعار ” نحن في عصر الرواية”, وبغض النظر عن مدى صحة تلك المقولة أم لا, لكنَّها تشير بقوَّة إلى المكانة الكبرى التي حظيت بها الرواية في عصرنا الحديث, لِما تتَّسِم به من قدرة على سرد حياة كاملة بكل عناصرها وتفاصيلها الدقيقة, مع تعرية للذات والواقع معًا من شتَّى النواحي.
و الكاتب موسى ذاكر المقوسي في روايته(( الموت هو المكيدة )) يتناول واحدة من أخطر و أهم القضايا الوجودية وهي علاقة الإنسان بالحياة و الموت, من خلال حياة البطل الذي حمل اسمين”سمير و سعيد” و انتحاره, ومن خلال فكرة الانتحار يعرض المؤلف رؤيته التي بناها على الدهشة الفنيَّة أو كسر أُفُق التوقُّع لدى القارئ, فلم يعرض حياته في العالم الآخَر بعد انتحاره أوَّل الرواية كما نتوقع بل نظر إلى الحياة من خارجها بعد موته, ليقوم بتعرية الواقع و الذات الإنسانية معًا, فيقول في نهاية الفصل الأول: (( يشعر الناس بالغرابة حول الشخص الذي قرَّر الانتحار, مع أنَّ الكثير منهم يريدون تَرْك هذه الحياة, لكن لا أحد يريد أن يموت)).
وفي هذا الإطار عالجت الرواية الكثير من القضايا الاجتماعية في واقعنا مثل قضية أطفال الشوارع ومجهولي النسَب, و قضية الفكر الذكوري وهدم حقوق المرأة, وثورات الربيع العربي و ما نتج عنها من تفكك وهدم للمجتمعات العربية وحروب أهلية ناتجة عن بعض الأنظمة الحاكمة الفاسدة من جهة و غياب الوعي لدى الشعوب من جهة ثانية, و الرواية في كل هذا تنحاز للطبقات الكادحة المُهمَّشة في المجتمع كما تنحاز لقيم الحُب والخير والعدل والمساواة.
وعلى المستوى الفنيّ نجد الرواية تقوم في رؤيتها على العمق الفلسفي من خلال طرح الأسئلة الوجودية حول الكثير من القضايا الشائكة مثل قضية الموت / الانتحار/ الحياة, ومفهوم السعادة, ومعنى الحُب وأهميّته, و جدوى عملية الكتابة في مواجهة متاعب الحياة, و المرأة و دورها, و معنى الصبر, وقضايا وجودية أخرى كثيرة.
نلمح أيضًا في الرواية صورة المبدع المُثقَّف حيث تكثر الاستشهادات بعبارات لكتّاب ومفكرين سابقين أمثال” إميل سيوران” و كلام “فان جوخ” لشقيقه “ثيو” و قول تشيراز بافيزي في بداية الفصل الأول: (( سيجيء الموت, وستكون له عيناك, سيكون له طعم التخلّي عن رذيلة, سوف يشبه رؤية وجه مُضيء ينبثق من الخيال, كما الإنصات لشفتين مُغلقتين سيكون)).
يوظِّف الكاتب في الرواية لغة الجسد من خلال مشهد محاولة”وائل” زوج أم البطلة” نادية” اغتصاب نادية مِمَّا دفعها لقتله بسِكِّين المطبخ, وجاء عرض الكاتب للمشهد ليوضِّح ما تتعرَّض له المرأة في مجتمعاتنا من ظلم, لكن دون ابتذال في الألفاظ أو تفاهة في طريقة العرْض.
جانب آخر على مستوى اللغة هو توظيف لغة المجاز لنجد أنفسنا أمام لغة جميلة تخلو من التقعُّر لكنها تحتوي على العمق الفلسفي والرقي القائم على توظيف اللغة المجازية, و لعلَّ مقطع قصير مثل هذا يؤكد ذلك الملمح, حيث بنى الشاعر لغته على تكرار التشبيه للتعبير عن رؤيته حين يقول:)) أمِّي, أبي..أحتاجكما بِشِدَّة, أحتاجكما الآن كحاجتي للضحك, كحاجة اليتيم إلى أب, كحاجة الجائع للطعام, كحاجة الأرض للسماء, و الزهور للماء, و المريض للدواء, كحاجة الأعمى للنظر, و الأبكم للغناء)).
من السمات الأسلوبية الأساسية في الرواية توظيف آلية “الفلاش باك” أو العودة للوراء و استرجاع الأحداث لسردها, تلك السمة الأسلوبية امتزجت مع سِمة أخرى هي توظيف شخصية الراوي, هذا الراوي حينًا نراه البطل, وفي وقت آخر نرى الراوي هو البطلة” نادية”, و رغم ما أصاب لغة الراوي من لهجة خطابية تنويرية تميل إلى النصح وتوجيه وعي القارئ أحيانًا كما في سياق الحديث عن المرأة و أهميتها, لكن هذا لا يقلل من روعة الرواية و الجهد المبذول فيها.
من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ رواية (( الموت هو المكيدة)) للروائي موسى ذاكر المقوسي تعرض لنا بعمق فلسفي علاقة الإنسان بفكرة الموت والحياة والسعادة والحُب, وتعرض للكثير من قضايا واقعنا الاجتماعي كفساد بعض الأنظمة السياسية و فشل الثورات في تحقيق أهدافها و قضية حقوق المرأة و قضية أطفال الشوارع و مجهولي النسَب, في لغة جمعت بين العمق الفلسفي وتوظيف المجاز واستلهام شخصية الراوي واسترجاع الأحداث” الفلاش باك” و تؤكد فكرة أهمية المبدع المُثقَّف, و لنُبْحِرْ معًا في عالم الرواية للغوص والاستمتاع الفنيِّ بتفاصيلها.