رغم كل ما دعت إليه الديانات السماوية, و رغم الاتصال بالغرب و دعوات التحرُّر من أغلال الأفكار المغلوطة, ما زالت العقلية الشرقية ترضخ للكثير من المفاهيم الخاطئة التي توارثها الكثيرون جيلاً بعد جيل, و الروائي عبد الرؤوف زوغبي في روايته الجديدة ” سماء مسجونة ” يقدِّم لنا رؤية تقوم على مواجهة تلك السلبيات بشكل فنِّي رائع, فما أجمل أن ينتصر الرجل لقضايا المرأة و تجسيد معاناتها في مجتمعاتنا, و ما أروع أن يواجه القلم التنويريّ بحرفه الفهم الخاطئ للدين لدى بعض الشباب فيصبحوا ضحيَّة لخفافيش الظلام بتحوُّلهم إلى التطرُّف و الإرهاب الذي يحصُد الجَمال و الأرواح و الأمان معًا.
تعرض الرواية معاناة المرأة في المجتمع الذكوريّ الشرقيّ من خلال شخصية” سلمى” و ما حدث لأمِّها “فاطمة” مع أبيها ” عمّار” ذلك الرجل الذي بإدمانه للمخدرات والخمر فقد كل معاني الإنسانية بممارسته العنف ضد زوجته إلى درجة أنّه قتلها من أجل الخمر, لتترك سلمى البيت و القرية و تبدأ رحلة التشُّرد و المعاناة, معاناة عبّر عنها الكاتب بقوله: ((هي مأساة طفلة وحيدة تجسَّدتْ بملامحها وسط ركام من التساؤلات الحَيْرَى بداخل عقلها الغضّ الصغير الذي لم يحتمل بشاعة الجريمة و وحشيتها، و هي التي كانت لا تفارق البسمة مُحيَّاها فقد كان وقع الحادثة كالصاعقة التي هزّت روحها و كيانها بيد أب سكيرٍ مًتجبِّر فقد كل معاني الرحمة مُستعبِدًا و مُنكِّلاً بامرأة وهبته نفسها و أرخصتْ له حياتها لينتهي بها الحال ككبش فداء يوم النحر، و لم تكن تعني له أكثر من آلة للغسيل و ماكينة للطهي و جسد ينتهكه كل ليلة كما البهائم لإشباع غرائزه و مجونه دون أدنى حقوق حتى حق الكلام، مُذيقًا إيَّاها كل فنون التجبُّر و التعصُّب و ألوان العذاب والامتهان)), ومن الأمور الغريبة التي تدعو للسخرية في مجتمعاتنا أنَّنا نهضم حقوق المرأة في نفس الوقت الذي نُقدّس فيه تمثالًا حجريّاً لها وضعه الاستعمار في حديقة عامة نكاية في الثوار و الشهداء الذين ضحُّوا بأرواحهم في سبيل الوطن ضد هذا المستعمر الغاشم, ذلك التمثال الذي لعب دور الأم البديلة في حياة الابنة سلمى في تلك المدينة.
كما تناولت الرواية قضية التطرف الديني من خلال شخصية الشاب سامي المتديِّن الذي قام بالعملية الإرهابية لتفجير التمثال ليسقط خلال تلك العملية الإرهابية الكثير من الضحايا, ذلك الفكر المتطرف تفضحه الرواية بعرض الفهم الوسطيّ المعتدل الصحيح للدين و الذي تمثَّل في شخصية الشيخ محمد شيخ الجامع في المدينة الذي أشفق على سلمى وقام برعايتها.
وقد عرض الكاتب رؤيته في لغة روائية سلسة لا غموض و لا تعقيد فيها, و تقوم على توظيف الخيال من خلال الصور البلاغية الجميلة, مثل تلك الصورة في سياق وصف جَمال عيون سلمى حين قال: ((تنهمر الدموع من عينيها العسليتين، تقطر و كأنَّها زخَّات مطر ربيعية تعانق أوراق ورد الأقحوان لجمالها الأخَّاذ..)).
كذلك اعتمد الكاتب على آلية النوستالجيا بالحنين إلى الطفولة والأم, مع توظيف آليه الفلاش باك باسترجاع تلك الذكريات, كما حدث في بداية الفصل الثالث من الرواية.
كما نلمس في الرواية الدقَّة في وصف الشخصيات و رصد أبعادها السيكولوجية مع التعمُّق في دواخلها النفسية, مثل هذا الوصف الذي قدَّمه لسلمى وقت رحيلها من القرية للمدينة حين قال: ((منذ رحيلها عن كوخها و قريتها لم تعد تعرف عن أحوالهم شيئًا, و ما عاد يربطها بهم سوى الذكريات، فتحْتَ ظلال المدينة البعيدة تجلس سلمى غير آبهة بالرياح العاتية و لا بغربة المكان، تجلس هناك وحيدة في خراب دير ٍعتيق لم يبقَ منه سوى بقايا أطلال تحاكي الزمن، يرافقها الأنين دون انقطاع، تئنُّ بصمت أو تقف على حافّة الوادي لترسل صرخات هنا و هناك، ويعود إليها رجع الصدى دون مجيب.. تستجمع قواها تارة، وتصرخ تارة أخرى.. يُخيَّل لمن يسمع صراخها من المارِّين أنَّها بنت عنيدة، لكنَّها كانت تحاكي مأساتها في ظلمات دهاليز المدينة، تتربَّع في أزقَّتها اللعينة هربًا من واقعٍ فرضته عليها الأقدار و قسوة الزمن، تحاكي صراخها و أنينها في خلوتها)).
و قد حملت لغة الكاتب الاعتزاز بالبيئة من خلال استخدام بعض المفردات الغارقة في المحليَّة, مثل كلمة ” مِتراس ” و كلمة ” قشَّابيَّة ” وأنا أرى أنَّ هذا لا يعيب الرواية في شيء لكنه قد يولِّد صعوبة في فهم معاني تلك الكلمات لدى القارئ الذي يعيش خارج حدود الجزائر.
و مَن يبحر في عالم عبد الرؤوف زوغبي في روايته” سماء مسجونة” في جزئها الأول هذا سيفهم و يستمتع بالجزء الثاني منها الذي يعكف على كتابته الآن.