بقلم: سليم النّجار
إنّ الحياة هي المحصلة في التّذكّر أو طمس مؤقّت أو نهائي لها٠ إنّها أشبه بزورق على شاطئ وسط الضباب والغيوم، وعندما يمحو الطقس لا يظهر في الأفق أيّ أثر لها، إلا عندما يسرد الروائي عن هذه الحياة٠ وقبل الشروع في تحليل أشكال النسيان، يكون السرد الأرشيف، وهنا لابدّ من التساؤل عن طبيعة السرد الكاشف لهذه الحياة، أهو آفة أم أمر طبيعي؟
وعندما يتكلّم الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عن بطله” فونيس” ويقول: إنَّ ذاكرته كانت ذاكرةً خارقة، إذْ كان يتذكّر جميع أحلامه ومناماته، ويستعيد أحداث كلّ يوم من أيام حياته وعلى مدى ٢٤ ساعة، إلاّ أنَّ هذه الحالة استثنائية أولاً، ومن نسج الخيال ثانيا، ما أتعس الإنسان الذي لا يستطيع أنْ ينسى!!
هذا استهلال أردت منه أنْ أذكّر بأهمية هذا السرد، في واقع حياتنا أولاً، وثانيًا بإنَّ السرد يتناول مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يكون في أغلب الأحيان امتدادا لما تصنعه اللغة الروائية على يد الروائي٠ كما فعل الروائي الدكتور أحمد الشربيني في روايته “شيفاز” الصادرة عن دار الناشر والمثقفون العرب والتوزيع – ٢٠٢٤ ٠
الدكتور أحمد الشربيني العربي الأكاديمي، الأستاذ في الجامعة الأمريكية في القاهرة، قدّم سردًا نقديًا للذات، ونفذ للحياة كممارسة توسّع من مجال الاختلاف٠ وتوفّر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضروب التماثل والتطابق التي تعيق حركتها، وتبطل فعاليتها، بعد أنْ انقسمت إلى تيارات متضادّة لا تتشارك في المفاهيم والتصوّرات الأساسية٠ وكلّ هذا يسهم في إضفاء نوع من العدمية على ثقافة تعجز من مناقشة إشكالياتها الخاصّة٠ لم يكن من باب الصدفة أنْ تكون شخصيات الروائي أحمد الشربيني في “شيفاز” من مصر، رغم أنَّ الفضاء الاجتماعي للرواية يتنقل بين دبي والقاهرة، غير أنَّ إصرار الكاتب جعل فضاءه الروائي مرآة للحياة المعاصرة المصرية، والمكان يصبح هامشاً على هذه الحياة التي اختارها الكاتب٠
يقول الروائي فورستر في كتابه النقدي أوجه الرواية إنَّ الفنَّ الروائي يؤدي إلى اتساع مدى الحياة التي تتّسع آفاقها من خلال روايتها٠ وفي معرض حديثه عن تصوّر خطّ (وهمي طبعا) يفصل بين المؤرِّخ والروائي، ويقول إنّ المؤرخ “يحاكي” أو “يسجل” الحياة المعيشة٠
أما الروائي فهو يخلق منها واقعاً يسمو على الواقعية الفجّة، ويساعدنا في فهم موقعنا من العالم متخطياً القوقعة الفردية والمحلية الضيّقة: (الهدوء يلفُّ المكان إلاّ من بعض همهمات كلب صديقي الوحيد يترقّبني في هدوء، وحيرة جالسًا إلى يمني رائحة الورد المنبعثة من الحديقة تبدِّد ستار الدخان قليلاً تُخرِجني من شرودي، ترقص الأباجورة يدفعني إلى أْن أبدأ القراءة ص٩)٠
ولن نذهب بعيداً إذا قلنا إنَّ الرواية هي كتاب الحياة بامتياز، لما تكتنزه من أسرار محبوكة تدعونا إلى التعرف إليها ومن ثمّ التعرّف إلى أنفسنا وحياتنا: (خبرتي محدودة في السياحة، ولكن معي مبلغ لا بأس به من المال، فلم أكن أنفق كثيرًا ساعدني ذلك جوّ المدينة المنغلق، وساعات العمل الكثير، فلم يكن عندي الوقت للاستمتاع ص١٧-١٨)٠
يقول كوتزي في روايته “عصر حديدي”: (لا أروي ما أرويه لكي استدرَّ العطف (من القارئ طبعا) بل لأجعل القارئ يرى نفسه فيما يحدث. والشربيني يؤكِّد هذا النهج السردي حين قال: (ما الذي أتى بهما إلى هنا؟ زاد من غرابتي ملابسهما القديمة نوعًا ما٠ دبّ داخلي حماس وإصرار غريباًن لمعرفة من هذين الشابين، ولكن دون لفت نظرهما إلي ص٨٣)٠
هذا الحدث الدرامي الذي خلقه الشربيني في حافلة الحياة اليومية التي يعيشها ويشتبك معها، كان يسعى على تأكيد أنَّ مصريته حاضرة بقوة، في الغربة، وإنْ كانت كلمة “الغربة” قاسية بعد الشيء، لأنّ المكان الذي يعيش فيه؛ هو مكان عربي، إلاّ أنّ الحال الذي نحيا فيه يجعل الروائي راصدًا له، بعيدًا عن تزويق٠ وقد نجح الكاتب في تصوير هذا المشهد الدرامي لنا، كأنّه يريد من المتلقي التفاعل مع الحدث والاستجابة له، بعاطفة، لنكون شركاء حقيقيين في التجربة٠ التي لا تنفصل عن عملية نقلها وتصويرها كما هي، بمعنى أن الرواية، مثل الثقافة، فعل جمعي، أشبه بشاهد عيان على الحدث: (حكيت لهند في ذلك اليوم كلّ شيء حياتي السابقة، عن إخوتي عن بيتنا، عن الذكريات٠ عن الأسباب الحقيقية في أنّني لم أجد بعد حياة تعوضني بتفاصيلها عن كلّ تفاصيل حياتي السابقة وأن الذكرى بكثير من الحاضر ص١١٧)٠
وسع الشربيني فضاء دبي الاجتماعي وكساها بملاح مدينة، ونفذ إلى دواخل شخصيات أدمنوا البحث عن فرص للحياة بشكل أفضل، وشهد على ظواهر اجتماعية تموت في المساء في حياة خاصّة بهم وتنبعث مع الصباح: (كانت أولوياتي في الحياة وما تزال هو عملي الذي اهتممت به كثيراً٠
كثيرًا ما كنت أتذكّر البدايات وضغوطاتها والرعب من الفشل، ومحاولات إثبات الذات، ولحظات عدم الثقة في أنّني أقدر، وتساؤلاتي ما هي حدود مقدرتي ص١٢٢)٠
كما اتّكأ الشربيني على وعي محسوب، ينظِّم العناصر الروائية، المتنوِّعة، كخلق حكايات مختلفة: مكان العمل موقع تحقيق الذات، والنادي الليلي كغلاف يعرض السديم اليومي وحوارات مع الذات، التي تجلّت بصورة حوار مع أنثى، هنا لا يهم الاسم بقدر ما يهم أنَّ أفكاره تنفذ لهذه الأنثى، التي بدت صورة فوتوغرافية لمقولاته: (التفت إلى هند التي كانت متّسعة العينين تبادلني نظراتها المتوتِّرة قلت لها باعتذار مهذب: شكرا يا سيدتي فأنا لا أريد ولا أومن بقراءة الكف.
هند قاطعتني بلهفة: كفى٠
أحمد أرجوك اجعلها تقرأ كفّي٠
أنا: موجهًا حديثي إلى العرافة
من أنتِ يا سيدتي؟ ص١٢٣)٠
أعلن الشربيني، في سرده الروائي عن أفكار روائية أربع: التوليد الذهني للعناصر الروائية: (كانت حياة دائمة الشرود، دائمة النسيان، لم تعد تقرأ كعادتها وأصبحت لا تتحدّث كثيرًا ولا حتى معي ص١٣١)٠ تأتي الفكرة الثانية من الأولى قائلة إنّ الروائي يرسم شخصياته، من وجهة نظر مصائرها: (أحسّ بفجوات غير مكتملة في حياتي، آمال وأمانٍ واستقرار لم يتحقق، حياة أتمناها ولم أخطُ تجاهها خطوة واحدة ص١٧٤)٠ والفكرة الثالثة: هي لصيقة بما سبقها، الحمولة الثقافية الواسعة التي اعتمد عليها الشربيني، مؤكداً أنّ “الخلق الأدبي استئناف لخلق آخر قد يأخذ شكل حوار أو فكرة طارئة: (إنجي بادرتني بصوت يشبه الحدّة بغير واعٍ في الحقيقة سأذهب إلى الإسكندرية غدا٠ أنا: التفت لها في هدوء، كانت تنظر ناحية بوابة الفيلا.
وسألتها ولِمَ؟
إنجي: بعصبية لا أفهم سؤالك؟
أنا: ولماذا كلّ هذه العصبية؟ ص١٨٣-١٨٤)٠
والفكرة الرابعة هي وليدة الثالثة، فالشخصيات في الرواية جميعها مرايا، تحمل جميع المقاييس الصغيرة منها والكبيرة، تعكس روح الروائي القلقة والمطمئنة معا: قلق يشتاق لوطنه ويعرف يقيناً أنّه عائد، والوطن هنا إنجي: (لقد افتقدتك كثيرًا٠
أنا بشيء من المرارة أحقًّا؟ ص١٨٩)٠
بمعنى أنّ الذكريات هي الوطن الحقيقي للإنسان وما الأسماء سواء كانت مؤنّثة أو مذكّرة هي عناوين للذكريات٠
يقرأ أحمد الشربيني في روايته شيفاز تجربة الإنسان المعاصر، التي جعلت من الإنسان آلة صماء، والرواية هي التي أنطقته٠