عن دار الأدب العربي للنشر والتوزيع صدرت للروائية حسنة القرني عام 1438 / 2017 روايتها (ليلة القيامة: من ذا يقول يقينا؟) في نحو عشرين ومائتي صفحة من القطع المتوسط.
الشخصية الرئيسة في الرواية شخصية أزعم أنها لم تتكرر في الروايات التي قرأناها من قبل، وهي شخصية السَّيَّاف الذي ينفذ حكم الإعدام، وما يعتلج في نفسه من ألم وحسرة، وما يخالطها أحيانا من تعاطف مع الضحايا / المجرمين.
السياف (ياقوت) ينفذ حكم الإعدام نهارا في المحكوم عليهم حتى إذا جن الليل كان على موعد مع أرواحهم في المنام، أو في يقظة كالمنام.. تزوره أرواح هؤلاء فتجادله حول قضايا أصحابها، وتبين له مسوغات ما اقترفوه، وأن كل ما عدَّه المجتمع جريمة نكراء له ما يبرره، وأنهم لم يفعلوا أكثر من ردة فعل، وأن المجرم الحقيقي هو من يظنه المجتمع بريئاً!
من هؤلاء (هاجر) التي قتلت زوجها ليلة زفافها لأنها شعرت بالقهر من ظروف ارتباطها به، فهو كان متعاونا مع هيئة الأمر بالمعروف، استغل علاقته بالهيئة لعرقلة مشروعها التجاري الاجتماعي، فقد نوت تأسيس ناد رياضي، لكن لعدم تقبل المجتمع فكرة الرياضة النسائية جعلته تحت مسمى ناد صحي.. ضايقها هذا المحتسب بكل ما استطاع بهدف تعطيل المشروع فكرة وواقعا حتى اضطرت لقبوله شريكا لها في المشروع. ولم تكن نيته صافية فقد كان يطمع في أن يكون التضييق سببا لإجبارها على الموافقة على الزواج منه بعد أن رفضته صراحة، فلجأ إلى تدبير كمين ليوقعها في أيدي رجال الهيئة متلبسة بخلوة، وشر البلية الذي يبكي ولا يضحك هو أن هذا المتعاون مع الهيئة هو الطرف الآخر في هذه الخلوة!.. وبهذا نجح في أن تودع السجن ليضعها ويضع أهلها أمام الحل الذي لا بد منه للستر؛ وهو القبول بها رغم أنف الجميع!
أما القصة الثانية فهي لـ(نيرون) اللقيط الذي ظل يعاني من نظرات المجتمع على اختلاف طبقاته وفئاته حتى تجرأ عليه واستهان به كل أثيم.. تألَّفه (قارون) ليكون صديقا له، ولكن أنَّى للقيط أن يكون له صديق؟! هذا الصديق شاذ جنسيا راوده عن نفسه، وألح عليه فلم يجد بداً لصده والدفاع عن كرامته إلا إزهاق روحه!..
تزور روحا كلٍّ من هذين المحكومين – هاجر ونيرون – بعد أن نفذ حكمَ القصاص فيهما السيافُ ياقوت، وتجادلانه فيما فعل بهما، ومع أنه مجرد منفذ لحكم الشرع إلا أنهما تحملانه مسؤولية إزهاقهما..
تضطرب حياة ياقوت من هذه الزيارات الليلية للأرواح، إضافة إلى ما يشعر به عند تنفيذ الحكم الشرعي من إحساس ببراءة من ينفذ فيه الحكم، أو بأنه نفذ جريمته مكرها فلا يجد أمامه حلا إلا الاستقالة من عمله.. يتفرغ بعد التقاعد للقراءة وتثقيف نفسه ويجد في نفسه الميل لكتابة مشاهداته ومذكراته.. ولأنه لم يكن كاتبا معروفا ولا مؤلفا مشهورا فقد سطا صديقه المقرب (عاصم العربي) على أول مقالة له جهزها للنشر وأطلعه عليها، فينشرها هذا باسمه، وينشب بينهما خلاف تكون نهايته تشابك بالأيدي، ثم ضربة من ياقوت على رأس صديقه عاصم ضربة أودت بحياته فأصبح في لحظة من الزمن مجرما يستحق القصاص!
تناقش الرواية موضوعات في غاية الأهمية وتطرح أسئلة معقدة.. ولكي تجد الروائية منفذا لتمرير أسئلتها المشاكسة تحمِّل (الراوي) المسؤولية فتطرح التساؤلات والقضايا على لسانه..
يتساءل نيرون اللقيط عن عدم تطبيق فحص الـ DNA لإلحاق المجهولين بآبائهم، فيقول: «كان يمكن لهذه التقنية أن تخلق مني نسب معرفة.. كان يمكن أن أكون نبضا لحياة مختلفة، شاءها الإنسان لأخيه الإنسان، وأقرها العلم دفاعا، وسوغها الطب بشرعية الإنصاف، ولكن هيهات وقد فقد الإنسان رغبته في تحرير البشرية من أغلال الجهل والجاهلية». ص 134 – 135
ومع تطبيق الحدود في المملكة وفق الشرع يبرز تساؤل عن البحث في مسببات اقتراف الجريمة، وتساؤل عن إمكانية تطبيق عقوبات بديلة كالمطبقة في الأحكام الأخرى التي هي دون القتل. وعلى لسان روح نيرون – بعد تنفيذ الحكم فيه قصاصا – نجد هذه الأمنية المرتقبة: «رحلت عنك كيوم غادرتُ جسدي حين قصاصها دون استتابة، دون تحقيق مصلحة للبشرية، على الرغم من استحقاقي لفرصة استثنائية للحياة. رحلتُ عنك وفي بعضي يقين أن ثمة قرارا سيصدر يقضي بالأحكام البديلة على بعض أحكام القصاص». ص 216
وبعد صدور التنظيمات الجديدة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعود روح هاجر لتحدثها فتقول: «عدت إليك بعد أن أصبحت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن مهام جهاز الدولة الأمني على شكل حراسة أمنية حكومية، وبهذا ستتطور من الإيقاع والمطاردة التي تثير منها وعليها الغضب». ص 217
الرواية كتبت بأسلوب مشوق، وبانتقالات بالمشاهد تغري بالمتابعة والترقب، وبلغة راقية مع ما شابها من أخطاء لغوية ونحوية لم تؤثر في جمال الرواية..
تعتمد الرواية على الكثير من الاقتباسات التي أشارت الراوية إلى مصادرها في فاتحة الكتاب، منها قصيدة لأدونيس ومقتطفات من توصيات لبحث شرعي، وخطابات لخادم الحرمين الشريفين حول تمكين المرأة من حقوقها..
ومما يسترعي الانتباه إيرادها أيام الأسبوع بمسمياتها التي كانت سائدة لدى العرب في الجاهلية (عروبة وشيار وأهون …) وقد ذكرني هذا الاستخدام برواية (جاهلية) لليلى الجهني، وفي هذا ما فيه من إشارة إلى نسبة الأحداث في الروايتين للجاهلية الحديثة..
إن الجدة في موضوع هذه الرواية وشخصياتها يجعلنا ننتظر من الروائية حسنة القرني أعمالا لا تقل جودة وابتكارا، وأخالها قادرة على صناعة الدهشة.
( الجزيرة )