لسميرة الشريف قدرة فائقة على العزف بالقلم لتشكل حروفها معزوفة موسيقية رائعة. لكنها هذه المرة اختارت أن تجعل معزوفتها مضيئة كما تفعل العروض الموسيقية المصاحبة لنوافير المياه. تقول على الغلاف الخلفي لكتابها: «بأمدة الضوء المنبعث من حنايا حالمة أدون هنا نبضا أدبي المحيا.. بعزف لغوي مائج في أواصر الروح.. يقرأ الوئام على الشتات، ويرسل لحندس الكون أغانيه: أن تبدد»..
كتاب (عزف الضوء) هو كتابها الثاني بعد (ضفاف قلم) وكلاهما من النثر الأدبي الذي كاد ينساه القراء في موجة الخواطر الشعرية التي حار كتابها في تصنيفها بين النصوص والشذرات والومضات، وفي هوجة السرد الذي اتخذ مسارين لا ثالث لهما: الإسراف في السرد إلى حد الرواية، أو الاختصار إلى حد القصة القصيرة جدا..
سميرة بإصدارها الثاني تعلن ولاءها للنثر الأدبي، ولا يهمها التعلق بالشعر، مع أنها لو شاءت لنسبت كتابها إلى دائرة الشعر دون أن يشعر أحد بغربته عن ميدانه، فلغته الشاعرة وبريق حروفه ووهج أفكاره تجعله لا يقل عن الشعر جمالا وإبداعا.
يقع الكتاب الصادر عن دار إرفاء للنشر والتوزيع سنة 1439 في عشرين ومائة صفحة من القطع المتوسط يضم مقالات متنوعة يتخللها ومضات تشكل مداخل أو خواتم لها.
تفتتح المؤلفة كتابها بإهدائه إلى نفسها وإلينا جميعا، وكأنما تريد إيجاد علاقة بينها وبيننا – نحن القراء – «كلماتي هنا بصوت من ضجيج، ولكن أُغلقَ في قوارير الروح.. كلما ارتفع الصوت قاربت حد الانشطار ليصل الصدى.. ليكون في عمق الفراغ.. ليدون ما يجب أن يكون».. ص5
ولتعزيز هذه العلاقة تتوجه للقارئ بكلمة شكر: «للقارئ المتأمل حينما قلَّب بأنامل قلبه هذه الصفحات ليبحث في ثناياها عن سر غائر بين السطور لقول يجب أن يكون». ص 7
وتفصح عن محتوى كتابها في مقدمته فتقول: «وأنا هنا أتحدث مع الحياة، وألوانها، وتضاريسها، وخفاياها الحالمة، والواجمة، والراقدة في قاع تزدحم فيه المعاني، وتتصارع من حوله الأضداد». ص9
وتُبين أنها أرادت لهذا الكتاب أن يكون صادرا من القلب لا العقل: «عادة كنت أفكر بعقلي، لكن اليوم أصبح قلبي يفكر أكثر، ووضعتُ قوانينَ العقل جانبا، وأخذت بقوانين القلب وخفقاته». ص10
لكن التفكير بالقلب قادها لتختار الطبيعة لتتحدث إليها، وعللت ذلك بقولها: «إنها تتحدث معك لا تبوح بسرك، ولا تفرح بترحك، ولا تشمت لوجعك، ولا تكيد لك دائرة سوداء، ولا تجر إليك جندا من الأعداء». ص11
وتنتقل المؤلفة بنا من موضوع لآخر، حتى إذا أخذتنا إلى (حديث الورد) عابت علينا قطافه: «كل العالم يقطفك ليرعى الحزن النائم في عينيه، وليكتب الفرحَ الغائب عن عتباته… ليلفظك روحا تغادر بعد أن نطقت السعادة في قلوب متعبة». ص37
وتخاطب الورد مأخوذة بأحواله: «أيا ورد.. إني أرقب في خلدك عجائب؛ فأنت في يد البائع الفقير تكسبه جمالا، وفي يد الغني تزيده جلالا». ص 38
وتوازن بين عمر الورد القصير وأعمارنا التي ندعو الله – رغم طولها مقارنة بعمر الورد – أن تطول: «تحدثنا عن قصر نبض الحياة فيك، ونحدثك عن انتشاء السعادة فينا.. تحدثنا عن ذبول عجل، ونحدثك عن تعلق بالحياة يرجو من الله أن يمهل تسرب أرواحنا إليه، ويدعوه مع ذلك مديد عمر رشيد». ص39
وللكاتبة نظرة فلسفية جلية، فحين تخاطب الطبيعة لا تكتفي بوصف عابر أو تعبير عن جمال آسر، لكنها تتأمل ما يتركه ذلك المنظر الطبعي من أثر على النفس. فمن خاطرة بعنوان (تحت ظلال المطر أوردة لا تجف) تقول: «تأتي كموجة فرح عُزفت على وتر الغصون، تناغمت مع الوجود وحضرت لحنا من جمال مازجت الأنحاء العطشى فطربتْ من نقائك، وتبدل حال الكدر بأمر خالقه إلى حال من سرور». ص40
ثم تخاطب المطر راجية منه أن يمتد خيره ونفعه إلى غير الأرض؛ إلى أصناف من البشر في أمس الحاجة إلى الغيث المعنوي:
«انهمرْ على الجسد المتأوه من زحمة الأمراض؛ لتسند الشقاء فيه….
«انهمر على هامة الجائع حبًّا، وأمانا، وسعادة، وحياة، ومودة، وحدثه برهيفِ صوتٍ أن الله يسمعك بقدر الوجع الذي يتخفى في نياط قلبك…
«انهمر على قلب اليتيم، ودس في قلبه الفرح نورا نورا، وجلجل في سمع قلبه أن صاحبك مرافق لنبي الأمة – عليه الصلاة والسلام – في جنة الخلد». ص42
وفي قطعة بعنوان (وهكذا قالت لي الحياة) فيض من الحكم. تقول: «وأهل الجد والكفاح لا يرون في الكسالى إلا زيادة أنفاس تستهلك من أوكسجين الأرض؛ فهم للتقويض أقرب من العمل، وللهدم أسبق من البناء، مجرد عدد لا أكثر». ص46
وتتحدث عن القلم المتلوث بالزيف تحت عنوان (رنان بلا معنى) فتقول: «ولكن ما حال القلم المتلفع كاتبُه بألف لون يأتيك بظاهر الحسن، ويخفي شر طوية، يكون بوجهين بل أكثر.. يتلون مداده شهدا لاذعا بسم زعاف ليعكس لك صورة جلية بالطهر وهو في مخبأ من ضد مراوغ». ص60
وتحت عنوان (ومن الحسد ما قتل) توجه رسالة من حاسد إلى محسوده تقول فيها: «إني أبغضك وأدعو في كل حين أن يعثر الله خطوك، فقد أهَلْتَ عليّ من صبرك ما يجعل صبري يضيق …». ص68
ثم تجيب على لسان المحسود بقوله: «ألا والله يا حاسدي.. لقد وصلتني رسالتك الموغورة بسوء، المخبوء في طيها شر محموم.. أما لو طيبتها بكَلِم كالعود بدلا من نفثك الجحود، وألزمت مقدمتها بحمد بدلا من حقد، فإنك – والله – لنفسك لشرُّ قاتلٍ، ولصنيعك هالك بن هالك، وما أنا إلا شاكر لك ابن شاكر، وما يزيد نار حنقك علي إلا من طيب خلقي». ص61
ولعله لا يخفى أسلوبها الجاحظي الموسوم بقصر الفقرات مع السجع اللطيف غير المتكلف.
ولموضوعات الكتاب ترتيب جميل، فالمؤلفة تضم ما تشابه من موضوعات لتكوِّن وحدة موضوعية. ففي ثلاثة موضوعات متتالية يتخللها ومضة تتحدث عن (الكتابة) وتبدأ بقطعة بعنوان (بعض من الجنون) لتكون مدخلا تتحدث فيه عن هدفها من الكتابة وهو تحرير أفكارها من القيود. تقول: «رفقا بقلمي فهو يود أن يخوض عراكا مع الحياة، ولكن لا ضدها، بل موازيا لها.. هو يريد شحنة من يقين تمتلئ به أحداق الورق.. نفثة من نور تسد الخلل». ص72
ثم تنتقل للحديث عن فائدة الكتابة تحت عنوان (تماما لن أتوقف) فتتساءل: «ما قيمة سواد الحبر الذي يذوب في أديم الورق إن لم يترك وقعه يتردد في الأضلع المنحنية؟ ما جدوى الكتابة إن لم تترك الأثر الناصع الذي يتشبث في عنق الروح؟ ما فائدة الكتب المتناثرة، والأقلام الرنانة اسما وشهرة؟». ص73
وتستكمل موضوع الكتابة تحت عنوان (قلم الحب) فتقول: «قلم الحب هو ذاك الأصيل في همسه، الصادق في رسمه، الغارق في حلمه، الجلي في قوله، إن دونتَ به أرسلتَ لقلب الورق لحنا صافيا بوحه، وعزفت به على سطوره». ص 76