بقلم الروائية عنان محروس ( الأردن )
التهافت على ذاكرة تطرح نفسها بإلحاح عبر قرنين من الزمن، تكافؤ يثبت أن فرق التوقيت لا يغيّر الأقدار وإنّما يسبغ عليه صفة الوضوح، حيث الخيال في الرواية تكرار لدورة التاريخ المنصف والحدث والمصير الإنساني، والانهيارات السياسية والاقتصادية والفقر، تبعات مؤكدة للسقطة الإجتماعية عبر أجيال متعاقبة تداخلت في سرد رواية، مائة عام من الضياع، مابين الخرافة والواقع، حيث تنقّلَ فيها الروائي رياض بين الماضي والحاضر ليعكس فكرة تكرار الحدث ويجعل الزمن دورة لا تنتهي من الأحداث المتشابكة عبر عناصر خيالية، لاكتشاف الأبعاد الوجودية من خلال عوالم تنتمي لواقع غير مألوف، كوكب سيراتا، حيث اللغة فضائية والوقت قابل للثبات، وأصوات بلا أجساد، وتحدي المنطق عبر الانتقال عبر الزمن، وطرح العديد من التساؤلات الضمنيّة مثل ، أين تذهب الروح بعد الموت؟، هل سكان الفضاء أكثر رحمة من بني البشر ، ليحملوا على عاتقهم شفاء قلب المسكين جو، وإعادة الحقوق؟، هل تكمن فحوى الإجابات عبر تنويم مغناطيسي يمارسه الطبيب الذي عالج سام؟، أنحتاج إلى عناصر خارقة تتجاوز الحد المعتاد، لنحقق العدل؟، والكثير الكثير
في الرواية، كسر كاتبها رياض الرتابة بهدف جذب القارىء من خلال إثارة التعجب عبر تقديم تجارب ضمن بلاغة أدب عجائبي بين النتائج غير الطبيعية، كتبخر الأجساد البشريّة وانتقالهم للأماكن البعيدة عبر لمح البصر، منحازًا إلى فكرة التقمص الذي يوحي بالهروب باستخدام جسد آخر، لكن بنفس العقل والروح القديمة، فلا أهمية لوعاء مادي من دم ولحم، لذا اختار الكاتب سام، وهو حفيد من أحفاد جو لإتمام فكرة النقل ، فتبقى الأفكار والمواهب من شخص آخر ، دون أن يفقد الأول قدراته، رغم الجثّة المحنطة، جو هو الأساس الذي تفرّعت منه شجرة عائلة سام ويودي، لتتضح الصورة في أعماق الوعي، فالضياع ليس ضياع الأزمنة، بل عبر فقدان بوصلة الصواب ، تتبدّل تواريخ الأيام وتبقى المعاناة والحروب والجريمة ذاتها لا تتغير
استخدم الكاتب تقنية الفلاش باك المتقطع، كأساس رئيسي للحبكة في الرواية، وخرج عن المألوف في التقطير المثير في الأحداث مابين القرن التاسع عشر والقرن العشرين ، متناوبًا عبر حركة متلاحقة تصيب القارىء بالدوار ، وفقد السيطرة في بعض مراحل الرواية، لقوة تكثيف المعلومة ودوافع الشخصيات، ليصل في النهاية إلى اختلاط من كشف ونور ، يزيد من متعة القراءة
راق لي دقة توصيف الشخوص الكثيرة، الرئيسية والفرعية، بلباسهم وصفاتهم الشكليّة، بعمق وصف الأمكنة المتعددة وسكانها، خاصة على كوكب سيراتا وكأن الكاتب قام بزيارة مطوّلة وأقام في مرابعهم
تضمنت الرواية الوافر من العواطف الإنسانية، من العشق بعد خصام، انتظار الغائب بشوق ووجع الفقد، الأمل الذي يغذي مشاعر الأمومة ،ورقي العطف والرحمة، كما بالمقابل احتوت على صراع الأخوة ، فبعض الأقارب عقارب كما يقال، كما تجلى الظلم والاستبداد، والصمت على الأذى في سبيل تحقيق حياة كريمة
أشار الكاتب إلى نوع من التناسخ عبر عوالم متوازية، وجعل من الأحلام والخيال، بشارات تُبهج النفوس عند الصحو، وتكشف الغمّة عبر رؤيا صادقة، ولتصبير قلوب من ذهب كقلبي سارة وليزا
حكايا عديدة وأسرار قديمة ومخزون سحري يفصح عن نقص الحقيقة، فهل من الممكن أن ينتقم المكلوم في زمن آخر قادم، ويحقق، عدل الكارما، وتتضح الحقيقة، فكل جسدٍ فانٍ والروح باقية
خيوط متشابكة في الرواية، ذكرتني برواية مائة عام من العزلة، للكاتب الكولومبي غابريل غارسيا، فكفتا العزلة والضياع متساويتان وكلاهما نفي، حيث تأسيس المدن المتخيلة من العدم، والعلاقات القوية مع زعيم الغجر أو حاكم المنطقة، وفك رموز الشيفرات القديمة، والمزج المتعب بين الخيال والواقع ، ولاننسى قول ماركيز لأحد أصدقائه بعد الانتهاء من أحد كتبه، إن تأليف الكتب مهنة إنتحارية، ولابدّ أن الروائي رياض تعرّض للكثير من الإرهاق حتى أنجز هذه الرواية الجميلة، التي تنوّعت بالأسلوب ومزجت الأسطورة بالخيال العلمي، واخترعت جغرافية غير مطروقة في عالمنا، فالرواية الخيالية ليست مخوّلة بإعطاء المطّلع عليها تاريخًا أو خريطة جغرافية حقيقية، وهنا يكمن إبداع هذا النوع من الخيال
أخيرًا
الرواية ساحة من مسرح واسع تتم عليه المعجزات ، وهي رسالة إلى المفسدين في الأرض، فالظلم زائل مهما طالت مدّة إخفاء معالم الجريمة، فلا وجود للجريمة الكاملة، والحق سيأخد مجراه يومًا، فعلى الأجيال التعلم وعدم تكرار نفس أخطاء الماضي ، فالفجوة واضحة بين السوء الذي ننقاد إليه دون اعتبار للعواقب، وبين الخير الحقّ، والبشر من طين متعدد، فقد يكون من يصطنع اللطف بشريًا مجرمًا متنكرًا بقناعٍ دائمٍ ، أخفى معالم وجهه الشرير
كل أمنيات التوفيق والنجاح للروائي رياض حلايقة
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية