كتب : بسام الحروري.
في روايتها البكر الموسومة ب” مراوغة قدر ” انطلقت الكاتبة الواعدة بشرى بشير من الواقعية النقدية في ملامستها للمشكلات والقضايا التي طرحتها بأسلوب نقدي واقعي ورمزية سلسة، وهي ذاتها القضايا التي تشغل بال المواطن وتضعه أمام إشكالية حلحلتها أو التعايش معها والتأقلم على تقلباتها، وهي ايضا ذات القضايا التي يرزأ تحتها الوطن ، سواء كانت إشكاليات وسلوكيات وظواهر إجتماعية وأخلاقية أم قضايا دخيلة على هذا المجتمع، وهي على أية حال تراكمات ترسب بعضها نتيجة الوضع المزري وغياب العدالة كما أنه نتاج طبيعي لطول أمد الحرب وغياب سطوة الدولة.
الكاتبة تناولت كل تلك القضايا المعقدة بإيجاز رمزي سلس كما اشرت ، وكما هي عادة الكثير من الروايات والقصص ضمنت بشير روايتها قصة حب تخللتها الكثير من المراوغات القدرية حتى اكتملت وبالمقابل تميزت سردية الرواية بأسلوبها السهل الممتنع التي حرصت الكاتبةعلى تأثيث روايتها به، وإذا ماتمعنا في سيميائية ودلالات المراوغة التي تضمنها غلاف الرواية وبالذات عنوانها الموسوم ب(مراوغة قدر) سنجده مضافا ومضافا إليه ،ومن خلال التامل والتمعن في إحالات معنى العنوان وانزياحاته يتضح بأن المرواغة ليست وصف للفعل ذاته، ولكنها حدث ضمن السياق القدري الذي نتحرك خلاله، فنحن من نصنع هذه المراوغة التي تتشكل في حيثيات وتتشابك خيوط وخطوط حياتنا خلالها ثم نعزوها للقدر ، وإذن فالمراوغة هنا هي نتاج الفعل وليس وصف للفعل ذاته الذي نصوره في صميم وكينونة القدر. وفي ذات الإطار اشتغلت الكاتبة على هذه السردية،وضمنتها وصفا مغايرا من خلال تشابك الأحداث وسلاسة انفكاكها وهذا يحسب لها ،وهي بذلك تختط لذاتها خط متفرد وتضع بصمة تميز لنتاجها الإبداعي، حتى ان الرواية اختلفت عن نظام الروايات المعروف لخلوها من نظام الفصول او التبويب الذي تترتب عليه جملة الأحداث، وهو ماحدى بأحداث الرواية ألى السير والتداعي على نسق واحد،وهو مااستدعاه عنصر التشويق،حتى يحفل القارئ بتتابع الأحداث واتساقها وذرواتها وينسى أمر الفصول وينساق متشوقا ومتلهفا وراء تلك المراوغات القدرية التي ضمنتها الكاتبة روايتها ،حيث تقع الرواية في ١٧٠ صفحة من القطع المتوسط، فيما غطى الغلاف اللون الأسود تتوسطه صورة جانبية لوجه امرأة محطمة الملامح،تعلو رأسها زهرة دوار الشمس ،حيث تفضل هذا النوع من الزهور بطلة الرواية شمس،كما باح به متن الرواية، وهي ذات الرمزية التي تنداح من سيميائية الغلاف التي تنسحب على رمزية تلك الصورة كما جسدتها لوحة الغلاف بمراوغاتها القدرية التي تتمخض عن الفعل السيميائي للقدر والمنداح عن جملة الأحداث وليس عن المعنى المباشر، كما يتبادر إلى ذهن البعض،من خلال السواد الذي غطى مساحة الغلاف. وهو ماوشت به لنا هذه السيميائية من تشكلات اللحظة أو اللحظات الفارقة،التي نمر بها بين تحولاتها القدرية، فمن بين قدرين ،قدر يمضي وآخر يتشكل، تكمن هناك منطقة وهمية فاصلة ومختزلة للشعور اللحظي الذي يعترينا إزاء مطب قدري ما مؤلم وصادم ، بقدر ما يتخيله او يصوره أوتبرق مجسات اللاشعور من خلال صورة ذهنية معكوسة، عن القلق والخوف والخذلان والوقوع في شرك الخيبات والانكسارات التي نتعرض لها في الحياة العامة فالسواد هنا هو رؤيتنا تجاه لحظة قدرية مؤلمة سواء أكان هذا الألم يتمثل على شكل فقد عزيز او خذلان حبيب،او اي مصيبة تقع في طريقنا إلى الحياة ،وهو مايغلب على المرء وهو مايغلب على المرء في الاغلب الأعم نتيجة الصدمة وهول الموقف. فيحاوطه السواد الذي تشكله خليط من المشاعر السلبية نتيجة حدث المراوغة كضعف الإيمان ،والاحباط والخذلان والصدمة ذاتها والضعف عامة،وهو أيضا مايمثله السواد الغالب على غلاف الرواية إلى جانب رمزية وجه المرأة الجانبي الذي هو آخذ بالتلاشي نتيجة تلك المشاعر التي تحاصره فتشعره بهذا الكم من السلبية من الداخل فينعكس خارجيا، كما وتمثل رمزية زهور عباد الشمس او دوار الشمس، التي تبزغ وسط هذا الظلام وهي تعلو رأس المرأة المتلاشية وتتموضع في منطقة الدماغ وفيه العقل الذي يبرق بهكذا مشاعر كشمس اشرقت للتو بحيث ترمز في سيميائيتها إلى عودة الأمل وارتفاع منسوب الإيمان بحكم أن هذه الزهره كما هو معروف عنها أنها تتبع الشمس في مسارها والشمس تمثل النور والضوء الذي يمثل الاهتداء إلى الصواب والطريق الصحيح وكذا الموضع الذي تتخذه كما أشرت في أعلى الرأس موضع العقل، والعقل بدوره يمثل جزء من المشاعر لدى الإنسان، وبالتالي هي مرحلة فاصلة طالت أم قصرت بين بدء طرد المشاعر السلبية واستقبال نقيضها المشاعر الإيجابية التي ذكرتها آنفا والتي يرمز لها بالضوء والزهرة والشمس،كما ان ظهور صورة الوجه الجانبي للمرأة،وهو في وضعية التلاشي ماهو إلا رمزية للمعاناة، والحقيقة هنا قد تكون حمالة أوجه فتلك ذاتها المعاناة والمكابدات التي تثقل كاهل المرأة والتي ضمنتها الكاتبة متن الرواية،أضف إلى أن الرواية تحمل في مضمونها علائق البشر الاجتماعية بسيميائيتها لمن اراد التوسع في التناول من هذه الزاوية في قراءة موازية عن الأنساق وما تحويه مضامينها ودلالاتها .
سيميائية السواد وانزياحاته المنداحة على قضايا المواطن والوطن
وإذن فقد تكاملت لوحة الغلاف مع عنوان الرواية في عدة أوجه أهمها التعاضد المعنوي الرامي إلى التأويل الضمني،فكل وجه مكمل للآخر ،حيث يعطي العنوان تأويلا معينا لتكملة رمزية اللوحة وإذن فرمزية الدال تنبئ أو تكمل محتوى المدلول بمعنى آخر تعد إمتدادا له، وإذ ماتأملنا اللون الأبيض الذي كتب به عنوان الرواية في وجه الغلاف فسنجده يتضمن تأويلا لسيميائية الانفراجة والفكاك عن واقع المراوغة البائس الذي رسمنا له صورة سلبية كمنت في جزئية اللاشعور، وإذا تسائلنا لماذا لم يكتب العنوان باللون الاخضر الفاتح أو الأزرق السماوي أو اللون الزهري مثلا لأن الكاتبة فتاه والفتيات عادة يفضلن هذا اللون،سنجد الجواب بأن اللون الأبيض جزء لايتجزأ من اكتمال اللوحة / العنوان،أو العكس فهذا التكامل قد تداخلت وامتزجت في تكوينه عدة عناصر سيميائية منها : الصوت/ النطق واللون والرؤية والتأويل ليكتمل هذا المعنى الفسيفسائي
إلى جانب أن الصورة التي شكل بها وجه المرأة الجانبي أقرب مايكون إلى سديم أو رماد يتلاشى، وإذا ما أمعنا الرؤية كرة أخرى في وجه المرأة سنجد أن هناك خطأ أسفل العين ينزل في مسار منحدر إلى أسفل يمثل مجرى الدمع الذي يضاف بسيميائيته كنتاج يعبر عن معاناة المرأة في ظل مجتمع ذكوري لايعبأ بهذه المعاناة ويراها من صميم تركيبة المرأة اوتشكلها الفطري أو المكانة الطبيعية التي يجب أن توجد بها المرأة، بل هي في نظره ليست بمعاناة.
وحين يتم تناولها من منظور حقوقي عادل. وبالنظر إلى المساحات الصغيرة السوداء أعلى رأس المرأة التي خلفها التلاشي وانسيابه إلى بتلات زهر دوار الشمس الصفراء، حيث بدا ثمة تداخلا بين اللون الرمادي والأصفر ليشكل منطقة قاتمة اللون وهي ذاتها جزئية اللاشعور.التي سلف الحديث عنها نتيجة المشاعر السلبية إزاء هذه المراوغة التي يصورها اللاشعور ويعكسها على أنها واقع مظلم موغل في ظلمته إذا سلمنا جدلا برؤية سوسير بأن السيميائية تنطوي على التحليل النفسي إلى جانب النقد الادبي والتي تحددها المساحة الرابطة بين ثنائية الدال والمدلول في استنباط وتوظيف الرؤية التي تستبطنها هذه المساحة
سيميائية التوظيف/ الصورة / الظاهرة /المسمى.
ومن سديم اللاشعور تسحب الكاتبة سيميائية الظاهرة الطبيعية على تسميتها أو بمعنى أدق تسمياتها التي تنتقيها بعناية وتمنحها لبطلي روايتها (شمس ورعد) حيث كانت رمزية ذكية ومراوغة بما تمثله من التباعد وعدم الالتقاء بين ظواهر طبيعية كالشمس والرعد،فحيث تكون الشمس لايكون الرعد ، والعكس صحيح كما أن الرمزية كذلك تشي بطريقة مواربة وبعيدا عن العبثية بوجهة المشيئة ومراوغة الأقدار التي تجمع بعد شتات وتلغي كل حواجز عدم الممكن والمستحيل
من خلال استشفاف عكسيتهامن بين السطور وتضاد الظاهرتين السالفة الذكر فيتبادر إلى ذهن القارئ الحصيف للرواية من خلال المستوى الأول الذي ذهبت إليه الكاتبة في أن هذا الحب لن يكتب له الاكتمال لن يلتق رعد بشمسه كما يحدث بالطبيعة والمستوى الآخر في رؤية الكاتبة تمثل في إصرارها على الجمع بين التسليم بالأمر الواقع وقهر المستحيل الذي تمثله سيميائية الظاهرة في تصويرها للواقع وكسرها للقاعدة الطبيعية وقد كان.
وهي هنا تترك القارى في مراوقاتها لأن يعيد النظر فيما يظل مرتبكا بين هذين المستويين اللذين أزاحا غطاء المباشرة عن كاهل الرواية،أضف إلى أن رمزية اللقاءات التي حصلت بين الحبيبين في كثير من المواقف او الصدف وفي اماكن مختلفة ماهي إلا سيميائية تحتمل تناصا سحبته الكاتبة على فعل اللحاق والتوجه الذي تعرف به زهرة دوار الشمس وليس الشمس ذاتها
وإن كان ثمة غياب وانقطاعات غلفت هذا اللقاء الذي توج به حب الزهرة دوار الشمس بشمسها،حتى يكتمل الضوء بلاخفوت أو انقطاع ،ولتزاح تلك المراوغات التي أورثت لاشعور أبطال الرواية الاحباط والانكسار في لحظة ضعف ما ،ولعل هذا الغياب يحيلنا إلى تلبد سماء شمس بالغيوم التي تحجب هذا الضوء إضافة إلى اللقاء الذي كان مستحيلا والتوجه أو التتبع الذي تتسم به هذه الزهرة من خلال ارتباطها الوثيق بالشمس كدلالة ضمنية والذي سارت به أحداث الرواية كل تلك الرمزية تمثل سيميائية الظاهرة وإن لم تذكرها ألكاتبة صراحة،إلا أن انزياح تلكم الغيوم يعيد كل شيء إلى طبيعته أضف إلى أن كل ماسبق يمثل حجر عثرة في طريق رعد بطل شمس، وبالمقابل يثمل السعي في منع هذا الحب وتتويجه بشكل أو بآخر ،وتمثله في هذا المستوى والدة رعد التي ترفض الخطبة وبالتالي الزواج، وهنا يبرز غياب رعد الذي هاجر هربا من رفض أمه وهو مستوى موازي يعد رفضا منه لهذا الرفض الذي تمثله أمه كنتيجة لفعلها المراوغ والمنساب من تجاذبات هذه المراوغة القدرية التي تتشكل في أتون عدة نتاجات برمزيتها الصورية او المعنوية، ويمثل ذلك من خلال محاولة الأم أم رعد الحصول على حصتها من الإرث ، وكذا تفضيل الأهل والأقارب على الغرباء الذين لا تعرفهم ،وكما معروف في عادة المجتمع المتمثل في اختيار الأمهات شريكات المستقبل لأولادهن في زيجات العائلة حتى يضمن الولاء والطاعة المطلقة وفي هذا السياق جاء رفض الأب واخ والدة رعد كنتيجة فاصلة وحل قاطع من خلال استيلاءه على حصة والدة رعد في الإرث وهو بالتالي نتاج طبيعي للطمع الذي كشف قناع الأخ لأخته فلم تكتمل هذه الخطوبة ليعود رعد رفضه وغيابه (ورب ضارة نافعة كما يقولون) وشتان هنا بين ثنائية الرفضين المنبثقين عن جزئية مستويات المرواغة في هذا الصدد وتداعياتها ،فرفض رعد، وتعببره عن هذا الرفض بالسفر. والغياب ورمزيتهما، بحيث يعبر عنه كرفض محب آثر التضحية براحته (حتى لايعيش روح) كما أخبر شمس في الرواية بينما يقارب رفض خاله عندما رفض منح أخته حصتها وهو رفض باطنه الطمع والاستئثار بحق الآخرين وهو رفض سلبي بما يمثله من رمزية للظلم والقهر وأكل حقوق الناس إذ تحويها هذه الصورة الجامعة لتلك المستويات الظاهرة والمبطنة التي تغلف بعض من قلوب هذا المجتمع الذي تناولته الرواية.
وتأكيدا على تجسد الصورة من خلال توظيف الظاهرة وملحقاتها وأعني هنا تبعية وانقياد زهرة دوار الشمس الذي صار الرابط بينهما المعادل الموضوعي لقصة عشق بين حبيبين، فحتى على مستوى تبادل الهدايا بين رعد وشمس حين اهداها زهور دوار الشمس وهي سيميائية منسلة _ ليس عن تجسيد شكلي للظاهرة _ ولكنه غوص في عمق وكينونة هذه الظاهرة كنتاج وفعل يتجلى من صميم وحتمية عمق ومتن ذلك الرابط الذي يصل بين الحبيبين والبقاء إلى جانب بعضهما حد الالتصاق،وإن باعدتهما المسافات ،ليظل هذا الرابط في صورة مواجهة وتوجه توصل بينهما ذارت المسافات، وهو رباط وقيد حياة كما تفعل زهرة دوار الشمس مع شمسها ،ولعلنا نسرد ماكتبه رعد في قصاصة عندما أهدى حبيبته زهر دوار الشمس وحديث شمس ذاتها عندما فتحت الهدية في صفحة (١١١) من الرواية حيث تسرد بطلة الرواية شمس : (فتحت الباب وتوجهت إلى غرفتي ،بسرعة خاطفة فتحت الصندوق وأول ماظهر لي زهرتان من دوار الشمس ملفوفتان بشريطة سوداء،كان يعلم مدى حبي للون الأسود فغلف به الهدية والزهرتين، وتواصل : أخذتهما وكان مثبت بنهاية الشريط قصاصة ورقية مكتوب عليها : دوار الشمس يميل إلى شمسه ولكل منا ياشمسي شمسه.)
رمزية الوطن ومستويات قضاياه الشائكة
يحظى الوطن برمزية وحضور في أغلب نصوص أجناس الأدب كالشعر والقصة والراوية بما تحويه من الهموم والقضايا الشائكة التي تؤرق هذا الإنسان على امتداد وطنه وينسحب الأمر برمته وسيميائيته في معالجة الهم الوطني على الصعيد النقدي والنفسي والاجتماعي وهو ماذهبت إليه الكاتبة في الكثير من الجزئيات إذ خصت الوطن والمجتمع حيث يجسد الوطن في أغلب الصور من خلال نصوص الأدب وعبرها عامة،على أنه المركبة أو السفينة التي يجب أن تتظافر جهودنا حتى توصل كل من على متنها إلى بر الأمان،وتنطلق الكاتبة هنا من رمزية الوطن الجامع لكل تلك القضايا بإنسانها،فكانت سيميائية الباص الذي حوى كل تلك القضايا والهموم التي بثها أصحابها لبعضهم البعض وهم على مقاعد ذلك الباص الذي يقلهم ويمضي بهم،ولكل منهم وجهات محددة سلفا ومحطات يمضون إليها لكنها غير محسوبة النتائج وهو مايذكرنا به الحوار الذي دار بينهم فمنهم من يبحث عن ولده المفقود، ومنهم من يبحث عن مستقبل لأولاده إلى جانب الصوت في الطرف الآخر من التلفون الذي يؤكد لوالد الفتى الذي يبحث عنه أنه وجد مقتولا،لكن الأب من هول الصدمة لايصدق ويظل يستحث بقايا امل ومن هذا التجسيد المختزل للصورة الناضحة بالأسى أرادت الكاتبة أن تقول لنا أن الباص ماهو إلا صورة مصغرة للوطن وكذا الطريق الذي يمضي فيه الباص ماهو إلا رمزية للمستقبل المجهول أو لنقل الغامض والمرحلة التي تغلف هذا الوطن ،وإذن فهو إزاء ضبابية قاتمة لاتكاد تبين ،أما الركاب فماهم إلا ضحايا لهذه الحرب والمحرقة والوضع المزري والمتمثل في غياب الدولة وبالتالي العدالة وغلاء الاسعار والفساد الذي طال كل شيء في هذا الوطن والموت الذي يتخطف المواطن من كل حدب وصوب دون ذنب أو جريرة،وكل ذلك ماهو إلا نتاج إطالة أمد الحرب من قبل تجار الحروب انفسهم، فهم الطرف المستفيد من كل ما يجري، وإذا ما اختزلنا هذه المعادلة في دلالات ومدلولاتها ستكون كالتالي : – الباص /الوطن – الركاب / المواطنين .
وجاءت طريقة الحوار التي دارت على ألسنة سكان الباص/ الوطن مختزلة وشبه مقتضبة ولم يكن هذا الإختزال عبثيا من قبل الكاتبة،لأنها بحاجة إلى عشرات الصفحات بل مئات الصفحات لكي تطرح هذه الهموم وتلك القضايا ولكنها اختزلتها حتى تتمكن من مسح ورصد أكبر كم ممكن من هذه القضايا ومعالجتها بطريقة درامية خلت من الحركة والتفاعل الجسدي، لكنها عوضتها بكثافة المشاعر والعواطف والتعاطف من قبل بعض الركاب تجاه بعضهم البعض، وهذا ماعوض غياب الحركة الدرامية على اختلاف مستوياتها بسيمائيتها ورمزيتها ،وهي طريقة لماحة وموفقة لأن الموقف لم يكن يستدع الحركة أو بمعنى أدق التعبير الحركي، وذلك لضيق المساحة، مساحة الباص أضف إلى أن مساحة مسرح الحدث الرمزي/ الموقف أو المشهد المختزل لكل هذه العذابات التي بدورها فرضت طبيعة هذه الوضعية،وهو مكان الركاب في مقاعدهم لأنه من غير المعقول والمنطقي،ان يتحرك الركاب داخل باص أجرة صغير ليعبروا عن مشاعرهم وهمومهم ومشاكلهم بالحركة الدرامية.
وقد وفقت الكاتبة في اختزال هذه المشاهد التي يستدعي حضورها مساحات كبيرة وصفحات سرد اكثر ،وقد اختزلت بعض هذه الحوارات على شكل فلاشات متداعية ومطعمة بسيميائيتها حيث ان وسائل النقل إلى جانب المقاهي هي الاكثر مكانا لمناقشة هكذا قضايا في حسابات الأدب والمسرح وسيناريوهاتهما، لكن رمزية الباص جاءت هنا في صورة موسعة ومختزلة ومغايرة في آن واحد،
ولكي لايظل المشهد رتيبا بما يحويه من بؤس وألم مكثف فكشفت الكاتبة عبر استدعاء كل تلك الهموم والقضايا بقدر مااستطاعت أن تجمعها في مسرح واحد، فكشفت كل هذه المشاعر المحتدمة التي تبعث على الحزن والفقد والأسى والألم كما أسلفت على مساحة هذه الرقعة الصغيرة، مما أخذت المشاعر حين الحركة والانتشار مع ثبات أصحابها، وانسقنا معها دون أن نشعر بأي ملل أو رتابة ووجدنا أنفسنا وجها لوجه إزاءها في أتون هذا التداعي المؤلم مع هموم وقضايا شائكة تمثلنا وشخصيات تشبهنا،ولاننكر أننا اندمجنا معها ولمسنا مشاعرها لأنها حقيقية وصريحة دون أي مواربة أو تكلف وهو ماتؤكده الكاتبة في صفحة الرواية( ١١٧)
حيث تسرد : (وصلت إلى وجهتي أوقفت الباص، نزلت منه وبقي جزء من روحي عالقا مع كل شخص هناك،، في كل مرة أركب الباص اشعر وكأني مع عائلة جديدة ،اناس بسطاء يحدثونك عن أحزانهم وافراحهم بكل اريحية وكأنهم يعرفونك !)
وهي ذاتها الفقرة التي تختتم بها المشهدية المبثوثة بألم وهموم الإنسان المكلوم بوطنه وأساه الذي مابرح يتجذر ويمتد عموديا على طول هذه البلاد وعرضها وسنورد الحوارات التي تناولت هذه القضايا بالترتيب او كما ضمنتها الكاتبة روايتها،فمن هروب أولادنا من من واقعهم البائس والتحاقهم بالمعسكرات والحرب ، وترك دراستهم ومستقبلهم ،وأخذ بمجمع تلابيب أرواحهم إلى مصير اقل مايوصف انه غامض او مجهول، حيث تورد الكاتبة في صفحتي (١١٣)و (١١٤)
فتسرد : (ركبت الباص بجانب امرأة مسنة وخلفي امرأتان ،وفي الأمام رجل في منتصف عمره،وبجانبه رجل يقاربه في العمر وكان الباص شبه مزدحم،
اخرجت هاتفي وأضأت الشاشة كي أرى كم الساعة ، بعدها ادخلته في حقيبتي،مدت لي العجوز هاتفها النقال، كي أبحث عن رقم هاتف ولدها وكانت علامات القلق تغلف وجهها الجميل، الذي ترك الوقت خطوطه عليه مما زاده وقارا، اخذت للهاتف وبحثت عن الاسم وقمت بالاتصال عليه لكن للاسف لم يجب ، عقدت حاجبيها وعضت على شفتها السفلى بقهر ثم قالت : إنه غاضب مني لأني لم أسمح له بالالتحاق بالمعسكر .
صمتت قليلا ثم استئنفت حديثها قائلة : مازال صغيرا على هذا ، لكنه يريد أن يعيل الأسرة في ظل هذه الظروف الصعبة، والغلاء الفاحش الذي يعصف بالبلاد .
سقطت من عينها دمعة ام مقهورة على ولدها، وعلى حال بلدها الذي ساء في الآونة الأخيرة، امسكت بيدها مطمئنة إياها بأنه سيعود وسيستمع لها، وأن حال البلاد سيتحسن مادمنا نؤمن بالله وأقداره ،تنهدت بحزن لترد : إن شاء الله ،إن شاء الله.)
ولم يفت الكاتبة طرق قضية غلاء المهور والعقبات والمصاعب التي يواجهها الشباب أثناء إقدامهم على الزواج،بما فيه من تكاليف باهضة تؤدي ببعصهم إلى العزوف وتركه صفحتي (١١٤) و(١١٥) تورد الكاتبة على لسان أبي أحمد وصديقه المثقل بالمهموم والأوجاع جراء التفكير بتكاليف زواج ولده والحوار لازال قائما في ذات الباص فتقول : (وعلى الكرسي الأمامي كان رجل في منتصف عمره، اكتسح الشيب معظم شعر رأسه، كما أن الهم كان جليا في كلماته عندما سأله صديقه الذي بجانبه مازحا : متى ستزوج أبنك يارجل سيدخل في الثلاثينات من عمره ومازال أعزبا ؟ كما أن أنه يتحدث دائما عن الزواج فلم لم تقم بتزويجه حتى الآن ؟ دوت من داخله صرخة مكتومة شعرت بها وهو يتحدث قائلا : آه ياأبا أحمد ! أتظن أن الزواج بالأمر السهل في هذه الأيام، الزواج الآن يحتاج إلى معجزة إلهية كي تتم . قهقه أبو احمد بصوت عال ثم قال : معجزة ! أنا تبالغ يارجل، رد صديقه المهموم : حتى وإن عمل ولدي في الليل والنهار لمدة عام كامل فلن يستطيع أن يدخر منتصف المهر ، الاتعلم ان المهور الآن اصبحت تتجاوز المليونين ! ناهيك عن تجهيز الشقة والأدوات الكهربائية
،وتجهيزات الزواج الأخرى من صالة أعراس ،وعشاء المدعوين وغيره .. وكما تعلم ان الأجور والمرتبات بقيت كما هي ولم تقم الحكومة بإضافة نسبة بسيطة على الرغم من الغلاء المتصاعد هذه الأيام وارتفاع سعر العملات.
زفر أبو احمد زفرة ضيق ثم قال: معك حق ياصديقي كان الله بعون الشباب هذه الأيام، كان في زماننا الزواج ميسر،والأسعار منخفضة جدا جدا مقارنة بهذه الأيام .) ولم يفت الكاتبة قضية تدهور التعليم ،وغياب الجانب الأمني بما يتضمنه من انتشار حمل السلاح، والقتل بدم بارد وبلا أدنى مسؤولية ففي صفحة (١١٦) تبحث الكاتبة هذه القضايا والهموم العامة : ( وفي الخلف كانت امرأتان تتحدثان عن إضراب المعلمين في المدارس وعن تدهور التعليم وضياع الأطفال ، وعن جانبي الأيسر كان يجلس رجل في الخمسينات من عمره يضع ولده ذا العامين فوق فخذه ،كان صامتا يتأمل الطريق،
وكأنهم يبحث عن ضائع في وجوه العابرين ،رن هاتفه رنينا قويا أخرجه من قوقعة صمته ثم رد بوجل قائلا أخبرني هل وجدتموه؟
– ماهذا لايعقل ،كيف مات؟
– رصاصة طائشة.)
ثم تستطرد الكاتبة في سردها بطرح توقع لابد منه لتدعيم فكرتها فتواصل: ( على مايبدو أن المتحدث كان يؤكد له أنه رأى ولده وهو مضرج بدمائه.)
كما لم رصدت الكاتبة ثلة من القضايا المجتمعية المتعلقة بالزواج من زاوية أخرى مثل زواج القاصرات ،والزواج بالإكراه ،وتزوج الفتيات وتحطيم أحلامهن طمعا بالمال إلى جانب قضية العنف ضد المرأة ،وحتى إجبار الشباب من الزواج من بنات عمومتهم وأخوالهم نتيجة القرابة،وإهمال وعدم السماح لهم ولاختياراتهم من توافق مع الطرف الآخر وانسجام ،كما في موقف حنين حين وضعت في موقف صعب حين طلب منها والدها الموافقة على الطرف الآخر ، فتماثلت للرضوخ امام ضعفه نتيجة الديون التي أرهقته ،وكذلك رعد كما ذكرنا في بداية دراستنا هذه كيف اجبره هذا التصرف اللامسؤول إلى ترك كل شيء يتعلق بمستقبله ومغادرة البلد.
والحب لايفرق بين الطبقات والمستويات والعائلات الكبيرة والصغيرة الغنية منها والفقيرة حيث كان رعد بائع شاي في المعهد مكافح، وهذا ماألمحت إليه الكاتبة في سيميائية مغايرة لإنصاف أصحاب المهن الصغيرة والمكافحين من بني جلدتنا، وكل تلك المواقف سرت في إطار قدري مراوغ لكن تلك المراوغة سرعان ما انزاحت وابتسم القدر في النهاية للحبيبين .
————
المراجع /
– عالم الفكر – السيميائيات /المجلد 35
– أسس النقد السيميائي ص27
– كتاب النقد الحديث ص53
– السيميائية والتفكيك.