سيناريوهات الخراب اليومي / بقلم: عبدالسادة البصري

قراءة في مجموعة ( متعثّراً بالإناء النذريّ ) للشاعر حسين محمد عجيل .

 

(( الأغربُ .. إنّا ما طُرِدْنا من الجنّةِ ، ببساطةٍ :ــ

فردوسنا نفسه صار جحيماً في جيلينِ أو ثلاثة ، بطءُ التحّول ــ على ما أظنّ ــ ساعدنا على هضمه !! )) ص42

أن تترجم ما يدور حولك كلّ لحظة ، وما تعيشه من دقائق بحلوها ومرّها لهو الشعرُ بعينه ، أن تأخذ بيد القارئ ليعيش معك كل الدقائق التي عشتها وسجّلتها على الورق لهو الشعر ذاته !! نعم :ــ ترجمة الواقع بكل حيثياته وتفاصيله ورسم صورة أو تسجيل مقاطع لمشاهد حياتية متقاطعة أو متوازية حال من أحوال الشعر العليا والتي تأخذ بتلابيب القارئ والمتلقي لتجبره على الإنصات لكل همسة بوحٍ وحشرجة !!

هذا ما فعله الشاعر ( حسين محمد عجيل ) في مجموعته الشعرية (( متعثّراً بالإناء النذري )) الصادرة عن دار الروسم عام 2016 ،حيث عمل على تسجيل وقائع الأحداث العراقية ، أو بمعنى أدقّ التراجيديا العراقية التي تتكرر يومياً عبر مشاهد العنف والدم والخراب !!

(( يستمرُّ هذا الهزيعُ

يسلّمنا لسمّيه ..

الثالث … والسابع ..

يظلّ السابع يمتدّ ..

لكن ..

لا يوصلنا للصبح !! )) ص40

منذ اللحظة الأولى التي يمنحك إيّاها بثريّا نصّه ( متعثّراً ) تجد دليلا على بداية الخراب ــ التعثّر ــ بمعنى انّك ستصطدم بمطبّات وتلتقي المصاعب جمّة ، ليكملها بــ ( الإناء النذري ) إحالة الى الطقوس السومرية القديمة ــ التضحية والقربان ــ أيّ بمعنى انك ستقلب الإناء الذي نُذِرَ للآلهة وسيندلق الدم المنذور كالماء على الأرض ليحيلها خراباً ، الشاعر ومنذ الوهلة الأولى أعطانا مفتتحاً دلالياً لما سوف يجيء .

(( مستمرّون على كراسيهم

قبضاتهم تتسمّر على الصولجانات والرقاب !! )) ص5

تصوير محسوس وملموس لكل القابعين على كراسي الحكم والجاثمين على صدور وقلوب الناس في كل زمان ومكان ، ليبدأ رحلة البوح عمّا ستؤول اليه الأمور شيئا فشيئا بصور ولقطات سينمائية ودراماتيكية رائعة :ــ

(( كلّ هزيعٍ

كانت تخرج من أرضٍ ــ خضراء ــ

على ــ الجسر المعلّق ــ

قوافلُ تحمل رؤوساً مثقّبة المحاجرِ في طسوت !!)) ص6

ربط إبداعي متكامل وبوعي تام بين الماضي والحاضر ، حين كان الطغاة قديماً يتلذذون وهم يخرجون للعامّة ضحاياهم رؤوساً في طسوتٍ فقط ، كما انه ربط بين رأس ( يوحنا المعمدان ) الذي قُدِّم في طست الى هيرودوت وشالومي ، وكذلك رأس الحسين ــ ع ــ الذي قُدِّم في طست ليزيد ، فالضحايا تملأ صفحات التاريخ مازال هناك طغاة !!، وبين هذه الصورة وما سوف يجيء مساحة من البوح المخضّب بالدم وضحايا وقرابين ستمتلئ بها الطرقات لأن القاتل واحد في كل زمان ومكان :ــ

(( جاء بلا عينين

إخطبوطا يركض حاملاً سكاكين التاريخ !!)) ص9

وليكون أكثر دقة بالتصوير يأخذ بالتاريخ كله ليرميه في الماء دفعة واحدة كي تنطمس الحقيقة وتموت ليظل القتل ساري المفعول رغم أنف الزمن :ــ

(( تُسحَلُ ــ دار المخطوطات ــ لدجلةَ

وتُسحَلُ دجلة للنار !! )) ص10

وهذا يعني انّك أحرقت كل وقائع التاريخ ومدوناته ورميتها في الماء والنار .

ويظل الشاعر حاملا كاميرته السينمائية ليسجل صورا أخرى لخرابٍ لم نر مثيلاً له ، وطائفية مقيتةً أكلت الأخضر واليابس بعد أن تحجّرت القلوب والنفوس وماتت الضمائر تحت ضرباتها :ــ

(( في وسط الكابوس

قال المعبِّرُ :ـ

تزرعون إحدى عشرة سنة ألغاماً

فما حصدتم من جثثٍ

فذروها تتعفن ( خلف السدّة )

في ( مثلث الموت)

تأكلها الطير

وضباع العواصم !!)) ص14

تصوير دقيق لسنوات الخراب والدم والاقتتال الطائفي بلا معنى سوى حرق إنسانية الإنسان العراقي بأتون الفوضى والعمالة والخراب :ــ

(( تحت القبّة

وبلا تصويتٍ

تفقأ عيون بالإبر

وثوب البلد العاري

يتمزّق بطول رافدين

بسيلان الدم !! )) ص15

انه يكتب بوعي تام وحرفية عالية ، ويرسم بريشة متمرسة كل دقائق الأمور والأحداث ، وهذا دليل على انه امتلك الخبرة والتمعن والجرأة ليبوح بكل ما شاهده ويشاهده عبر صور شعرية عبارة عن لوحات تشكيلية وفوتوغرافية يعلقها على حائط أيامنا :ــ

(( مع تصفيق الجمهور

تنفجر عبوة داخل دار العرض

تتطاير أحلامٌ وأكفٌ ومحاجر جفّت فيها الدمعات

فيما تنزل عناوين الفلم …غطّتها رشقات دماء !! )) ص18

وفي صورة أخرى تجده يرسم وطناً آخر كأنك لم تعرفه، لكنك ستعيشه رغماً عنك :ــ

(( على أطباق من حزنٍ

قدّموا موتاً أسود للنسوة

أحمر للجنود

أصفر للأطفال

وحده الربيعُ

قصت ألوانه مواشير الرتابة !!)) ص24

صورة رائعة ولوحة ذات مزايا كثيرة وكبيرة لوطن توشم أهله بأكثر من وشم ، فالحزن والترمل والثكل للنسوة ، والحرب والقتل والأسر للجنود ، والجوع والخوف والقلق للأطفال لهذا ضيّع الربيع ألوانه فأصبحت مواشير متعددة الألوان رتيبة الوجود والمعنى .

في كل قصيدة تتوزع الصور والحكايات عن وطن داسته أقدام الغزاة وفرمته ماكنة الفساد والخراب :ــ

(( بحزامه الناسف ..

كلّ مساءٍ

عند الهزيع الأول

يباغت ( ابن ذي الجوشن )

حفل زفاف ( القاسم )

بــ ( باب الدروازة ) !! )) ص26

أسماء جلادين وضحايا وأماكن معروفة للمتلقي  والقارئ المتفحص للنص يسجلها الشاعر ليعطي بعداً آخر لنصه المملوء بالبكاء :ــ

(( يتلظى الدخان على كتفيه

أمامه مائدة من رؤوس !!)) ص31

ونقرأ :ــ

(( قبيل صبحٍ داجٍ ..

التحف الناسُ بثوب الدم

وناموا ..!!)) ص32

ويظل يرسم ويرسم كل نأمة وحادثة بكاميرته القلمية  حيث يصور اقتتال الأخوة لا لشيء سوى مزيد من الدماء النازفة وضياع الوطن :ــ

(( حين تواجهنا صفَّين

من ( عبس ) و( ذبيان )

تشبثت المرآة بوجه البصرة قبيل محاقه )) ص33

وكذلك :ــ

(( الأرض التحفت بفيء النخل

النخل الحائر من أيدٍ هجرت هزّ الرطب !! )) ص33

ويسجل مرة أخرى فلما آخر :ــ

(( حتى يكتمل القمر

ويكفّر أخوة يوسف عن واقعة الجبِّ

سيظل الشرق المكروب

بقطع من ليلٍ طال

ينتظر قميص الغفران

ليبصر ..!! )) ص37

وبعد كل ما تركه لنا من لوحات يعود ليؤشر الأسباب الحقيقية للخراب والاقتتال والدم :ــ

(( تاهت في مخطوطاتٍ

أحرقها منتصرون ومهزومون ومهووسون

كتبوا بمداد دمانا ما ظنّوه سراطاً )) ص38

الشاعر ( حسين محمد عجيل ) يرسم وطناً عاثت به أيادي الفساد خراباً فسال الدم في الشوارع ونامت البيوت على قلوب أهلها كبتاً وخيّم البؤس والخراب على النفوس بسناريوهاته التي تمنحك فسحة للتأمل في ما جرى ويجري وتؤرخ لسنين مرّت عصيبة على هذا الوطن !!

حسين محمد عجيل وكما وصف قصائده الناقد الدكتور ( حسن سرحان ) في مقدمته على الغلاف بأنها (( تكشف عن ثقافة عالية ومقدرة نوعية وتمرس كبير وتبرز وعيا خاصا بأدوات الشعر وطرق اشتغاله الجمالية واشتراطاته الفنية )) سجّل سبقاً في اشتغاله هذا وتسجيله لأحداث لن تنسى أبداً رغم مرور الزمن ، انه صور لنا سيناريوهات الخراب اليومي في وطننا ذات سنين مدمّاة وعجاف !! .

متعثّراً بالإناء النذري / شعر / حسين محمد عجيل / الروسم للطباعة والنشر / 2016

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!