بقلم: د. روزلاند دعيم
يُسعدُني ويُشرّفني أن أحتفي بالأديبة فاطمة يوسف دياب، وما يُعزّز حفاوتي هو محاورتها في كتابها “مكنونات أنثويّة”، لقصائد الشّاعرة الرّائعة آمال عوّاد رضوان.
يفرض علينا النّصّ “مكنونات أنثويّة” بطبيعته القراءة، بحسب نظريّة الاستقبال، أو التّلقّي الّتي تُعنى بالعلاقة الجدليّة بين النّصّ والقارئ، إلّا أنّ هذه العلاقة تخلق جدليّة جديدة، وهي:
*”مَن هُما طرفا الحوار؟” عِلمًا، بأنّ القارئ المُتلقّي هو أحد الطّرفين، فمَن هو الطّرف الثاني!
*هل هي الرّضوانيّة صاحبة النّصوص الأصليّة (آمال عوّاد رضوان)، أم أنّها الطمراويّة صاحبة المحاورة العميقة؟
*هل هي صاحبة النّصّ الشّعريّ غزير الطّلاسم (آمال عوّاد رضوان)، أم أنّها الأديبة الذّكيّة (فاطمة دياب) والّتي تمكّنت من فكّ الشّفرة والرّمز، وقراءة النّصّ محكم البناء والنّسج، لا بل استطاعت أن تنقلّ ما فكّته وفكّكته من رموز، إلى المُتلقّي الجديد الّذي يقرأ فاطمة، والمُتلقّي الأول الّذي يقرأ آمال…
عمليًّا..
نحن أمامَ علاقةٍ مُركّبةٍ ومُعادلةٍ مزدَوجةٍ من عملية التّلقّي، حين يُصبح المُتلقّي مرسلًا للنّصّ الأصليّ، أي للعشرين قصيدة الّتي اختارتها فاطمة من قصائد آمال، وحين يستقبل القارئ أو المُتلقّي النّصّ الأول الشّعريّ، من خلال استيعابه للنّصّ النّثريّ والحوار بينهما، وهذا يقودُنا إلى الواقع الجديد بحسب نظريّة التّأثير والاتّصال، حين يجتهد القارئ – وفي هذه الحالة فاطمة – لسبر أغوار النّصّ واستكناه معالمه الباطنة، يبحث عن نصٍّ غير صريح. ومن خلال المغازلة بين فاطمة ونصّ آمال، نشأت العلاقة الجدليّة الّتي خلّدت نصّ آمال، من خلال الكنز مكنونات أنثويّة.
مكنونات أنثويّة:
حين نمسك الكتاب بين أيدينا، يلفت نظرنا لون غلافه الّذي أتى بأحد درجات أقوى الألوان، الأزرق الّذي طغى على خلفيّة الصّورة وفضاء النّصّ، حيث أن “الصّورة تساوي ألف كلمة”، بحسب ما نُسب إلى الفيلسوف الصّينيّ كونفوشيوس.
ويُطلّ من الغلاف شلال قويّ يشقّ مرتفعًا لشقّيْن، تقف عن يمينه فتاة يافعة تحت شجرة خضراء، وعن يساره فتاة، على ما يبدو أكبر سنًّا، تجلس على وجهٍ تمّ تشكيله طبيعيًّا بالصّخرة، وفي حين يتدفّق الشّلّال من ورائها تُطلق طيرًا ثامنًا إلى الفضاء، كأنّهم نوارس أو حمام زاجل، بكلّ ما تحمله تداعيات وإيحاءات وسيميائيّات هذيْن الكائنيْن، من قدرة ووظيفة على تعزيز التّواصل بين طرفي الهُوّة.
على الغلاف أتى العنوان الرّئيس “مكنونات أنثويّة”، بينما تمّ تفصيله بعنوان جانبيّ أتى على الصّخرة اليمنى: “فاطمة يوسف ذياب تحاور قصائد آمال عوّاد رضوان”، وإن نظرنا إلى العنوان باعتباره مفتاحًا رئيسًا لقراءة النّصّ، فإنّ المكنونات هي الخفايا، ومكنونات أنثويّة هي تلك الأسرار، أو الأفكار، أو الأحلام الّتي تحملها الأنثى صاحبة مكنونات القلب والنّفس، والعقل والرّوح، فمن خلال المغازلة الأدبيّة بين الاثنتين تشكّلت هذه المكنونات، وأتت إلينا بحلّتها الأدبيّة الحاليّة.
تقول فاطمة (ص 14) في قراءتها لديوان “رحلةٌ إلى عنوانِ مفقودِ” عزيزتي آمال عوّاد رضوان:
“شكرًا حتّى متاهات الأبجدية”!
فهي تكشف في محاورتها الأولى معنى العنوان حيث حاولت فكّ الطّلاسم، والبحث مع آمال عن معالم عنوان ديوانها المذكور، إلّا أنّ إصابتها مضاعفة، بحيث بحثت مع القارئ الجديد عن معالم عنوانها “مكنونات أنثويّة”، وبهذا التّقديم هي تعرِّف آمال الّتي تكتب بلغةٍ مُشفّرةٍ مجازيّةٍ عاليةٍ “عصيّة” غنيّةٍ بالتّضمين، وقد أتى هذا الحوارُ بعدَ سُباتٍ طويلٍ نامت فيه “دبدوبة” كما تصفُ نفسَها، حتّى أيقظتها آمال عبرَ أسلاكِ الهاتف، واستثارتْ قدرتَها المعتكفةَ بقوْلِها “اُكتبي”، ليتفجّرَ هذا الإبداعُ الّذي يستوجبُ الشُّكر. (الإهداء ص9 – 11).
تقولُ فاطمة (ص24): هكذا أقرؤكِ … مِن وهجِ الرّماد!
وفي (ص25) تعرضُ العناوينَ الّتي تُشكّلُ معًا قصيدة، وتدعو فاطمة آمال “يا ابنة القوافي“، في ردِّها على قصيدتها “إليكِ أتوبُ غَمامًا” (ص33– 34)، وتحاورُها بأسلوب ميتا– أدبيّ: بهذه اللّوحاتِ النّصّيّةِ.. الانفصام أبدًا، وترفعُها لاحقًا إلى أعلى المراتب ص35 بقوْلها: هكذا هي آمال عوّاد رضوان؛ الشّاعرة المُتجذّرةُ بمَلكوتِها الشّعريّ تُخاطِبُ الأنثى..
وفي عنوان الفصل: آمال عوّاد رضوان شاعرة الغموض والما وراء!
(ص 92) تُدَمْوِزُ فاطمةُ آمالَ المُتَعَشتِرة ببلاغتها ونصوصها مليكةً على عرش الحروفِ واللّغات، من خلال محاورتها في ديوانها “اُدَموِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين“، ولا تكتفي بذلك، بل ترُدُّ على مقالة د. منير توما في مقالته “البوح الجنسي الرّمزي الاستعاري في مجموعة “اُدَموِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين“، فتقوم فاطمة هنا بعمليّةٍ حواريّةٍ مع أحدِ النّصوص الموازية، إضافةً إلى مُحاورةِ الأصل.
وفي خطابها الدّائم تتوجّه إلى آمال عوّاد رضوان مسبوقة غالبًا بـ “عزيزتي الشّاعرة”، فتبرقها برقيّةً عاجلة تقول فيها (ص131): عزيزتي آمال، ليس سهلًا .. الوجود والحياة، وفي نهايةِ النّصّ الموازي تختارُ فاطمة تناول قصيدة “أسطورةُ الّتياعٍ” (ص166)، لتُلخّصَ مشروعَها:
وليس من باب صدفةٍ عابرةٍ أراني أتناولُ قصائدَكِ في أكثرَ من نصّ، فبينَ حروفي وحروفك نبتَت علاقةٌ فكريّةٌ، ظلّت في بحثها عن عنوانها المفقود تنتقل مع لوحاتِكِ، ما بين واقعٍ عقربيٍّ إلى واقعٍ ياسمينيٍّ منشود، ….
سِجالٌ وتَماهٍ بين شاعرة وروائيّة، أطلقَ إصدارًا حواريًّا بين الشّعر والنّثر، حاولت به فاطمة استنطاقَ النّصّ مبنًى ومعنًى، وتناصّت مع نصوص رضوان العشرين وتضميناتها، تقرؤُها بمستوياتها الرّمزيّةِ المختلفة. واستطاعت فاطمة بأسلوبها الرّوائيّ أن تكتبَ مكنوناتِ قلبها وعواطفِها؛ فارتقت إلى مستوى الميتا شعور، واستنطقت النّصّ على مستوى المبنى والمعنى، وغاصت في البناء اللّغويّ والنّسيج الشّعريّ والصّوريّ، واستحضرت الذّاكرةَ الجمعيّةَ للفِكر الإنسانيّ، وقدّمت قراءةً حداثيّةً مائزةً، تستدعي التّوقّف عندها.
ونهايةً، الآثارُ الأدبيّةُ المعاصرةُ أدخلتْ تحويرًا على وظيفة القارئ، حين جعلت منه طرفًا في النّصّ، تُوكّلُ إليه مُهمّةَ المشاركة في تأليفه.،وهذا ما حدث في النّصّ الحداثيّ الّذي قدّمته لنا الرّوائيّة فاطمةدياب، في حوارها مع الشّاعرة آمال عوّاد رضوان.
وإذ أتمنّى لآمال سنوات عديدة من الإبداع، أتمنّى لفاطمة صفاء القلم والفكر، وسنوات عديدة من الحوار الأدبيّ، إلى جانب مناجاة الذات.