شخصيات من لحم ودم وإحساس في رواية “شموس الطين “

بقلم:محمد الحفري

 

لعل الشموس التي في داخل كل واحد منا هي ما يجب البحث عنها دائما، لأن في دواخلنا ما هو مظلم وما هو مضيء في الآن ذاته، وقد يطغى أحدهما على الآخر.

نقول ذلك بعد التمعن والتأمل طويلاً في رواية ” شموس الطين” لمؤلفتها ريما آل كلزلي، التي تعتمد فيها على أصوات عديدة تنبض بالحياة، وكل واحد من تلك الأصوات يشكل جزءاً من أرواحنا، وتكاد شخصية “عاصي” أن تكون هي الأبرز، لأنها تبزغ من الفكر والخيال الممزوج بالطموح والأمل، والتي تعبر في نهاية المطاف عن الثيمة الرئيسة للعمل حيث الطين الذي جبلنا منه، يقابل للضوء الذي يجب أن يبقى راصداً لعتمة ما صنعنا منه، وأن لا يغيب عن حاضرنا وحياتنا المعاشة حتى لو خفت وتراجع قليلاً عن اشتعالاته المأمولة، فالحياة والموت “ضفتا نهر، تسيران معاً إلى الأبد، يغمرهما الحب، فيشغلنا عن قسوة الحياة” وهو كما تضيف الكاتبة : ” ينسينا مرارة الموت”

إذاً فالحب بمعناه الكبير، وهو دائماً كذلك على كل حال، يشغل حيزاً كبيراً من هذا العمل، أو لعله يهيمن على كل سطر وكلمة منه، وهو مبني في أساسه عليه، ولذلك كان اجتماع أبطاله في غربتهم مرة في كل أسبوع على الأقل، حيث تقدح الشرارة وينفتح معها باب الذاكرة، وتبدأ حكاية الإنسان الممتدة بين الماضي والحاضر، وخاصة حين ينتزع من جذوره، ويحاول أن يصنع لنفسه وطناً في الذاكرة.

تتميز الرواية بلغة سلسة ومكينة في الآن ذاته، إضافة إلى أصوات شخصياتها، وعزفها المتفرد، ثم تجتمع وتشكل في نهاية المطاف لوحة عميقة من الصدق والبهاء والأصالة، وخاصة ونحن نتنقل بين تلك الوجوه التي نحسب أننا نعرفها وهي تشبهنا، وتلتصق بنا وبمأساة السوري وهجرته القسرية ومعاناته مع المنافي وآلامها وشقاوتها التي لا تعد ولا تحصى.

يشكل “عاصي” كما أشرنا محور الرواية، وهو ذاك الشاب السوري الذي عاصر الحرب وعاش أهوالها، وفقد عائلته في مخاضها العسير، وبالتالي هو الضمير والشاهد الحي على ما جرى، وبما أنه يمتهن الكتابة لذلك يسعى إلى تصوير فيلمه الوثائقي عن معاناة اللاجئين في المخيمات، تشاركه في ذلك “غيد” وهي كاتبة أيضاً تؤمن بأهمية الكلمة، وترافق الأصدقاء، وتلعب دور الربط بين الجميع، وقد جمعها الحب مع عاصي بعد فشل علاقتها مع “كريم” بينما “سومر” هو مخرج العمل الذي يرتبط مع عاصي بصداقة متينة، وتميل شخصيته إلى الواقعية والعقلانية التي تحسب دائماً حجم الخسارة ، تأتي بعد ذلك شخصية ” زرياف” التي تحب تعليم اللغة العربية لأبناء المخيم كي لا ينسوا لغتهم الأم ولو تابعنا استعراض تلك الشخصيات سنجد “جهينة” وهي رسامة فجعت برحيل والدتها، ومن ثم والدها الذي كان له أهمية خاصة في حياتها، كما شكلت شخصية” ياز” الفاقد لساقه، ركيزة مهمة من حيث المعنى والمسار العام للعمل، وقد كان واحداً من الضحايا حين فجرت خيم اللاجئين حيث قضى نحبه أثناء محاولته تأمين الدواء لعاصي المصاب بالكورونا، والذي لحق به أيضاً مطعوناً بذلك الوباء.

هذه الشخصيات التي تطرقنا إلى ذكرها، يجمع بينها حب الفن والحياة والأدب والغربة أيضاً، وحين تحضر قصة عاصي التي تحمل عنوان “دكان التوابيت” تصير مشروعاً مشتركاً يجتمع عليه الأصدقاء، وهذه القصة تعد بمثابة العمود الفقري الذي تأسست عليه الرواية، لترتب الكاتبة فيما بعد تفصيلاتها، وتتعامل بذكاء في إظهار بعض الجوانب وإخفاء جوانب أخرى معتمدة على فراغات نصية على المتلقي أن يفكر فيها ملياً، وهي على سبيل المثال لم توضح لنا من هي الجهة المسؤولة عن تفجير المخيم، كما لم تفصح عن الجهة المسؤولة عن حمايته، ولم تبين لنا أيضاً أين يقع ذلك المخيم، وهي لا تلام في ذلك وليست ملزمة به على كل حال.

لقد تضمنت بعض فقرات العمل ميلاً إلى التنظير الذي نعتقد أنه يمكن الاستغناء عنه كقولها مثلاً: المثقفون لا يملكون عصا سحرية، أنهم يتخيلون، وهذا لا يكفي، نحن بحاجة إلى إعادة توزيع الأدوار والمهام وجعل الثقافة مؤسسة عمرانية حيث العقل النقدي هو العقل الأهم الذي يجعل الترميم صالحاً وبعيداً عن الخراب والصدأ” ونكاد نجزم أن مثل هذه الجمل تنتمي إلى فكر الكاتبة ذاتها ورأيها الصريح، كقولها مثلاً : ” الكتابة متعبة جداً، الكتابة جزء من كياني، يرتبط بي ارتباط الضرورات كالنفس مني، الكتابة كالحب، ضرورة تفوق الاحتياجات وليس لي حياة من دونها” لكننا بالمقابل قد نجد مقولات يمكن أن نستخرج منها كل ما هو مكنون وثمين ويخدم جوهر العمل ونجد ذلك في حديث “أم سومر” حين وجهت كلامها لعاصي عندما كان صغيراً: ” أن تتنازل عن ممتلكاتك بسهولة، وتتركها لمن يستمتع بها ليس سوى ضعف. أنت لديك الحق في الدفاع عن نفسك” وقد ننهض مع قولها ونصفق له أيضاً وهي تردد: ” الأوطان المغدورة كالأرواح المغدورة، تخرج من قبورها ليلاً وتستنجد بالأحياء” ونحن في هذه القراءة لسنا بصدد إن كانت الكاتبة قد تلبست ثياب “زرياف، أو جهينة، أو غيد” ولا مانع لدينا حتى لو كانت” عاصي، أو سومر” أو غيرهما لأن الشخصيات في نهاية الأمر ولدت من خيال مؤلفها وستبقى كذلك حتى لو لامس بعضها الواقع واصطدم به، وتلك مسألة أخرى يمكن العودة إليها لاحقاً.

نريد القول في نهاية هذه العجالة أن القارئ سيجد في هذه الرواية مقداراً كبيراً من الألم ، ومع ذلك فهناك قناعة  راسخة مفادها أن الحزن لابد أن يولي الأدبار، وعلى الرغم من وجود الطين هناك شموس صغيرة ستضيء العتمة، وقد تطلع من الطين وتلك من المهام الصعبة التي اجتهدت الكاتبة ريما آل كلزلي في إبرازها وقد بقينا حتى اللحظات الأخيرة ونحن نسمع هذيان ” عاصي” وهو يؤكد وجود تابوت فارغ، كما تركتنا الرواية في نهايتها مع سؤالها المفجع والمشرع على الوجع، وماذا يعني أن يولد المرء غريباً، ويعيش غريباً، ويموت غريباً؟ ومن دون مبالغة نؤكد أن هذا العمل يلامس بصدقه وعمقه الوجدان والضمير، ويشكل برأينا تلك المنارة العالية التي تطل منها الكاتبة على صنوف لا تحد من الإبداع، وعلى الرغم من الألم المزروع في هذا النص، فقد وجدنا فيه مساحات كبيرة من الخضرة ولوحات لمساكب الورد التي تتزين بألوانها الجاذبة وروائحها العطرة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!