كتب:علي أحمد عبده قاسم.
لا يخفى على أحد أن الشاعر المتمكن هو ذلك المبدع يمتلك أدواته ويستطيع أن يرسم نصا مترابطاً متكاملاً خالياً من الضعف ومن جميع الجوانب الشعرية بوصف الإبداع بناء متكامل وبالتأمل
من التركيب إلى البنى إلى الدلالة إلى الفكرة والموسيقى
وحين يكتمل النص بناء ودلالة يتصف بالشاعرية والشعرية معا ليحدث لفتا وجذبا وتأثيرا وبقاء .
و في نصوص الشاعر / سليم المسجد يلمس المتلقي الاقتدار والتمكن الشعري الناضج
فمن ناحية الصورة جاء النص بصور بديعية مدهشة ومبتكرة خاصة الصورة التجريدية تجسد المعنويات وتختزل الواقع وتدهش القارئ لتخلق عالم النص وترسم واقع الإنسان بأسلوب صادم ففي نص “ما تمليه السماء”
يرسم الشاعر صورة الشعر بمجازات مختلفة آخاذة وملفتة حيث قال:
((الشعر وادي المجانين
ومثل الفراغ
ومثل توابل الفيلسوف
واحتمالات سوف
لا تكون.))
الشعر وادي المجانين يشير للعبقرية من ناحية وللإعجاز من ناحية أخرى بوصف الشعر ابتكار والشعر خلق وابداع والشعر خيالات وتحليق بلا حدود ولذلك النص يحاول أن يرسم مفهوماً للشعر من وجهة نظر الشاعر الخيالية ومن علاقة الشاعر بالكلمة وأثرها في خياله وفكرته وإن لم يتمكن أحد للآن أن يأتي بالمفهوم الجامع والمانع للشعر:
“مثل وادي المجانين ” مثل الفراغ ” توابل فيلسوف” هذه علاقة محاورة ما بين النص والمبدع وهي علاقة ذوبان وعلاقة حيرة واستبطان وهي محاولة للتعالق بالنص القرآني ((والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترهم في واد يهيمون .وأنهم يقولون مالا يفعلون))
وتتضح تلك المحاورة من خلال خطاب الذات:
((ولي الشدو
ولي الماء والطين
ولي الصوت والظل
ولي الخيل والصولجان.))
والنص يحاول أن يفصل الشعر عن الذات على الرغم أن الذات هي الشعر والشعر هو الذات ولكن الذات هنا منفعلة تحاول أن تمتلك الدور والتأثير والفاعلية وتتجاوز الخيبات والشعر هو الحقيقة وكأن النص يقول: أنا المالك والمتصرف بكل ما يختلج النص الشعري من خيالات وجنون لكني ما زلت في الواقع أغني فأنا المغني وأنا من له القدرة على الأمل وتغيير واقعه
“ولي الشدو والشجو”
وأظل أنا الإنسان مرتبط بالحقيقة “وبالواقع ولي الماء والطين”
وأنا الفارس وصاحب القرار والعظمة في تلك الخيالات المبهرة والتي تتحول واقعا
لذلك الشاعر سليم المسجد يتقمص دور الفيلسوف ويحاول ان يتحاور مع الخير والشر ويحاول أن يكتشف الحقيقة ويخلق وجوداً وكينونة من الانشطارات والتشظي:
((هوس يطوف بشك سحابة
والريح خرقاء
على الرمل
هل قلت الريح خرقاء
أم في نزعة الرمل
سكرى
أي انشطارات تعبث بالمدى
والآفاق جوعى
فلتعجنوا الغيم خبزا
هل غيماً
أم دخانا يتلوى
في المكان
ولي
جيشٌ يحتشد باللامكان
ولي طين وماء
ولتحفرو القبر عمقاً
هل قبراً
أم بسملات الابتداء،))
في النص محاورة عميقة ما بين الخير والشر والتحول
سحابة =: ريح خرقاء رمل = عقم
وجفاف =:جوع
عبث بالآفاق غيم خبز = خير وعطاء وخصوبة
قبر عمق بسملات ابتداء
من ذلك الانشطارات والتشظي هي التحول من الشر الى الخير وقد يتحول الشر خيراً والريح تتحول إلى مطر وخصوبة والموت حياة فمن العقم يأتي الربيع الخصيب ومن نهاية الانسان في عمق القبر هي حيوات وبدايات خير.
فالنص يعكس أن الحياة غير مستقرة وثابته في كل الأحوال والتحولات ويتولد من الشر خيراً ومن النهايات بدايات فالشاعر يتقمص دور الفيلسوف ودور حامل الفكر والمرشد ليخلق النور ففي نص “لا عهد لي بالكلاب” يلبس النص دور المرشد وحامل الفكر والمتمرد الذي يسعى لخير الإنسان ولصحوته:
((تقيضوا من نومكم
تنبهوا من تيهكم
لتخرجوا من الكهوف
لا وقت للرقاد
فلستم القطيع
تحرسه الكلاب.))
من الملاحظ أن أسلوب الخطاب جاء بالأمر” تيقظوا , تنبهوا ؛ لتخرجوا” للنصح والتحريض ويمزج الأسلوب بالخبر “لا وقت ، لستم القطيع” فكان الخطاب مباشر في البدايات ورمزي في النهايات “لا وقت للرقاد، القطيع ، الكلاب”
ليظهر بأنه صاحب رؤية خير ويود أن النص يبين أن الخير كبير ومتسع للجميع وبذلك الديوان فيه خطاب عن هموم الإنسان وقضاياه فخطاب الرجاء في الديوان كثيف ومسيطر وكأن النص بخطابه يرسم للمتلقي قراءة الغد وليس التحريض والتثوير يقصد به التخريب والتدمير بل ليستبعد الركود ويتحقق التحول إلى الخير والرضا
ففي نص “خراب”
يسيطر على النص عاطفة الحزن والوجع من صمت خانق وخرس مفجع وذبح للقدرات.
((سأعتنق الصمت
وطناً
مذبوحاً
وشعباً
أخرسه الوهم
أيها الليل
تنتعل صبوي المؤرق
وترجل ناعساً
صوب أجفان السكون
وقلما حاولت هجرك
فأنت ليل
وهذا صوفي
في محاريب تدله
يخبئ نبوءة ذات ضوء))
من النص يلحظ المتلقي الصراع الذي ما بين الذات الحالمة بالنور والحقيقة وما بين الظلام والليل فعلامات الليل ” الصمت ، الخرس ، والوهم” وهذه مكابدة ومعاناة كبرى تسيطر على الذات وثمة قوة وهمية تخلق في الذات الحزن والمعاناة وقوة روحية تمتلك الخير لم يحن وقتها.
فتلك القوة الروحية فيها مخزون من النور وفيها” السكون ,والنعاس ” فالخطاب يحاول في نصوص الديوان بلوغ الحقيقة وتوزيع الخير والعدل للإنسان لتعود له الإنسانية .
والخطاب في الديوان يمتلك قوة الإيمان ويكفر بالأوهام بوصف الخطاب متدرج من اليأس الى الأمل ومن الوهم إلى الحقيقة ومن التلاشي الى الكينونة فالليل في النصوص علاقة للحجر والحجر والحزن والقيود والنور والإيمان علامات للحقيقة والانطلاق والحرية
((فأكفر بهم
فأكفر بهم
في شارع الإيمان
قد سئمت صمتك والجدار
عفت طعم الكلمات
ثائراً انطلق.))
النص متحد ثائرٌ مؤمن بقوة روحية لها قدرات تشبه الإعجاز فالخطاب في صراع مع الليل والصمت وحواجز الانطلاق يحلم بحرية الذات التي من خلالها تتأتى حرية الإنسان فثمة تغييب للذات وحضور كثيف للتحديات “فاكفر بهم ثائراً انطلق” التمرد هذا لتحقق كينونة الذات في شوارع الصمت ومن ثم تترسم في الواقع صورة للاتزان والاستقرار والسلوك القيمي والمحيط المادي والاجتماعي للذات.
والنص بخطابة يكرر الألم وصراع الليل والحواجز لتحقق له عيداً وميلاداً وحلماً لأن ثمة رغبة بمعانقة الحياة والتي تمثل حقيقة لدى الكاتب فكان الليل والحواجز علامة كثيفة تمثل القيد وعدم الانسجام والتصالح ليحقق هوية وحقيقة وكرامة للإنسان المتعلق بالأمل والرجاءات.
((في ابجديات الرعود
أطوي زمزمات الألم
وأمطار بليل ترشفني
بوابلات الجحيم
فوق احمرار السحب
خلف الغيوم
انتظر هطلٌ
ومزن.))
النص يرسم الأمل ويقلل من صورة الليل فثمة بدايات أمل في النص “أبجديات الرعود، تطوى ، أمطار، انتظر هطل، مزن” النص يحاول صياغة الذات وتحقيق أحلامها وأن يرسم حكاية خلاص وخير فقد تبدد الشر وهذه النهاية التي يبحث عن خطاب النصوص.
((أيها المصير
وزخات الحبر الأبيض
اللامتناهي
تنزلق كموجات عطشى
بالنهايات السعيدة
إيماني عميق كإيماني))
مما سبق يلحظ القارئ أن النص يناضل ويجاهد للوصول للنهايات السعيدة ويتحول المداد الأسود نوراً وحلماً وحقيقة فهذا الفيض من الدلالات تختزل غايات ومضامين خطاب الديوان الشعري بالوصول للإيمان
خاتمة
عندما تقرأ نصوص الشاعر سليم تأخذك علامات ملفتة في النص الشعري فالقارئ سيكرر علية “الليل , الظلام , السراديب , المنافي , الحواجز , الصمت , الوجع , النور , المطر , الوهم , الايمان , ” وهذه علامات لها دلالاتها وأبعادها ومعانيها في مضامين الخطاب الشعري.
وستجد بجانبها الصورة التجريدية الكلية والسردية الدرامية ذات الأبعاد التأويلية التي رسمت بعناية حيث يحاول ان يكرر رسالة عميقة في طيات المضمون المتعدد ومن خلال قراءة النصوص في ديوان الشاعر يلحظ القارئ ان هناك صراع في النصوص وخطاب يرفض الوهم ويؤمن بالحقيقة حد ان النص الشعري الخيالي هو حقيقة فالخطاب يرفض التكبيل والتقييد ويؤمن بالحرية والانطلاق والنهايات السعيدة لتحقيق كينونة وهوية ومطامح وآمال وبذلك تموت سرابيه الوهم وتتحقق خلود الحقيقة.
جاءت النصوص جديدة حداثية مبتكرة فيها السرد والشخوص لتنتهي بخاتمة متكاملة تشبه القصة والسرد وفيها الرمز العميق ومعظم الصور والمجازات الشعرية.
بالحلم والإيمان بالذات وقدراتها على الجديد وخلق التأثير والتحول لتظهر الحقيقة ويتلاشى الوهم وانفتاح آفاق الكون للكينونة منطلقة لحياة البياض والحق والجمال والسعادة والمطر الخصيب في ربيع حياة الهداية بهوية الاستقرار.