أوّلاً- النّصّ:
“أنا بكلّي لك
ولا يَكلُّ كلّي
والكلّ بكلّك كلّي!..”
ثانيا- القراءة:
العشق واحد والسّبل إليه متعدّدة، إلّا أنّ المراحل الّتي يتدرّج فيها العاشق تتجلّى من خلال الخبرة العشقيّة والتّجربة اللّتين تعبّران عن خصوصيّة يتفرّد بها كلّ شاعر على حدة. وها نحن أمام نصّ يحمل في حناياه ما يقارب العشق المطلق، أو التّلبية المشابهة لتلك الّتي هتف بها الحلّاج المنفتح على النّور الإلهيّ. ولعلّها المرحلة الأخيرة الّتي يقترب بها العاشق من الكمال، فيعاين بقوّة ذلك النّور حتّى يكاد لا يطيق المكوث داخل ذاته.
الشّعر ليس نسقاً واحداً،ليس بحسب الاختلاجات الشّعريّة المتعدّدة والتّعبير عن الذّات المتنوّع والانفلات من الوجود إلى عوالم النّور فحسب، بل إنّه يختلف من إحساس إلى آخرما يترك آثاره النّصّية والأسلوبيّة والتّكوينيّة في النّصّ، فبين كلّ نصّين متشابهين في الفكرة ثمّة ما هو مختلف؛ فإذاما صرخ الحلّاج (لبّيكَ لبّيكَ يا سرّي ونجوائـــي // لبّيك لبّيك يا قصدي ومعنائـي)، يختصر محمد بن جماعة ذات المعاني بثلاث كلمات (أنا بكلّي لك)، بل كأنّه استمع إلى أبيات الحلّاج واتّخذ منها موقفا إيجابيّا بثمثّل الحالة عند المستمع المقصود فكان الشّاعر نفسه.
ويعبّر الشّاعر بالاختصار عن موقفه ذاك، والاختصار أشدّ كثافة من الإسهاب،وأقوى تأثيرا في السّامع،وأشدّ قسوة على الشّاعر نفسه؛لأنّه كلّما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة (النّفري). فرؤية محمد بن جماعة اختُزلت بكلمة (بكلّي) لتكون عبارة كونيّة تتّسع لرؤى خاصّة عند الشّاعر تضيق بها عبارة التّلبية (أنا بكلّي لك). “كلّ” الشّاعر في هذه العبارة أبعد وأعمق من وجوده. فهو يتطلّع إلى أبعاد أخرى في وجود آخر يتوجّه إليه بكلّه ويوجّه كلّه إليه. قد يختلف نصّ الحلّاج عن نصّ بن جماعة بالمضمون، لكنّ الاتّجاه نحو السّماويّات يتضّح للقارئ من خلال (الكلّ). والاتّجاه نحو السّماويّات لا يلغي الحركة الدّيناميكيّة في الوجود لبلوغ وجود آخر (ولا يكلّ كلّي) فالشّاعر في سعي دؤوب وحركة وفيض حبّ، لا يهدأ ولا يرتاح ولا تطمئنّ كينونته إلّا في داخل الكلّ الآخر. وهذا الارتياح مرادف للاكتمال الإنسانيّ والشّعريّ الّذي يحدّد هويّة الشّاعر. فكأنّي به يقول إنّه يدرك أبعاده الكونيّة والشّعريّة بالاتّحاد بالكلّ المنتظر الاتّحاد به عشقيّاً. والاتّحاد العشقيّ هو غير الذّوبان في الآخر، فهو أشبه بشجرتين لجذور واحدة. كلّ واحدة متفرّدة بكينونتها إلّا أنّ الاثنتين معاً تجسّدان معنى الاتّحاد، إذ إنّهما تنموان بذات الفعل الحيويّ. هو أبعد من تكامل وأعمق من انجذاب نحو الآخر. إنّه مسيرة حجّ وانتظار مقدّس واتّحاد آنيّ بقوّة الرّجاء والحبّ.
(أنا بكلّي لك) عبارة جمعت كلّ وجود الشّاعر في أبعاده الأرضيّة الوجوديّة وأعماقه الإنسانيّة وكينونته كشاعر، وانسكبت في (لك) كفعل اتّحاد عشقيّ يحمل في عمقه قراراً واعياً. فالشّاعر يدرك ويعي أنّ كلّه مرتبط جذريّاً بكلّ آخرَ لا يكمّله وحسب، وإنّما يحقّق كينونته (والكلّ بكلّك كلّي) ما يدلّ على عدم انفصال ضمنيّ بين الوجود الحاليّ والوجود الآخر. وبذلك ينتفي مفهوم الآخر بالنّسبة للشّاعر على مستوى النّصّ أوّلا الّذي هو تابع بالضّرورة إلى الإحساس بعمق الوجود والاتّحاد، لينتفي ذلك الانفصال الّذي يبيّن أنّ هناك آخر مسايراً للشّاعر في وجوده. هذا الإدراك معنيّ به الشّاعر وحده، ويتسرّب إلى القارئ شذرات نورانيّة، لا يمكن بلوغها إلّا بالتّأمّل باتّجاهين: الأوّل اتّجاه نحو قلب الشّاعر لإدراك ما يمكن إدراكه من حبّه وتصوّفه وإلهامه الشّعريّ. والثّاني، اتّجاه نحو السّماء للانفتاح على ذلك النّور الّذي يتدفّق ويتجلّى شعراً.
حمل النّصّ فعلاً واحداً (يكلّ) ما دلّ على ثبات متأصّل في نفس الشّاعر. وهو غير الرّكود الخالي من أيّ فعل. فالفعل هنا يقتصر على حركة الشّاعر داخل العشق وحسب. فكلّ اهتماماته وأهدافه تنصبّ في بلوغ تمام العشق حتّى تتحقّق صورة الشّاعر في الكلّ الآخر الّذي هو فعليّاً كلّه. ما يترادف وقول الحلّاج:
يا كلّ كلّي يا سمعي و يا بصري
يا جملتي و تباعيضي و أجزائي
يا كلّ كـلّي وكلّ الكـلّ ملتبس
وكلّ كـلّك ملبوس بمعنائــي