تحليل وتفكيك/بدر العرابي
إن الحكم على أدبية النص ونصِّيَّة الأدب ،يحتاج لمدخلات تأسيسية قارَّة ،لا بدَّ من أن ينقدح النص محمولاً على بساطها ،وكلما غابتْ مدخلة من تلك المدخلات _تركتْ ثغرة طافحة في جسد النص ونقَّصتْ من نصيته وأدبيته .
وإلى جانب الصورة والإيقاع الصاخب الظاهر في القصيدة القديمة والقديمة الحديثة ،والتكثيف النصي والإيقاع الروحي في القصيدة الحداثية المتحررة من الإيقاع الصوتي الصاخب (قصيدة النثر )_فأن ثمَّة دعامات رئيسة وسميكة ،لا بدَّ من وجودها كإطار علوي، قبل أن يُسجِّل الحضور النَّصِّي المستقر والمستديم للتجربة النصية،ومن تلك الدعامات التجربة الإنسانية المغايرة التي عاشها الناص ،بما مخضته من رواسب في ذات الناص ،والتي ترسبت وغدت كعلامات بارزة ،امتدَّت عبر ضغط ذهني تاريخي ذاتي، مدمكة حضورها الممتد والمتحور والمترقي ،عبر إطارات من الرواسب النفسية ،وبشكل من المرافقة والمصاحبة والألفة _حتى غدت مدخلة رئيسة في ملامح الطبيعة السلوكية ،وجزءً من كل ،بعد أن أُفرغتْ من إطاراتها ،التي مثَّلت في البدء إنزياحات وطوارئ استثنائية على التجربة الفردية ،حتى غدتْ مدخلات سيكيولوجية أصلية ،تشارك بقوة في تحديد ملامح الشخصية ،التي يُقام عليها الإطار العام لطبيعة الفرد ،أي أن المعاناة التي تخلق الإبداع ،ليست وليدة لحظة بعدية من استقرار الذات ،بقدر ماهي راسخة عبر تحورات وترقيات وصراعات مع منظومة الذات الذهنية والوجدانية والروحية ،بعد أن غادرت دلالات المعاناة معناها الأولي .
هذه الترقيات والتحورات للمعاناة الفعلية ،بعد تكيفها مع منظومة الحضور الذاتي ،وبعد أن غدت جزءً من آلية عضوية _منحت الذات علامة ممتدة من المغايرة الذاتية عن منظومة الكل الإنساني.
،وهذه المغايرة الذاتية بدورها ،تجعل طبيعة تصور الوجود لدى الذات منمازة ،كما تجعل طبيعة ردة فعل الفرد مغايرة لردات الفعل الجمعي ،تجاه حركة الحياة ،عاطفياً ووجدانياً ورؤيوياً وذهنياً ،ولذلك عقدت بعض الثقافات الصلةَ بين الشعرية والجنون كحالة ذهانية فردية شذَّت عن شكل الاستجابات الجمعية ،لكنه ليس الجنون الذي يخرج الذات والفرد من الأهلية العقلانية.
من زاوية أخرى فتلك العوالق والترسبات ،التي غدت من بنية الطبيعة النفسية للذات الأصلية ،والتي تحورت وتخلقت وامتدت في الذات عبر ما أسميناه معاناة _يتم تشغيلها بإفراط حين تهم الذات المبدعة في التعبير عن عاطفتها ورؤيتها الجمالية للوجود ومفهومات الحياة ،عن طريق الانزياح /النص ،كما أن هذا التشغيل يحدث بطريقة لا إرادية ،ولاتستطيع الذات صدَّه أو مقاومته ،بل ولا تحسُّ به بالمطلق ،ولذلك نجد لكل ناص أسلوبه المتفرد الذي يمنحه بصمته الأسلوبية التي لاتشبه ناص آخر بالمطلق ،وماتشابه بين ناصَّين ،فإن مصدره واحد .
وإذا ماحاولنا النظر لنص (لألف عام قادم )لبدرية محمد _سنجد بصمة خاصة محمولة عبر ضغط شعوري وهاجس ذاتي ممتد فوق التجربة النصية ،يكاد يؤطر كل نصوصها ،إذ نجد غابة من الحنين والفقد والشوق والغياب ،تتمدد في تجربتها النصية ،وحتى إذا لم نجد إحالة وتلميحاً لمنتج النص ،فأن البصمة تعلمنا عن قادح النص لامحالة .
ولأن الحنين والغياب والفقد _هاجس ضاغط في ذهن ووجدان الناصة ً _فقد كان ومايزال هاجس التجربة النصية _يطغى في تجسيد وتشخيص وتجسيم مفهوم الحنين عبر مقاربات متواترة ،تحاول تجريب وخلق معادلات ودلالات غائبة عن الدلالات المرجعية والمعجمية لمفهوم الفقد والحنين:
“لألف عام أريدك
أريدك لساعة
لينساب_ في سكون _
حنيني إليك ”
إن تكثيف زمن الغياب والفقد (لألف عام )وتمديده ومطه ،وبالمقابل اختزال زمن تحقق الحضور في (ساعة )من الوقت _يشير إلى امتداد الفقد والحرمان ،منذ مابعد طقوس حضور الذات الإنساني الفعلي (الميلاد) حتى اللحظة الراهنة ،التي همت الناصة فيها قدح صورة هاجس الحرمان والفقد والغياب العاطفي المبكر دون وعي ،والذي ربما كان مصدره الإطاري فقد الأب أوفقد الأم ،فقد جسر العلاقة الثنائية بين الذكر والأنثى/الأب /الأم ،تلك العلاقة التي مخضت حضور ذات الناص الإنساني ، تلك الذات التي لم يتسنَ لها الارتواء العاطفي والتشبع الوجداني .
هذا الغياب الذي امتد فوق زمن الذات قدماً ،والذي جعل الذات تمتد وتترقى بيلوجياً عبر امتداد الزمن دون غطاء عاطفي رئيس(أبوي /أمومي، وكضرورة سيكيلوجية وبيلوجية واجتماعية وروحية .
ومن المنطق الإنساني والزمني ،فأن الفراغ العاطفي لن يستدم ،إذ أن ثمة وعد قدماً (عند بلوغ الفرد الرشد) بإن تضغط الحاجة الإنسانية باتجاه مخض رابط حب وعشق ،لما تقتضيه الحاجة ،فتحاول الذات بمحمولها العاطفي الفارغ البحث عن مصدر ارتواء عاطفي تدفعه شرعية الحاجة ،ولكن هذا الارتباط يختلف عن الارتباط العاطفي الرئيس ،الذي تقوضت روابطه في الطفولة .
وتظن الذات هنا أنها ستتنفس الصعداء بصك علاقة ارتباط نوعية متقاطبة ،وتستعيض فيها فقداً سابقاً وعتيقاً ضاغطاً لإطارات وأغطية العاطفة التي تهاوت ونزفت فوق تقويض الغطاء العاطفي الرئيس .
وحين يلوح و يتم ذلك الخيار للذات ،سرعان ما تعود الذات لديدن الحنين والفقد والغياب والحرمان ،الذي غدا مفردة ذهنية وسيكيولوجية ملتحمة وباثقة لفكر وذهن ووجدان الذات ،ولم يزد هذا الاختيار إلا إحياءً وبعثاً لترسبات تم إهمالها جانباً .
ولعل استمرار اندياح الحنين والفقد والشوق والغياب في نصوص (بدرية) قد غدا دعامة شعورية ووجدانية وجمالية ،تضع إمكانات وصور ذهنية متصاعدة ومتناوبة لتشكلات الحنين والغياب والفقد ، عبر النص واللغة ،بعد استيئاس الذات من تشكلهما الواقعي الملموس :
“أريدك لدقائق
لترى الليل مختلفاً معي
عطرك مرسوماً على الجداول والسنابل وفوق وردة قلبي
عبيرك يملى مملكتي
أريدك لثانية
أتساقط منك
كحبات مطر
أكتب حبك على
جدار القلب
أشاكسك كأوراق الشجر
………
الحب دونك رواية مملة
كذبة كبيرة
قصة حزينة
وأنا دونك أمتطي فجيعتي
أمضغ فيها
ساعاتك ودقائقك وثوانيك
…..
تمتد رغبة الذات الملحة
لتبرز حاجتها للآخر في ثنائية حاجة ملحة للحضور في ظل غياب محقق وواقع ،ومابينهما تخفِّض الذات زمن الرغبة في حضور الغائب من ساعة إلى دقيقة ثم ثانية .
إن تضاءل زمن رغبة حضور الآخر (تنازلياً )من قبل الذات ،وتخفيض الذات لها _يشي بكثافة إرث مرجعي ذاتي ممتد من الحرمان والحنين والفقد والشوق ،بعد إحساس الذات باستحالة تحقق الوصل ،نظراً لاستعادات تجربة زمنية عبر الذاكرة ،لم تتحقق ،في لحظة إنسانية مبكرة من الحرمان النهائي ..ومن ثم فكلما امتدَّ الحنين والفقد وتكثَّف في ظل ضغط اليأس على الذات، في استحالة حضور الآخر _كلما تنازلت الذات عن حجم زمن الوصل الزمني الذي ترغب به ،أملاً في نزول الآخر عند رغبتها ،في محاولة أخيره منها لإغراء الآخر بانخفاض كلفة الوصل وتهوينها في تصوره.
تحاول الذات بإلحاح اصطياد لحظة أو نتفة حضور واقعي ،رغبة منها في تقويض وتهشيم عاطفة الحنين والفقد الممتدة والتي تعتقت في أعماقها وبين يديها وعلى خطاها الجافة ،وعلى الدرب الزمني الممتد منذ الطفولة حتى اللحظة الراهنة.
إن حضور الآخر، فيما يخص الذات ،قد غدا رهاناً بين الناص وأشياء أخرى ،إذ تحول حلم الحضور في نظر الذات ،من حضور يلتمس ويردم ثغور الشوق كحاجة جسدية _إلى رهان تتأمل وتتطلع الذات من خلاله تقويض طغيان الحنين بخيار وصل زمني متناهي الصغر (ساعة ،دقيقة ،ثانية )
ولعل هذا الخيار الزمني المتناهي الذي قدحته الذات للآخر _يتوخى فقط ،تسجيل لحظة أو نتفة من لحظة حضور
لتثبتها الذات على جدار القدر الدي يشخص الحرمان فوق اللحظة المتحركة ،فتحسُ بالانتصار لها على عدو امتدَّ فوق زمنها من خلال ،تقويض حكم القدر ، عبر ما سيكتبه التاريخ الواقعي للوصل،و حتى تشهد الذاتُ الحنينَ والغياب والفقد الأزلي ،يتصدَّع ،ولو لجزء من لحظة .