بقلم: عباس داخل حسن/ مركز التّنور الثّقافي/ فنلندا
قبل أيّام صُفعنا بفعاليّة ثقافيّة عراقيّة جديدة يمكن وصفها باختصار بأنّها (مهترئةٌ وعارٌ على عارٍ) سيراً على منهاج التّرّهات الاحتفاليّة التي تسود العراق، بل تسوّد وجه العراق مرّة تلو مرّة، وهي فعاليّة مهرجان المربد الشّعري العراقيّ التي قدّمت هدماً جديداً لإرث هذا المهرجان الذي تعود جذوره الأصيلة إلى العهد الأمويّ، ثم تمّ إحياؤه في العراق منذ 1971 ليكون حاضنة لكلّ إبداع شعريّ عربيّ ملهم راقٍ بعد أن كان مقصداً ومحفلاً لكلّ قامة شعريّة عراقيّة وعربيّة، ثم جاء عهد التّقزمّ في هذه المهرجان الذي غدا مسخاً بعد أن كان أيقونة.
يمكن اختصار هذا المهرجان في دورته الأخيرة المفجعة للشّعر وأهله ومحبّيه بأنّه تمثيل للمثل العراقيّ الشّهير (عرب وين وطنبورة وين)؛ إذ العالم كلّه في درب، وهذا المهرجان الأعرج يحجل بخزٍ في درب آخر؛ فابتداء هو زعم أنّه يحمل في دورته هذه اسم الشّاعر العراقيّ الكبير (أحمد مطر)، وقد أفلحوا لو تمثّلوا هذا الاسم في فعاليّات هذه الدّورة ومحاورها واهتماماتها وقامتها؛ لكن المستعرض لفعاليّات هذه الدّورة يجد أنّ أحمد مطر لم يحضر فيها إلّا باسمه المكتوب على شعارها إلى جانب صورته الكابية التّعسة التي لم تكلّف اللّجنة نفسها بأن تختار صورة مناسبة له؛ فاختارتْ هذه الصّورة غير الموفّقة لأحمد مطر على عجل كيفما اتّفق.
فأين أحمد مطر وشعره والدّراسات النّقديّة عنه وعن حياته ومنهجه وفكره وإبداعه واتّجاهاته واهتماماته في هذه الدّورة؟ بل أين القضايا التي يُعنى بها في شعره؟ والسّؤال الأكبر أين هم الشّعراء الذين في قاماته الذين حضروا إلى هذا المهرجان في محراب اسم هذا الشّاعر العراقيّ الكبير الذي يشكّل مدرسة شعريّة عربيّة معاصرة ذات خصائص متفرّدة؟
نحن لم نرَ في هذا المهرجان في هذه الدّورة إلّا أسماء مكرورة في الحضور ذاته من الضّيوف والمشاركين في هذا المربد الذي يشبه أيّ شيء إلّا المربد؟ بعد أن تحوّل إلى فعاليّة ثقافيّة للمجاملات وتبادل الزّيارات واستقدام المعارف و(الحبايب) وصرف المكافأت والمياومات وأجور الخدمات!
يمكن القول بوضوح أنّ هذه الدّورة من المهرجان التي هي دورة (أحمد مطر) قد حضر فيها الجميع إلّا أحمد مطر؛ إذ غاب شعره وإبداعه والاهتمام النقديّ به عن هذه الدّورة؟
الأنكى من ذلك أنّ هذه الدّورة قد مسّختْ نفسها، وأطاحتْ بقيمتها أكثر وأكثر عندما أعلنت لجنتها المنظّمة العليا العصماء أنّ ستؤجّل انعقاد فعاليّاتها بسبب الحرب الصّهيونيّة الشّعواء على إخواننا في الغزّة الذين يشهدون أبشع إبادة للإنسان والمعمار والتّراث في العصر الحديث، وقد أفلحت اللجنة المنظّمة العليا للمهرجان لو التزمتْ بهذا الموقف الذين يحترم مشاعر العرب والمسلمين في سائر أنحاء المعمورة إزاء ما يحدث في غزّة، بل هو موقف يحترم الرّأي العام العالميّ الشّعبيّ المنحاز لغزة وأهلها.
لكن تفاجأنا بأنّ المربد عاد، وأقام فعاليّاته كأنّ العدوان على غزّة الأبيّة قد توقّف، وأنّ أهلها في ألف خير، وأنّ هذا الحدث قد مضى عليه ألف عامّ! وأنّ (التزاماها الأخلاقيّ تجاه الفلسطينيّ) على حدّ تعبير عارف السّاعديّ مستشار رئيس الوزراء لشؤون الثّقافة قد انتهي قبل أن يبدأ حتّى!
فهل تعرف يا عارف السّاعديّ يا (صاحب الالتزام تجاه فلسطين) أنّ الحرب على غزّة ما تزال مستمرّة؟ وأنّها تسحق غزّة سحقاً؟ أم عندك نبأ آخر لا علم للمعمورة به؟
هل إدارة المهرجان المبجّلة تعيش في عالم موازٍ غير الذي نعيش فيه؟ ولا تدرك أنّ الحرب الصّهيونيّة المتوحّشة ما تزال مستعرة ومستكلبة على أهلنا في غزّة؟ وأنّ من أبسط أدبّيات اتّخاذ المواقف الالتزام بها كي لا يصبح مَنْ نطق بها أضحوكة، كما هو حال مهرجان المربد الذي تحوّل إلى أضحوكة متبجّحة بعد أن أقام فعاليّاته ضارباً عرض الحائط بتضامنه المزعوم مع أهل غزّة، وزاد الطّين بلّة بأن وعد بأن تكون فلسطين ضيف الشّرف في الدّورة المقبلة من المربد، والأولى أن يقفوا إلى جانبها على الأقلّ بتعليق هذه الدّورة من الفعاليّة إلى حين توّقف العدوان الصّهيونيّ عليها؛ فهذا ما تحتاجه فلسطين منّا في هذا الوقت العصيب، ولا أظنّها تبكي لمهرجان المربد لتكون ضيفة شرف في دورة جديدة من دوراته الهزليّة!
الأمر لم يتوقّف هنا، بل لم نرَ في المهرجان انطلاقاً من فكر أحمد مطر وشعره واهتماماته، فهذا الشّاعر العملاق الذي كتب دون توّقف عن القضية الفلسطينيّة لم تحضر كلمة واحدة من مواقفه المؤّيدة لفلسطين في هذه الدّورة! فهل حضر أحمد مطر بوصفه ضيفاً على الغداء على موائد مبجّلي اللّجنة التنظيميّة العليا وضيوفه (العظماء!!!)؟ أم بوصفه شاعراً له فكره وموقفه من قضايا عربيّة كبرى، وعلى رأسها على الإطلاق القضيّة الفلسطينيّة.
أكاد أجزم –وأنا المتابع لمنجز أحمد مطر الشّعريّ- أنّه كان سوف يرغب في أن تكون هذه الدّورة من مهرجان المربد المرهونة باسمه أن تتصّدى بالدّراسة والنّقد والاحتذاء لتجربته الشّعريّة الفلسطينيّة إنْ جاز لنا التّعبير بكلّ ما فيه من مواكبه للقضيّة الفلسطينيّة وأحداثها ومفاصلها التّاريخيّة، بل كان سيلحّ على دراسة ثنائيّته الإبداعيّة والإنسانيّة والتّجاوريّة مع صديق عمره الفنّان الفلسطينيّ ناجي العلي؛ إذ كلاهما شكّل لوحة إبداعيّة إنسانيّة غير مسبوقة ولا مكرورة، ولا يمكن دراسة إبداع أحدهما، أو الإطلالة على ذاته وتجربته دون الإشارة إلى هذه التّجربة الفريدة التي تبادل فيها كلاهما الحياة الشّعوريّة والانفعاليّة والإنتاجيّة الإبداعيّة على اختلاف الأداة الإبداعيّة، وهو الأمر الذي ترك أحمد مطر مشطور النّفس بعد اغتيال ناجي العلي صديق عمره وفكره وإبداعه إلى حدّ أنّه كان يصف هذا الفقد الموجع بأنّه فقد نصفه.
فكيف يمكن أن تكون دورة مهرجان المربد عن أحمد مطر، ولا يحضر فيها (حنظلة) ناجي العلي بكلّ ما فيه من مرارة وحزن وعتب وفقدان أمل بالعرب والعروبة.
ليتكم لم تطلقوا اسم هذا الشّاعر المبدئيّ على دورتكم الهزيلة هذه، وانصرفتم إلى ما انصرفتم إليه، وتركتم شاعرنا الكبير المحترم لما هو له من الانشغالات الكبيرة المحترمة؛ فواضح أنّ ما يشغله من القضية الفلسطينية لا يشغلكم أصلاً، فأنتم تحاولون أن تصنعوا مربداً بعد أن تقزّم على أيديكم حتى كاد يزحف على الأرض، وأحمد مطر في البعيد يكتب على السّحاب اعتذاراً عريضاً يمكن أن نضمّنه الاعتذار عن ورود اسمه في دورة مهرجان المربد الذي ليس له منه إلّا اسمه المنقوش على لافتة إعلانها، شأنه في ذلك شأن الموتى الذين تُكتب أسماؤهم على شواهد القبور:
يا قدس معذرة ومثلي ليس يعتذر
ما لي يد في ما جري فالأمر ما أمروا
وأنا ضعيف ليس لي أثر
عار علي السمع والبصر
وأنا بسيف الحرف أنتحر
وأنا اللهيب وقادتي المطر
فمتي سأستعر؟!
اعتذاراتي لشاعرنا الكبير –باسم أشراف كوكب الأرض- على هذه الدّورة الشّعريّة المهترئة التي أُلصقتْ باسمه النّقي، وتعازي الحارة لإدارة المربد الشّعري على هذه الإخفافات الجديدة التي تشبه تلك الإخفاقات المشابهة في الدّورة الأخيرة لـ(مهرجان بغداد السّينمائيّ) الذي عقد بتكليفة ماليّة خرافيّة، واستضاف ضيوفاً يمكن وصفهم بالمستحّاث المنقرضة الذين عفا الدّهر عليهم، وشرب، بل وضرط كذلك، لا سيما ممّا يصنّفون تحت اسم (ممثّلين عرب مخضرمين)، في حين تناست الممثّلين العراقيّن الكبار؛ فلماذا دعتْ إدارة المهرجان (مستحّثّات) السّينما العربيّة؟ ونسيتْ دعوة روّاد السّينما العراقيّة في أزمانها الذّهبيّة، قبل أن يأتي هذا الزّمن (الخرائيّ) بامتياز للسّينما العراقيّة؟ بعد أن تناستْ إدارة هذا المهرجان أنّها تحتفل بالسّينما في وقت لا سينما فيه ولا صناعة سينمائيّة في بغداد.
هذا المهرجان يقودنا إلى كثير من الأسئلة المعلّقة التي يجب على إداراته أن تجيب عليها قبل أن (تفلجنا) بما قدّمتْ من فعاليّات، وما صرفتْ على المهرجان من أموال:
أين هي دور السّينما التي تعرض الأفلام العراقيّة ليكون هناك مهرجان لها؟ أين هي الأفلام العراقيّة الحديثة المعروضة في هذا المهرجان؟ بل أين هي صناعة السّينما في العراق؟ والأهم من ذلك أين هي الأفلام التي كلّفت الميزانيّة العراقيّة أرقاماً فلكيّة في إعلان بغداد عاصمة للثّقافة ثم لا نرى أيّاً منها معروضاً على شاشات السينما؟
يا أهل المهرجانات الكثيرة في العراق، (عرب وين وطنبورة وين)؟ وأنتم أصلاً وين؟