فضاءات الأمكنة تتّسع بما لايدع مجالًا للشكّ، للكثير من ذكريات الماضي والأحلام والآمال، وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ من حياة أيّ فرد، بما ارتبطت بذهنه من أماكن يحنّ إليها،سواء من عاد إلى رحابها، أو من يُحرّقه الشوق والحنين إلى تلك المنازل.
ومن أشهر ما وردنا في هذا الصّدد، من قول شاعر الحماس أبي تمّام:
“نقّل فُؤادكَ حيثُ شئتً من الهوى ** ما الحُبّ إلّا للحبيب الأوّل
كم مَنزلٍ في الأرض يألفُه الفتـى** وحنيـــنُه أبـدًا لأزّل منـزِلِ”.
جاءت تجربة (عبدالرحيم جداية) بداية فنيّة، من خلال دراسته الجامعيّة للفنون الجميلة، وحاز شهادةالماجستير في الآثار الكلاسيكيّة، وتابع دراسته وحصل على دبلوم عالٍ في مجال تدريس التربية الفنيّة من جامعة اليرموك.
منذ بداياته اتّجه للتثقيف الذاتيّ، ونَهَل من معينه ليُلبّي رغبة حقيقيّة ناشئة في أعماقه؛أهّلته ليتّجه إلى ميدان الشّعر بخطوات خجلى، مستفيدًا من مناخ نجاحاته وعثراته، بخطوات واثقة مليئة بالتطلّعات حالمًا بالوصول، ومن الطبيعيّ أن يكون له ذلك خلال سنوات دأب على نفسه، وحَدَب على كلماته وحروفه وقصائده تشذيبًا وتجويدًا، ويحينُ موعد القِطاف ليكونَ اسمًا مرموقًا على السّاحة الشعريّة والثقافيّة محليًّا وعربيًّا.حيث صدر له عدد من دواوين الشّعر:
(ديوانالخيلعلىمشارفقلبي -حتفالكلمات- سندبادفيرحلتهالاخيرة -ثالثةالأثافي- كيفأمسي- مالونالوقت- ذاكرةتحملازرقها- دوائرحيرى).
في مجال النثر صدر له (نشيدالدوالي – طفولةحرف – زمنبلاحكايا)، وجاءت تجليّاته الفكريّة في مجال النقد؛ لتتوّج تجربته من خلال كتابيْن مُهمّيْن، صبّ فيهما خبراته المكتسبة وأضاف لها بصمتةً المميّزة لنتاجه (قراءاتفيالشعرالأردنيالحديث -ملامحالشعرالأردني)، وهذه السباحة في الخضّم الثقافيّ أضافت له مساحة واسعة من الحركة الرّشيقة في مجال الإعلام المسموع، من خلال برنامجهالأدبيّ والثقافيّ، الذي استمرّ على مدار عقد من الزمن،من على أثير إذاعة إربد الكبرى.
***
لابدّ من هذه المقدّمة التعريفيّة، كي لايكون القارئ متفاجئًا بما انبثق من أفكار عبدالرحيم جداية العبقريّة، خاصّة بما نشر مؤخّرًا تحت عنوان (فُتّيشة)؛فكانت بدايتها بنصٍّ واحد، ثمّ استمرّ لما وجد من قبول لدى متابعيه، وانتظارهم لما ستكون عليه الفُتّيشة المقبلة.
كما أنّ دلالة كلمة (فُتّيشة) غير القاموسيّة بهذا اللّفظ، بينما عُرفت من استخدامها وتداولها؛ على أنّها من الألعاب الناريّة خاصّة المفرقعات منها، وهي شبيهةبشكلها بالسيجارة تحتوي على فتيل مرتبط بباطنها، مُهمّته توصيل النّار المشتعلة به، لكي يحصل انفجار بدوّي بصوت مُفزِع، ربّما يصمّ الآذان إن كان قويًّا.
لكن الشّاعر والنّاقد عبدالرحيم جداية، لجأ لهذه اللفظة باستخدامها المجازيّ، ليُحدِث عَكرا من خلال تحريكه للماء الرّاكد؛لإحداث مفاجأة صادمة بذهن المُتلقّي؛ ويسوقه عُنوة للبحث فيما وراء الكلمة، حينما كسر بلادة إدمان واقعٍ قاسٍ مُعاشٍ بلا اكتراث ولامبالاة عند الكثيرين، وقراءة ما خلف السّطور بترميز واضحٍ مُنفتح على عالم من القراءات والتأويلات عبر فضاءات الزّمان والمكان، مُتأرجح بأفكاره ما بيْن الجدّ والهزَل، ربّما يأخذنا بسلاسة لنوبة ضحك، ربّما تدمع العين منها ضحكًا، أو بكاء مريرًا على واقع مؤلم.
***
ولعلّ فضاءات المكان هي المقصودة بمقالتي هذه، وحيّز المكان يفصح عن نفسه بجلاء وتمهّل بلا استعجال.
(أضحككثيراعندمايسألنيأولادي.. زمانككانتلفون.. فعلاوقتهاأتذكرسقوطالأندلس)، وما سقوط الأندلس دولة عزّ وأمجاد العرب والمسلمين وازدهارهم، إلّا وهو الحزن العربيّ الدّائم على مجدٍ ضائع؛ فلبسوا العقال الأسود مُقسمين على استعادته، ولن يُنزلوا عُقُلَهم إلّا في إشبيلية وغرناطة وطليطلة، واستطالت الأحزان سوادًا؛ ليدخلوا أنفاق القهر والذلّ الإستعماريّ، الذي خلّف عُهود الدكتاتوريّات البغيضة، وسيرتها المقيتة.
***
(صبيةقعدتبجنبيبالباصوقالتلي: واللهارتحتلك.. بعدسعادةغامرةتخبرنيأنيأشبهوالدهاالمتوفيمنسنتين.. مشأسافرالصينأحسن).
فالحافلة (الباص) حيّز مكاني يجتمع فيه المسافرون عُنوة، والمتوفّي في حيّز مكانيّ هو القبر، وجاءت مفارقة النص في الخاتمة، (مش أسافر الصّين، أحسن)، والصّين ديارٌ مُتباعدة جغرافيًّا عن ديار العرب، وقدعبّروا عن ذلك، بقولهم: (اطلب العلم و لو في الصّين)، لشدّة حرصهم على العلم وطلبه في أشدّ الظروف قسوة، حتى وإن تباعدت المسافات بهذا الشكل المُريع الذي يستنفذ الوقت والجسم والمال، والمسافات لزوم المكان.
***
(أصعبشيءفيالحياةأن تُلاقيصبيةحُلوة.. تضحكلها.. تضحكلك..،وتيجيلِحدّك.وتسألك: عمّووينسرفيسالبارحة..؟).
(وتيجيلحدك)، أي تأتي إلى جانبك، أي أنّها ستكون في حيّز مكانيّ،(وينسرفيس)، وهنا تتساءل: عن (السّرفيس) وهو يُعتبر حيّزًا مكانيًّا.
***
(استقبلتنيبفرحغامر،عبأتالنموذجبسرعة،فتحتالمصعدالمخصصللموظفين،أخذتنيبيديإلىغرفة،فتحتالبابوقال: عموهوناللجانالطبية،وغبتفيصورةالرنين).
الاستقبال لزومه مكان يحدث فيه، باب المصعد يفتح على حيّز ضيّق مكانيّ مُستحدَث لزوم الأبنية الشّاهقة، والغرفة أيضًا مكان، والباب يفتح ويغلق مكانًا، ووجود اللّجان الطبيّة، دليل على مكان المكتب والعيادة والمستشفى، وكلّها دلائل مكانيّة، وجهاز التصوير (المِرْنَان) يحتويه مكان مخصص له، مجهّز بتقنيّات حمائيّةمن آثاره الضّارة على صحّة المُستخدِمين.
***
(صعدتدرجاتالأحوالالمدنيةبهدوءوبطء،وماإنوصلت؛حتىتهالكتعلىمقعدمُتهالكمثلي،وقفتُفيالصفّالطويلمُتعبًا؛حتىنادىأحدهم: قَدّمياحج،أخذالهويّةمني،وهويدعوليبطولالعمر،وأناأستعيدشَغَبَالشباباللذيذذذذذذذ).
(صعدتُ درجات) فالأدراج من لزوم الأسطح والأبنية الطابقيّة، (دائرة الأحوال المدنيّة) بناء يحتوي على سجلّات النّفوس والقيد وهو بذلك مكان، و(المقعد)حيّز يُستخدم ويكون في ردهة البناء للانتظار أو داخل المكاتب، و(الصفّ الطويل) يستلزم حيّزًا مكانيًّا.
***
(عبرتالشارع،لأجالسجارناالبقال،تلفتت،دارتحولنفسهايسبقهاعطرهاوشبابها،وأناأقلبالنظرفاجأتيبسؤالهاعنصالوننادية،أشرتلهاهناك،وقلبييقولهنا،والبقّاليقبعفيجُحرهكأفعىفقدتأنيابها.غادرتنا،وعطرهايُغريعكازيباللّحاقبها.. هنااااااااك).
الشّارع مكان مشروع استخدامه للجميع كمرفق عام، والبقّال هو البائع في بقّالته التي هي مكان، وصالون نادية، هو من مكان بمهنة مستحدثة أخذت طابعًا عصريًّا لتجميل النّساء، والجُحر مكان ضيق تسكنه الأفاعي والسّحالي وغيرها من الحيوانات صغيرة الحجم ووالحشرات، وهو مكان تحت الأرض.
***
(فاجأنيحفيديبالسؤال: أينالتقيتجدتي؟.ولهولالصدمةأجبته:لقدالتقينافيالباصالسريع.عادليبالسؤال: وأينالباصالسريع؟قلتلهلقدغرقمعالتايتنكفينفسالسنة.لميقتنعحفيدي،ولكنجدتهاقتنعت).
(أين التقيْت جدّتي؟)، سؤال عن مكان اللقاء، وجاء الجواب في(الباص السريع)، وهو مكان أيضَا، و(التايتنك) باخرة غرقت قبل حوالي مئة عام تقريبًا، وهي حيّز مكان.
***
(حدثتنيجدتيبأنالسلحفاةوالباصالسريعتسابقامنأولمحطةعلىالمريخإلىالأرض،بعدسنواتضوئيةوصلتالسلحلفاة،وفينبأعاجلأعلنتالفضائياتأنالباصوقعفيمصيدةثقبأسودفيأحدبنوكسويسرا.. ولميؤكدالمسؤولونالخبر).
السّباق محكوم بزمان محدّد في مكان مخصص له، والمرّيخ كوكب وهو مكان بعيد في أذهان البشر، و(الباص)أيضًا مكان، و(بنوك سويسرا) والمصارف هي أمكنة تؤتمن فيها الأموال المنقولة، والنفائس من المجوهرات الثمينة وغيرها، وهي ضامنة لعملائها بتأديتها حين حاجتها، والمصارف تعتبر من ظواهر العصر الحديث المُستحدثة قبل مئتي عام تقريبًا، والتي لم تكن موجودة فيما سبق.
***
من خلال تتبعنا لفضاءات المكان في نصوص (فتّيشة) عبدالرحيم جداية، تبيّن أن تجليّاته كانت من صميم بُنية النّصوص ذات الرّوح القصصيّة، وعلامة فارقة لافتة للانتباه. وهو بذلك يكون قد استوفى رُكنا القصّ الأساسي المكان وقد تتبّعناه، والزمن تركناه حسيبًا للزمن على رأي أم كلثوم.
عمّان – الأردن
25 \ 6 \ 2018