كتب:كمال محمود علي اليماني
بين يديّ اليوم ديوان شعري للشاعر ( عباد الوطحي ) وهو من إصدارات اتحاد أدباء وكتاب الجنوب للعام 2022م . أخرجه فنيا حسن أحمد بلجعد ، ورسم لوحة غلافه الأستاذ محمود العفيفي .
قدّم للديوان أ.د أحلام الحسن شاعرة-عروضية -إعلامية ، ولقد كانت مقدمة ثرية وضافية أغنتني عن أن أورد عدداً من الملاحظات التي سبقتي في الإشارة إليها.
عنوان الديوان ( الجمر القابض على كفي) ، وهو – كما ترون- عنواناً يحمل انزياحاً دلاليا وتركيبيا معنويا . تجنيس الكتاب شعر . احتوى الديوان على 55 قصيدة ؛ ثلاث وثلاثون منها جاءت على النسق الخليلي العمودي ، واثنتان وعشرون قصيدة سطرية.
وقبل الولوج والتنقل بين ردهات الديوان ، دعوني أحاول الوصول إلى ما في بطن الشاعر من معنى يتعلق باسم الديوان ، فلفظة الجمر مبتدأ ، والقابض نعت لها ثم جار ومجرور، فأين هو الخبر ؟ أحسب أن كلمة التجنيس ( شعر) والتي ظهرت أسفل العنوان مباشرة على لوحة الغلاف هي الخبر ، فكأن الشاعر أراد أن يقول أن الشعر الذي تركه بين يدي القارىء هو الجمر القابض على كفه، إذ أن الديوان يحمل الكثير والكثير من الآلام والأوجاع التي تكبدها الشاعر حتى وصل إلى كل هذا الجمال المنسكب في أنحاء ديوانه، ولقد وردت مفردات ( الشعر ، الشاعر ، القصيد، القصيدة ، القوافي ، الخليل و البحور ) بصورة لافتة في ثنايا القصائد مما يدلل على أن الشعر هو المقصود في العنوان ، وليس أدل على ما أذهب إليه مما ورد في قصيدة ( جحود) التي تحولت فيها القصيدة إلى عقيدة ، حيث يقول:
لمَ تجحدين القصيدة؟!
فليست قوافي
وليست عمود
ولكنها في المنافي بلادي
لها في وتين المعاني وجود
لها في ضلوعي حدود
لها في دمائي جنود
ثم يقول:
لِمَ تجحدين العقيدة؟!
لِمَ تطفئين الوقود؟!
فالقصيدة صارت عنده معادل موضوعي للعقيدة.
لوحة الغلاف ضمت صورة لرجل وامرأة تعانقت كفاهما أمام البحر في لحظة الغسق، والسماء مزدانة بلون الغسق الأحمر حمرة الجمر ، وأرى أن المرأة هنا كانت معادلا موضوعيا ( للشعر) المقصود في العنوان.
الديوان _ بالنسبة للشاعر على الأقل_ لم يكن نزهة ترفيهية خاضها عبر الأيام ، بل هي ذوب فؤاده المتأتي من معاناته، وليس أدل على هذه المعاناة من أن الحقل الدلالي لعناوين قصائده قد حمل هذا المعنى 🙁 من أدمعي ، جارحت حبكِ ، ما سفكت سوى دمي، دربنا الضياع، العود الأعجف ، سريالية العدم ، جديب الروح، رمال القحط، ليلك الخذلان ، الجمر القابض على كفي ، الدمعة الشاعرة ولاتبكوا عدن ).
وإن كان الشاعر لم يستسلم لهذه الروح التي فرضت نفسها عليه ، بل تلبس روحا محملة بالتفاؤل والفرح محاولة منه الخروج مما هو فيه ، فجاء الحقل الدلالي لعناوين قصائد أخرى على النحو التالي : ( بحرك سكر، الشمس نبراس القمر، صوت الوداد ، على ضوء القمر ، قلب زهرة، العذل على ثغرها يحلو والحب يسكن فيه).
لغة الشاعر كانت جميلة ومفعمة بالشعرية والشاعرية ، وهي لغة فصيحة غير معجمية تحسن الوصول إلى قلب القارىء بكل يسر وسهولة ؛ شأن الشعر الرومانسي في كل مدارسه ، وهذا يجرنا للحديث عن الاتجاه الشعري الذي انطلق منه الشاعر في كتابة قصائد ديوان، إذ تشي هذه القصائد بالاتجاه الرومانسي الذي تشبعت به القصائد بشكل لافت ، ولعل الذاتية وهي من سمات الرومانسية قد تجلت في معظم قصائد الديوان ، ويتبدى ذلك من خلال استخدام الشاعر لياء الخاصية ، كقوله: ( بعدي ، وحدي ، جلدي ، سعدي ، ألمي ، عدمي ، قدمي ، كياني ، لساني ، قصيدتي ، عمري ، قبري وغيرها الكثير).
ولقد تميزت قصائد الديوان بالوحدة العضوية على ذات المسار الذي سارت عليه المدارس الرومانسية ، غير أنه نحى منحى مدرسة المهاجر في جعل معظم القصائد تحمل وحدة شعورية واحدة ، وكان عنوان الديوان دالاً على هذه الوحدة الشعورية .
وإن ننسى فلن ننسى هذا الكم الهائل من الصور الجميلة التي تناثرت وتزاحمت في ثنايا قصائد الديوان ، ومن العسير إيرادها كلها ، ولكنني سأقتطف لك قارئي العزيز بعضا منها ، وعليك أن تستمتع أنت بباقيها، يقول:
* لاتستطيع العينُ تبكي وحدها
فالدمع يشهد بازدواج الفردِ.
* قلبان في خفق القصيدِ صداهما
كالبرق إذ يتلوه صوت الرعدِ.
* فانسكبنا في أدمع الغيمِ وجدا
واشتعلنا في محتواها التياعا.
* وأبلغُ مايستعطف القلب دمعة ٌ
وأجزل ما في العشق نبض الخوافقِ.
وفي السطري قوله:
ومن الندى
ومن عطر سوسنةٍ.. ونعس رموشها
هذّبتُ روح قصيدةِ
ورسمتُها .. وسكنتُها
حضناً من الكلمات دافئة البحور
تحنو على وجع الحروف
كأنها ورقاء وارفة الشعور.
جاء هذا في قصيدة ( حمى القصيدة) ، وهي قصيدة جد بديعة.
الاقتباسات والتناصات في ديوان الشاعر عباد الوطحي لاتكاد تذكر ، ولعل هذا متأتٍ من قلة حافظية الشاعر لأشعار الغير وللتراث الأدبي العربي بشكل عام ؛ شعره ونثره، إن لم يكن الشاعر قد تجنب إيراد التناصات والاقتباسات في شعره عمداً ، ليشعر القارىء بأنه يصدر أشعاره من لواعج صدره هو دون أن يترك مساحة لمزاحمة الغير له.
أما إذا تحدثنا عن الانزياحات التركيبية (تقديم المفعول وتأخير الفاعل وماشابه ذلك ) ، وهي مما يلجأ إليه الشاعر لأغراض موسيقية وجمالية ونفسية وتأثيرية ، فنجد منه الكثير ، كقوله:
* يحتد في روحي شعاعٌ ملهمٌ.
* في سكون الليل تسعى ومضةٌ.
* نشوةٌ من عالم البوح انطوت.
* في مساء الغياب رأيتك في أول السطر .
وهناك انزياحات دلالية ( بلاغية ) كثيرة ، وحتى لا أطيل عليك سأورد لك بعضاً من انزياحات دلالية وتركيبية في ذات الوقت ، كقوله:
* أهداب روحي جف أخضرها.
* وكل تلك الوعود البضةُ انطفأت.
* كالأنسام زارني هذا اليوم خاطرُ.
* من أزدى لفراخ الحرف سنابلهُ.
لاشك أنه قد لفت انتباهك هذا الجمال المنبث فيما أوردته لك عاليه.
ويلجأ الشاعر في ثنايا قصائده إلى التكرار كشكل من أشكال الموسيقى الداخلية التي تحدث نغما إيقاعيا في أذن القارىء ، كما فعل في تكرار الحرف قاف في قوله:
تعلّق القلب بالذكرى يقلّبها
وكلما مر طيف الرحمة ارتجفا
أوقفت في حب إلفٍ كل جارحةٍ
ومدمع نزفه الدفاق ماوقفا
إني غريقُ سكون كان يسكنني
إني قتيل ضميرٍ حاد واختلفا.
وهناك تكرار لحرف الكاف في قصيدة أخرى ، أو تكرار أدوات أو جار وجرور أو أفعال مثل ( لِمَ، لها، لاتبكوا ) حيث يقول:
لاتبكوا عدنا
لاتبكوا الوطنا
لاتبكوا المدنا
لاتبكوا البحر المنهوك بساحلنا
لاتبكوا الأرض..
في الغلاف الأخير وضع الشاعر عباد الوطحي صورته وأدناها أربعة أبيات كانت خير دليل على شاعريته وشعريته، يقول فيها:
يفوتني أجمل المعنى وأجزلهُ
وبعض منه يُوارى بين أقواسي
كم ذبتُ في مرشف الرؤيا أقبّلهُ
وجف حبري على قرطاس كرّاسي
لو كان للحرف حسٌ كنت أسألهُ
يضمّن اللهفة الحرى بأنفاسي
يترجم النبض في صدري وينقلهُ
كما يحسّ به قاموس إحساسي.
الديوان في مجمله جاء تعبيرا عن ذات الشاعر الشاعرة ، وجاء شعرا ذاتيا ارتسم الحب بمظاهره المتعددة كأهم غرض فيه ، وإن لم يخلُ من الهم الوطني والقومي، وليس في ذلك مايقدح في الديوان إطلاقا، فلقد حمل قصائداً بديعة وإحساسا رائعا ، وأنغاما مفعمة بالموسيقى الراقصة حينا ، والحزينة حينا آخر.
أثبت الشاعر الوطحي من خلال قصائده العمودية والسطرية أنه شاعر متمكن في الشكلين ، وإن كنت أجده أكثر تمكناً في العمودي منه في السطري.
استمتعت بقراءته ، فليتكم تقرأونه.