لقد بعثتَ في روح سلسلةِ( رسالة تذروها الرّيح ) روحًا أخرى حيّةً غنيّةً، مؤتلفةً قيّمةً، بدراسةٍ فيّاضةٍ تتراوح وأفكارها العميقةٍ بين أفق دلالاتها وغورِ أسبارِها .. وتصُبَّ في نهرٍ يسبحُ في فضاءاتِ فيها من الطلاوة والحلاوة ما يُغني ويُثري ويُثير .. امتناني هذا المستوى العالي من النّضوجِ الفكريِّ الحقيقيِّ والمُدرِكِ بلغةٍ رشيقةٍ شيّقةٍ ذاتِ مرامٍ بعيدٍةٍ، جلُّها الانتصار ُ للجمال والرقيِّ والأدب الرفيع.
د
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• بداية أوّد القول بأني اختصرتُ في هذه الدراسة النقدية الكثير من المحطات النقدية بسبب ضيق فضاء المقال ، وكذلك ضيق الفسحة الزمنية التي سَنحتْ لي ، حيث من الممكن ان تستوعب هذه الدراسة كرّاساً متوسط الحجم ، لِما في هذا الفضاء (النثري) المنقود من الأسس الثوابت وبعض المتباينات ، والتي ـ للاسف ـ ابتعد عنها الكثير من النقاد ، بسبب زحام ساحة الشعر بالمقالات والدراسات النقدية ، والتي باتتْ هي الاخرى فقيرة بالنوع والجوهر والمضمون .
• لقد غصَّتْ الساحة الادبية ـ وبضمنها الفضاء الاثيري ـ بالشعر وبكافة اجناسة وتفرعاته ، حتى بات (النثر) كأنه فن أدبي من الرتبة الدنيا او الدرجة الثانية ، رغم ان كلام العرب هو فنيّن لاثالث لهما (النثر والشعر) .
إذاً من المفيد والجميل أن نحط رحالنا النقدي هنا ، في واحة نثرية قلَّ المرور بها ، بل بات من الندرة أن يعثر المتلقي او الباحث على مقال نقدي يصب بيانه وإيضاحاته في هكذا شأن ، وخاصة في الفترات الاخيرة ، في الوقت الذي يُعتبر فيه فن النثر ـ بكل اجناسه ـ مُقوّماً وركناً حضارياً مهماً ، بل هو سِمة التمدّن المجتمعي وعنوان تقدمها ، وهو أساس الشعر كذلك . لكن للاسف لو تبحّر الباحث المنصف في الخطاب النثري لوجده فقيرأ وقليل الحظ في التراث النقدي . وحتى الدراسات والمقالات النقدية التي تصدَّتْ لبعض الاجناس النثرية من رواية وقصة ، لاتعدو هي الاخرى سطحية التفاعل ونادرة الحضور . فلم تغُصْ ، ولم تحلل ، ولم تستكشف مكوناته وعناصره وجمالياته ، كي تعرض لنا مائدة نقدية لذيذة الطعم وافرة العطاء ثرية الفائدة .
ــ لذلك دفعتني الرغبة المُلِحَّة للبحث عن عمل ادبيّ يتعامل مع فن النثر وهو يحمل لمسة ابداعية برصانة وذكاء ، ليتوشح ذلك العمل بالسِمة والبصمة التي تناسبه، وهذا ما حدا بي لتقديم هذه الدراسة النقدية التي تختص بجنس نثري معين ، لرفد الساحة النقدية وعضدها بما يفيد الدارس والباحث والمتلقي .
ــ المحطة التي سأقف عندها هي (الرسالة) والتي تعتبر جنساً نثريا قديما راسخاً ، لها اركانها وعناصرها وخصوصياتها ، والتي سنمرُّ على بعض إحداثياتها تباعاً في مقالنا هذا .
ــ نظرا لكوننا سنبحر في جنس (الرسالة) الخاص بـ (الادب العربي) لذلك سينحصر إستطلاعنا ضمن دائرة هذا الأدب فقط .
• إن جنس الرسالة لم يظهر الى الساحة الادبية العربية بصورة واضحة جليّة إلا في أواخر العصر الاموي ، ثم تكامل ازدهاره في أواسط العصر العباسي وما تلاه . كون العصر الجاهلي لم يكن يهتم بالمراسلات التحريرية المكتوبة ، بل يتناقلها مشافهة كما في الشعر .
• قد يبدو هذا المقال غريباً بعض الشيء على سمع المتلقي فهو قد تعود على المقالات النقدية التي تخص الشعر لاغير . إلا ان المتمعن في الادب العربي والعالمي يعرف ان لصنعة الكتابة فضاء واسع جدا ، فكتابة الرسالة مثلاً لايمكن أن تتحدد بنوع واسلوب واحد ، ولا يمكن الأتيان بالفاظ ومعان تدور ضمن فلك واحد لاغير ، مما تؤدي الى اشاعة الملل والضجر لدى المتلقي . فهي تحتاج الى قلم وعقل مفكر متجدد مثقف يكتنز خزينا معرفيا كبيرا وعتادا لغويا سليما ، ليتسنى له تجديد نصوصه بما يتلائم مع الهدف او المناسبة او مرتبة (المُرسَل اليه) … وكما قالوا : (لكل مقام مقال).
ــ إن هذا المعنى جسَّده ابن الاثير في مقولته : (أن المعاني تتجدد فيها بتجدد الأيام ، وهي متجددة على عدد الأنفاس)
ـ إذا هكذا هي المعاني المتجدده ، يكون حضورها كالانفاس المتجددة . وهذا تشبيه فخمٌ وكبير . فكيف بمن يريد الحضور والتألق في فضاء الادب وهو مازال مُعشعِشاً في بحبوحته اللغوية المغلقة ، والتي لاتتعدى مستوى الانشاء المتوسط ؟
• لاشك ان هكذا فعل هو تخبط وتخلُّف وعَجَز.
• يتضمن جنس الرسالة نوعين من الرسائل هما ( رسائل الديوان ـ رسائل الادب) ولكل نوع تفرعاته وأصوله .
• ستكون محطتنا النقدية هي (ألرسالة الادبية) فهي تمثل خطاباً حوارياً بين ذاتٍ مُرسِلة وذاتٍ مُستقبِلة (مُرسَل اليها) بحيث يُترجِم (المُرسِل) احاسيسه ومشاعره وخواطره الى حوارٍ جذَاب ، مُستنداً الى عتادٍ لغويٍّ وجدانيٍّ لايُستهان به ، وقريحةٍ قادحةٍ نشطة ، من اجل الوصول الى عَرضِ نصٍّ ادبيٍّ خلّاب يحمل رتبة (رسالة ادبية) .
• إن فن الرسالة هو فن راق جداً لما يحمله من نسجٍ ثريٍّ بالفصاحة والبلاغة والمحسنات اللفظية والمعنوية وغيرها من سِمات تجعل هذا الفن له شخصيته ورتبته وتفرده الادبي المستقل .
• عادة ؛ عندما نقرأ او نسمع لفظة (رسالة) سيتبادر الى الذهن والفهم بأن المضمون هو تخاطب بين طرفين ، وسيتحدد نوع الخطاب بنوع الطرف (المُرسَل اليه) وبنوع الهدف من الإرسال .
ـ فمثلاً : إذا كان الهدف وجدانياً فبالتأكيد ستضجّ الرسالة بالمفردات الشفافة الانيقة التي تشكل عنصر جذب وإثارة وإعجاب للذات المقابِلة ، لذلك يختار (المُرسِل) مفرداته ولون خطابه بما يناسب الهدف المرجو . وهكذا مع بقية الاهداف والمرامي الاخرى .
• إن هذا اللون الادبي الراقي والمتضمن (17) سبع عشرة رسالة حتى لحظة كتابة هذا المقال ، قد اجتهدتْ في نسجها الكاتبة الاردنية (آمال القاسم) ، والتي سنتأمل بعض محطاتها بمشوارٍ نقديٍّ ـ وهي تستحق الوقوف عندها ـ للكشف عن آثار الجمال اللغوي ، وعذوبة المعاني المستعملة ، مع ذكاء الاسلوب التأليفي ، وكيفية التعامل مع عناصر الرسالة ، وضرورة الاهتمام بالبنية الهيكلية .
• لنتأمل فحوى الرسالة الثانية عشر (12) والتي اقتطفتُها أنموذجاً للمتلقي :
(رسالة تذروها الريح)
الشاعرة / آمال القاسم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَعريشَةِ عِنَب تتراشقُ الخجلَ والبللَ وتعبثُ أصابعُها بريقِها الرَّخْوِ .. مدَدْتُ يديَّ لأقطِفَ صوتَكَ الصُّوفيَّ مِنْ أزيزِ أنفاسِكَ .. فساحَ نبيذُه دائخًا على بوّاباتِ احتراقي ، يؤثِّثُني للعِصْيان، ويُلوِّثُني بالخطيئةِ والجُنون ..
يا سرَّ اللهِ الجميل ،
إني آنَسْتُ نورَكَ ونارَكَ ونُوّارَكَ .. وخيولُكَ الرّعناءُ ما تفْتَأُ تعتَقِلُ ثورةَ الرّمّان في عيْنيّ .. تعْبَثُ في غرقي .. وتَغْزو مدائني المَسْكونةَ بك .. وأنا النّرجسةُ الغافيةُ في ابتهالِ أرضي بعُشْبِكَ .. اللائبةُ التائبةُ العابدةُ .. أدْمَنْتُ فيك الإيمانَ والصّلاةَ والخُشوعَ والرّكوع .. حتّى صَلاتي تَفِرُّ من سُجودي إلى مِحرابِك ..!
يابْنَ الْغيم ،
مُنذُ بَدْءِ الْبَدْءِ .. وأنا أتماهى مَعَ غَيمةٍ تسافرُ على جبلٍ .. حُبْلى بسَطْوتِك ، كنَمِرَةٍ مرتبكةٍ بالدلالِ أنجبَتْكَ طفلًا في طينِها.. معكَ مفاتيحُ كينونتِك ..
فدَعْني أنسلِخْ مِنْ أحضانِ السّماءِ ..
أجيئُكَ_ على استِحْياءٍ منّي _ أنثى بنكْهةِ النعناعِ والمطر .. لُغتُها النّارُ .. حروفُها اللّهَبُ ..لهاثُها فضاؤُك.. عيونُها سماؤُك .. تَزِّخُّ الماءَ على جبينِكَ لِتَتَعرَّقَ رائحةُ الرّجولةِ فيك..
يابْنَ الرّوحِ في الرّوح ،
حرِّرْني ولُمَّني بين يديْكَ ..كمِنْجَلٍ يحصُدُ الحياةَ والعشقَ .. كيما تستوي سنابلي على بيادرِ قلبِك..
يابْنَ عيني ،
كُنْ يقيني .. كُنْ ظنّي..
كُنْ كَوْني وكُنّي..
لأكونَكَ وأتلاشى فيكَ ..
ما بيني وبيني ..!!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(سكرة القمر)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• إن الهندسة الهيكلية لجسد الرسالة الادبية يتحدد بعناصر وأسس ثابتة للتعريف بجنسها .
منها :
1- تُجسِّد علاقة خطابية بين طرفين (مُرسِل) و(مُرسَل اليه)
2- يبدأ الخطاب بتحية وسلام .
3- يتوزع الخطاب بين ثلاث مراحل (مقدمة وعرض وختام)
4- تحية الختام.
5- تُذَيَّلُ الرسالة بأسم (المُرسِل)
ــ هذه العناصر المتعارف عليها قديما قد تمَسَّك بها الكتّاب ، وكان الخطاب هو الذي يتغير بتغير المقام والمناسبة وقدرة الكاتب . إلا إن البعض من الكُتّاب ـ وفي الفترات المتأخرة ـ قد أبدعوا وابتكروا في تجسيد هذه العناصر للتلاعب في جزئياتها دون المساس بها ، كي لاتتشظى بُنيَة جسد الرسالة كنص أدبي .
ـــ والآن لنتأمل هذه المحطات النقدية المهمة في جنس الرسالة الادبية ، والتي اهتمَّتْ الكاتبة في أنشائها بلمسة ابتكارية تُحسَب لها :
• الابتكار والابداع /
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفتَ انتباهي منشور للشاعرة الرائدة الاردنية (آمال القاسم) جاء يحمل بصمة ولمسة ابداعية نثرية يستحق الترجّل عنده . ومنشورها هذا يقع ضمن سلسلة رسائل أدبية تبَّنتها الكاتبة ، لتكون مشروعا ادبيا يأخذ مساحته الشرعية الموازية للنتاجات الابداعية في الوسط الادبي .
ـ إن سِمة مشروعها النثري هو الخطاب الوجداني المتنوع الاهداف ، حيث جَعلَتْ الكاتبة من رسائلها سلسلة تبدأ بالرسالة رقم واحد (1) ولن يقف هذا التسلسل إلا بموافقة المُرسِلة (آمال القاسم) فهي التي ستحدد تلك اللحظة وحدّ ذلك التسلسل .
ـ أستطاعت الكاتبة المبدعة (آمال القاسم) أن تؤسس مشروعا مُستداماً يحمل بصمة الابتكار من خلال عمل سلسلة رسائل ناضجة أدبياً ، مع الحفاظ على الأسس اعلاه ، ولكن بإبداع ضمني سنأتي عليه تباعاً في مقالنا هذا إن شاء الله .
لذلك احترمتُ هكذا التزام وهكذا نضوج أدبي .
• عنوان السلسلة /
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
عادة تكون الرسائل خالية من العنوان كونها تكشف عن عنوانها من خلال فحواها ومضمونها ومرماها ، وهي خطاب بين طرفين ، لانها خطاب من (مُرسِل) الى (مُرسَل اليه) إلا إن الشاعرة قلّدَتْ (مشروعها الادبي) المتمثل بهذه السلسلة من الرسائل عنوانا مُوَحَّداً هو (رسالة تذروها الريح) .
حين نقرأ الرسائل كلها سنجدها مختلفة الخطاب والهدف والتوجه ، في الوقت الذي تحمل ذات العنوان . فلو قلَّدَتْ الشاعرة كل رسالة عنواناَ خاصاً مختلفا لخرجَ النص عن رتبته كـ (رسالة) ليدخل مرتبة (الخاطرة) لكنها أرادتْ من هذا العنوان الاشارة الى إنه عنوان مشروع أدبي يتضمن سلسلة رسائل أدبية ، ثم ذيَّلتْ رسائلها كلها بأسم المُرسِلة (سكرة القمر) لتؤكد حضورها كمُحاوِرٍ ومخاطِب .
• لماذا (رسالة تذروها الريح) ؟
ــ العنوان جاء ذكياً ، فحين جعلتْ الكاتبة عنوان السلسلة هو (رسالة) فهي عَنَتْ ذلك تماما ، واهتمَّتْ بهيكلة النص النثري وهندسته بما يناسب جنس الرسالة ، والاجمل في العنوان انها لم توجه الرسالة الى شخص بعينه ، فقد نوَّعَتْ في الذات المتلقية ، ثم جعلتْ (الريح) خير مِرسال حين استعملت (تذروها) والتي تعني التفرّيق ، فلقد اودَعتْ الريح رخصة تفريق هذه المعاني وكينونة الرسالة .
ـ نلاحظ ان (آمال القاسم) لم تجمع لفظة (الريح) لتجعل العنوان (رسالة تذرها الرياح) ففي جمعها سيتغير هدف النص ، وستتغير بلاغة المعنى ، فعندما نقول تذروها (الرياح) بصيغة الجمع ، سيصبح هدف الإرسال عشوائيا لافائدة منه ، فكل ريح ستفرّق وتشتتْ الى ماتشتهي من الجهات ، وبهذا سيكون المعنى مشوشاً بلاغياً ، متشظياً لافائدة منه .
أما في حالة كون لفظة (ريح) مفردة ، فهي مرسال واضح الاتجاه ، وبهذا حَصدَتْ الكاتبة مراتب الكفاءة والاقتدار من اول عَتَبة وهي العنوان .
• السلام والتحية /
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد جرت العادة على افتتاح الخطاب في الرسالة بعبارة (السلام عليكم) او بألفاظ تحمل دلالات التحية وما شابه ذلك ، إلا ان المبدعين وحتى قديما لم يتجاوزوا هذا العنصر بل ابدعوا فيه ، فجعلوا الكلام مُبطَّناً بالسلام ، والتحية مُضمَرة ، من خلال رصف الفاظٍ مناسبة دالَة ، ونسج عبارات تحمل معانٍ بليغة الاشارة الى نوع التحايا . فليس شرطا ان تكون التحية تحية إرضاء ومحبة ، فلربما كان فحوى الرسالة هو الزعل والعتاب ، او التوعد والترهيب ، فبالتأكيد سيكون الحال غير الحال والمآل غير المآل ، وهكذا جاء المبدعون ليجعلوا من افتتاح رسائلهم سلاماً مُضمَراً يُفهم نوعه من المعاني المُرسَلة.
ـ فمثلاً هذه التحية المُضمَرة في افتتاح الرسالة الأنموذج الثانية عشر :
ــ فعندما تقول في افتتاح رسالة الانموذج :
( كَعريشَةِ عِنَب تتراشقُ الخجلَ والبللَ وتعبثُ أصابعُها بريقِها الرَّخْوِ)
ـ المتأمل للمعنى العام للعبارة ؛ سيجد إن الصورة الفنية تدل على ذاتٍ مُرسِلة حسناء تشبّه نفسها بعريشة العنب المتشابكة الاوراق ، تطرق خجلاً لتصف ارتعاش الجوارح كأنها ارتعاش أوراق العنب والتي تؤزّها الريح أزَّاً ، وقد تعرَّقَتْ بندى الخجل الجارف ، وهذه الصورة وماتلاها كفيلة بتخيل حال الذات وهي تُقبِل بتحية مُضمَرة تناسب حالها ، لتنطلق بحوار وجداني يجسد الهدف المرجو ، وتلك الصورة الخلّابة وهي تلاعب ريقها بأناملها وكأنها طفلة لم تفطم من برائتها بعد قد زادت الامر عذوبة وحضوراً لافتاً .
ـ هنا بالتأكيد سيتولّد لدى (المُرسَل اليه) شعور بالتحية اللاهبة المحمّلة بالاشواق والاماني ، وكيف لا وقد غذَّتْ هذه التحية المضمرة بالجمال والبلاغة حين نسجتْ هذه العبارة :
(تتراشق الخَجل والبَلل)
ـ الا تكفي هذه الصورة لتجسد بلاغة التحية وعنفوانها ؟
ـ وهكذ في رسائلها الاخرى .
• الابتـداء /
ــــــــــــــــــــــ
ما دامت الرسالة هي نص أدبي ، فيجب أن تكون قطعة ابداعية تستحق التطلع والقراءة .
ويجب ان يكون الافتتاح يحمل بصمة (المُرسِل) فالكاتبة تبدأ رسائلها بالدخول المباشر الى مقدمات الفكرة ، لانها تنشد التكثيف والبحث عن الجوهر ، لذلك فهي تصيغ عباراتها الافتتاحية بذكاء . وتصنع ابتداءً ومطلعاً يميّزها ويليق بها ، وبما يتوافق وحال المضمون والهدف المرجو ومقام (المُرسَل اليه).
ـ الابتداءات في هذه السلسلة جاءت رصينة ، والتلاعب بكيفياتها واسلوب انشائها هو الآخر جاء متين السبك ، مبتعدة عن المعتاد والدارج ، مما ولَّدَ سِمة ابداعية تستحق التوقف عندها .
ــ فمثلا في رسالتها الأنموذج الثانية عشر :
نجد تشبيهاً رائعاً للذات المتكلمة بـ (عريشة العنب) فالتشبيه يحمل فكرةً وخيالاً خصباً وهّاجاً , وهكذا مضمون تحمله الرسالة مِن وجدٍ وشوقٍ وخطابٍ ونداء ، لابد أن ترافقه الفاظا رشيقة رهيفة ، وهذا مانجده متناثرا بين ثنايا النص ، مما ولَّدَ جذبا للمتلقي ، حتى بدا النص كقُماشة متلائمة النسج لاشائبة فيها .
ـ فمثلا تأتي بعبارات رشيقة في ذات النص … منها :
(وأنا النّرجسةُ الغافيةُ في ابتهالِ أرضي بعُشْبِكَ )
ـ وحين توجّه رسالتها الى الأم والعُمر ، نجدها تجعل من (الحلم) بؤرة الافتتاح ، فتقول في افتتاح رسالتها الرابعة عشر :
(قصيراً كانَ حُلُمي بعمر الرّحيق .. غضيضاً بطراوةِ الرَّيحان)
ـ هكذا إفتتاحات بليغة تجعل المتلقي يفهم بأنها ستفتح مغاليق العبارات التي تليها وحتى الختام .
• تلاحم الافتتاح بالخاتمة /
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ قيل : ( إن من البلاغة ان يكون اول الكلام دال على آخره ، وآخره يرتبط بأوله )
لذلك لابد من الاهتمام ببناء هيكل النص ، وعلى المُنشِيء ان يكون على دراية وخبرة بما يصنع ، وإلا سيكون نتاجه الادبي مشوشا ركيكاً لايصمد امام الفعل النقدي .
ـ لنأخذ مثلا :
افتتاح الرسالة السادسة عشر المتجسد في العبارة التالية :
( حين يعسعسُ الليلُ ويذوبُ في عينيَّ الظلامُ .. أغفو بينَ خلواتِ صمتي)
ــ إذا نحن أمام افتتاح ظرفي زماني (الليل ) او دلالة الليل (الظلام) وصورة عسعسته ، حيث لابد للمؤلفة ان تراعي ترابطه مع الخاتمة ، كي لايتيه المتلقي في فضاء النص ، وليبدو النص كأنه كتلة بنائية واحدة لاتقبل التجزأة .
ـ والان سننتقل الى ختام الرسالة ، كي نشاهد الترابط بين الافتتاح والخاتمة … ولنتأمل هذا المقطع الختامي :
(قصّةٌ تدَّخِرُ ما تبقّى من استعاراتٍ في وردةٍ تقولُها للصّباحِ ، بينما عينايَ محاولَتانِ فاشلتانِ ، لا تُتْقِنانِ الضّحِكَ في مُدنِ الملحِ .. ولا تمنحاني حقَّ العبورِ إلى قدسيَّةِ الشّمسِ المتخمةِ بالغواية..!)
ـ إذا مازال الظرف الزماني ودلالته فاعلا يدور في ارجاء الفكرة حيث (الصباح) ) ودلالته (الشمس) ليتحول الزمن الى محاولة انفتاح وإشراق .
ـ ولكي لايقال ان هذا الترابط جاء مصادفة ؛ فلنتأمل افتتاح الرسالة الثانية عشر والتي اتخذناها أنموذجاً :
( كَعريشَةِ عِنَب تتراشقُ الخجلَ والبللَ وتعبثُ أصابعُها بريقِها الرَّخْوِ .. مدَدْتُ يديَّ لأقطِفَ صوتَكَ الصُّوفيَّ مِنْ أزيزِ أنفاسِكَ ..)
ـ هنا جاء الابتداء بتشبيهٍ بـ (عريشة عنب) حيث استحضرتْ الكاتبة تلك العريشة التي تشابكت عليها اوراق العنب ، لتجعل عنصر النبات ضيفا في رسم صورتها الفنية ، ثم تتداخل صورة اقتطاف العنب باقتطاف الصوت لتصبغه بلون (صوفي) .
ـ إذاً نحن امام عنصرين في فضاء الافتتاح ( النبات والصوت الصوفي) ولنتأمل فضاء الختام لذات الرسالة كي نشاهد قوة الآصرة والترابط في بناء النص :
( حرِّرْني ولُمَّني بين يديْكَ ..كمِنْجَلٍ يحصُدُ الحياةَ والعشقَ .. كيما تستوي سنابلي على بيادرِ قلبِك..
يابْنَ عيني ،
كُنْ يقيني .. كُنْ ظنّي..
كُنْ كَوْني وكُنّي..
لأكونَكَ وأتلاشى فيكَ ..
ما بيني وبيني ..!! )
ـ في هذا الفضاء الختامي تآلفتْ المعاني ، حيث استعملتْ الكاتبة الفاظاً ( حررني ، لمَّني ، منجل ، يحصد ، سنابل ، بيادر) وهي عناصر اشتركت في توليف صوَر فنية متحولة الى شأن آخر ، من (اقتطاف) الى (حصاد) ومن (عريشة) الى (بيادر) لكنها بذات المدلولات وإن اختلفتْ مسمياتها ومتشابهاتها .
ـ ثم تنتقل الى عالم ختامي أخر فتُطَّعِم خاتمتها بمقطع مقفَّى لتستحضر عالم التصوف مع جرس موسيقي جاذب ، فتأتي باللفظ (كُن) مكرراً ثلاث مرات لتأكيد هذا العالم ، ثم الالفاظ (كوني ، كني، اكون) وهذا استحضار مفعم بالحيوية والذكاء حيث اشارت الى (الكينونة) والحياة ، وهو عالم فلسفي واسع الطيف ، ولذلك كانت الكينونة عند المتصوفة محطة نقاش وتأمل وتحليل .
ــ إذاً استطاعت (آمال القاسم) أن تضع لبناتها الاولى في التقديم لتصل الى مراحل ختامها بترابط وتناغم عميق راسخ ثابت .
ـ نعم هكذا بناء هيكلي للنص يستحق الوقوف عنده وتوضيح إحداثياته النقدية . وهذا الجهد والالتزام التأليفي يُحسب للكاتبة.
• مطابقة الخطاب /
ــــــــــــــــــــــــــ
من أسس الرسالة هو مطابقة الخطاب مع حال المتلقي ، ولانقصد بالمتلقي هو الناقد او القاريء والمتذوق ، وانما هو الذات (المُرسَل اليه) مع الاعتناء بنوع الخطاب بما يتوافق وتلك الذات .
فعندما يكون المُخاطَب هو الذات (الحبيب) نجد خطاب الكاتبة يتضمن الفاظاً شفافة رقيقة منسجمة مع نوع الخطاب ، ومتوافقة مع الفكرة …. فتقول في رسالتها الاولى :
(أي حبيبي ، أيُّها النّورُ، المُتأرِّقُ، المُتَفتِّقُ، الطّالعُ في دجى روحي .. )
ــ والان لنتأمل الرسالة الانموذج والتي يكون خطابها موجهاً الى الذات الحبيب (المُرسَل اليه) ولنقتطف منها بضع عبارات :
(إني آنَسْتُ نورَكَ ونارَكَ ونُوّارَكَ ..)
ـ وفي عبارة اخرى تقول : (أجيئُكَ ـ على استِحْياءٍ منّي ـ أنثى بنكْهةِ النعناعِ والمطر)
ـ وهكذا هو التتابع في انتقاء الالفاظ العذبة المأنوسة السائغة الرهيفة ، لتوافق المبتغى والحال لجذب الذات المقابلة .
• التـخـلّـص/
ــــــــــــــــــــ
من اهم عناصر بناء الخطاب النثري هو ظاهرة (التخلّص) فالذي لايجيدها يُعَد مؤلفاً وكاتباً لايفقه في فن النثر ، بل يُعتبر مِن العِيِّ والعجزِ والعيب .
ـ التخلّص كما في (المعاني الجامع) هو خروج من كلام إلى آخر بطريقة تلائم بين السابق واللاحق.
اي إن المؤلف الذكي هو الذي يُحسن الانتقال والخروج من كلام يحمل معنىً معيناً الى خطابٍ آخر يحمل معنى آخراً ، ليجعل من المعنى الاول سببا للثاني ، بحيث لا يُحدِث هذا الانتقال شرخاً في بناء وحدة النص ، ولايجعل فكر المتلقي في حالة تشظي ، وإنما يجعل المعنى كأنه جاء بزخَّةٍ واحدة ، او إنسكاب واحد .
ــ لنتأمل (التخلص) في الرسالة الثانية عشر الانموذج :
(مدَدْتُ يديَّ لأقطِفَ صوتَكَ الصُّوفيَّ مِنْ أزيزِ أنفاسِكَ .. فساحَ نبيذُه دائخًا على بوّاباتِ احتراقي ، يؤثِّثُني للعِصْيان، ويُلوِّثُني بالخطيئةِ والجُنون ..)
ـ فبعد صورة الاقتطاف للصوت الصوفي وسَيَحان النبيذ الدائخ على ابواب الشوق ، وبعد هذا الفضاء الرومانسي والمعاني الشفافة الرشيقة ، تتحول الكاتبة وتنتقل الى معانٍ مختلفة تماما ، لتكون نتيجة للسبب الاول ، فتأتي بمفردات (العصيان والخطيئة والجنون) وهذا عالم وفضاء من المعاني مغاير تماماً لما سبق ، لكن المتطلع الى النسج سيجد المعنى العام متوافقاً تماما وينسجم مع هدف النص .
• التاثير والنفوذ /
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
من عناصر النص النثري في الرسالة هو التأثير في ذات (المُرسَل اليه) وسطوة نفوذ المعاني على الذائقة ، وهذه السِمة ليست بالهيّنة ولا بالسهلة الورود ، إنما تحتاج الى عناية ودراية فائقتين .
ـ عند تفحّصي لجميع رسائل الكاتبة الرائدة (آمال القاسم) وجدتُ معانيها نافذة منذ إبتداء سبك الكلام ، لتجعلك تعيش في عالم مستقل ضمن فضاء الرسالة ، وهذا الاستحواذ الشعوري هو المطلوب ، وهو اقصى غاية ينشدها المؤلف ناثرا كان أم شاعرا .
ـ فمثلا في الرسالة الثالثة عشر هذه العبارة :
(أيُّها المُكتَظُّ بِدَمي )
ـ والعبارة في الرسالة العاشرة :
(ما كنتُ أدري أنَّني خرافةُ جنينٍ لا مُنتمٍ لأيةِ نطفةٍ أو أنّني نقطةٌ عابرةٌ في حرفِ هجاء ..)
ـ او العبارة في الرسالة الأنموذج :
(وأنا النّرجسةُ الغافيةُ في ابتهالِ أرضي بعُشْبِكَ .. اللائبةُ التائبةُ العابدةُ .. أدْمَنْتُ فيك الإيمانَ والصّلاةَ والخُشوعَ والرّكوع)
ــ من الامثلة اعلاه نجد الكاتبة قد افرغتْ مؤثراتها اللاهبة في هذا النسج النثري الخصب كي تحصل على مرادها من قوة إشراق وتحفيز للمستجيبات الذوقية للذات المقابلة .
ـ لاشك أن المتلقي الحاذق سينتبه الى بؤر الشدِّ والجذب والتأثير في هذا النسج النثري الثريّ .
• الحوار والاسـلـوب /
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن طريقة كتابة الرسالة وطريقة انشائها وتوليف الفاظها بما يناسب معانيها لهوَ من عناصر البناء المهمة في جسد النص النثري . فالابتعاد عمّا هو مألوف ومستعمل من الاساليب القديمة دون المساس بوحدة هذا الجنس الادبي هو من متطلبات الابداع والابتكار . ولذلك عَزَفَ الكثير من الكتّاب سابقاً ولاحقاً عن اساليب الافتتاح والختام المُمِلة ، بل وتعدى ذلك الى التفنن في لغة الخطاب النثري في الرسالة .
ـ إن نوع الحوار في الرسالة يُعَدًّ عنصراً مهماً بل ورئيسياً في تحديد وتشكيل اسلوب لغة الخطاب . فالابداع في اسلوب الحوار هو الذي يعطي نتائجاً متقدمة لتقريب المسافات بين النفوس المتحاورة او المتخاطبة .
ـ إذا هو أسلوب حضاري راقي تحتاجه الامم والشعوب في تفاعلاتها اليومية من أجل إنجاح اواصر التواصل والنفوذ الى الذات المتلقية .
ـ تأملت في سلسلة رسائل (آمال القاسم) فوجدتُ اسلوب الخطاب منوعاً ومتنوعاً ولم يجرِ الخطاب على سليقة واحدة . فهي تتفنن في اسلوب نسج العبارة ، وتُحسِن انتقاء الالفاظ وانتخاب المعاني من أجل حوار هادف وخطاب مركّز يتجه نحو احداثيٍّ مرسوم .
ـ لنتأمل اسلوبين مختلفين في خطابها :
ــ في الرسالة الحادية عشر :
(على شرفةِ العمرِ .. سنوقدُ قنديلًا لونُه أحلامُ البرتقال ؛ سنُصلّي الفجرَ ولا نمَلُّ من كتابةِ النورِ أسطورةً وقطافًا من الوصايا المؤجّلةِ .. سندعو اللهَ دهرًا ومئين كي نطوِيَ أحزانَ اليائسين)
ــ الخطاب هنا جاء باسلوب المتكلم الجمعي (سنوقد ، سنصلي ، لانملّ ، سندعو ، نطوي) وهو يحمل دلالة القوة والثبات والتأكيد ، وهكذا تتوارد الالفاظ حتى نهاية الرسالة ، ثم لاتلبث الكاتبة حتى تميل باسلوبها الى خطاب المفردة المؤنثة فتأتي بتاء التأنيث الساكنة (تكورتْ) وهاء الكناية للمفردة المؤنثة (نفسها) … فتقول :
( التي تكوّرتْ على نفسِها تحتَ ظلِّها)
ـ ثم تنتقل مرة اخرى في ختامها من اسلوب الخطاب الجمعي الى اسلوب خطاب المفرد المذكر .. فتقول :
(وكم مرّةٍ قلتُ لكَ أيُّها الملطَّخُ بغريمِ السوادِ)
ــ والآن نأتي الى اسلوب آخر في الخطاب والحوار :
ـــ الرسالة العاشرة :
ولنتأمل هذه العبارات :
(قبّلتُ عِطريَ المُتشاقي في وَجْنتَيِ الغروبِ وأودعتُه ابتسامتي ووردي..ومضيتُ أُهرولُ في سُهوبِ قِصِةٍ تبحثُ عن شُخوصِها تاركةً عمري في أواني الزّهر)
ـ هذا الاسلوب جاء واضحاً جلياً يعكس اسلوب الحكاية او القصة . فمَشاهِد الحوار كلها جاءت تحمل هذا العنفوان القصصي الذي يجسد مشهد التيه والألم والبحث في زمن مضى (قبّلت ، اودعته ، مضيتُ ) ثم لاتلبث أن تنتقل في (الزمن) من الماضي بذكرياته الى اللحظة الحاضرة لتنسج عباراتها الرائعة فتقول:
(فأنتفضُ وأستلُّ الأعوامَ من صدري كما عرّافةٌ تنجِّمُ في الآياتِ وتفسِّر الماءَ وتعلِّلُ أسبابي)
ـ ثم تستعمل اسلوب الانتقال والتحول حتى في صورة المشهد . فبعدَ (ماكنتُ ادري) و(اغنية خرساء) و(تتقاذفني الجثث) تتحول الى (الانتفاض) و(الاستلال) وهذا تطور في الاسلوب لم يأتِ تكلفاً ولا تَرَفاَ ، بل جاجة وجدانية ودلالة إشارية يتطلبها الموقف دون التنصل عن اسلوب القصة .
ــ وهذا الاسلوب الذي يدعى بـ (تكسر الزمن) او (الاسترجاع) يجعل الحوار اكثر ثباتاً والمعنى أبلغ حضوراً مما يولد تآلفاً نفسياً عميقاً بين الذات (المُحاوِرة) والذات (المُستقبِلة)
ــ وهكذا نجد تباينا واضحاً في اسلوب الحوار من خلال الجمل والتراكيب ، فالكلمة الواحدة في النثر لايتبين مغزاها وتأثيرها كما في الشعر ، لذلك فبمجموع الالفاظ ومعانيها يتكون أسلوبٌ حواريٌ يتسم بدرجة الجودة أو الرداءة بِقَدرِ تعلقهِ بقدرةِ ومهارة ناسجه .
• الختام /
ـــــــــــــــــــ
ـ تاملتُ رسائل (آمال القاسم) كلها ، فوجدتُ الختام قد حملَ ابداعاً ، مبتعدة في تأليفها عما هو مُستعمل مِن الفاظ مثلاً ( والسلام) او الوان عبارات الختام الاخرى ، او صِيَغِ الدعاء ، فهي جعلتْ الختام مُحمَّلاً بالمعاني المفتوحة ، لتضع (المُرسَل اليه) في فضاء تأملي مفتوح يحتمل الواناً من أوجِه التأويل والاحتمالات .
ــ فمثلا آخرعبارة ختام في رسالتها العاشرة :
(وأغدوَ قضيةً منسيّةً قُيِّدَتْ ضِدّ مجهولِ الهوية..)
ـ هذا المعنى المُجَسِّد لحالة التَيه والتلاشي والفوات هوَ ابداع رائع يحدو بالمتلقي الى تأويل المعنى بأحتمالات تعددية كثيرة ، وخاصة عندما استعملت لفظ (مجهول) مما جعلها خاتمة مفتوحة بعيدة عن الانغلاق .
ــ او ختامها في رسالتها الثانية عشر الأنموذج … فتقول :
(كُنْ كَوْني وكُنّي..
لأكونَكَ وأتلاشى فيكَ ..
ما بيني وبيني ..)
ــ هذا التلون الختامي والانتقال من اسلوب النثر السردي الحر الى النثر المقفى ، بالتأكيد سيجعل الذات المتلقية أكثر تعلقاً بروح الخطاب وخاصة عندما استعملت (آمال القاسم) جرساً موسيقاً لصوت حرف النون (ن) حيث يعتبر من انسب الاصوات التي تتناسب والصورة الفنية التي تجسد الوجد الصارخ والاشواق والالم والبعاد .
ـ ثم إن الاهتمام بالخاتمة هو من صناعة اهل الدراية والخبرة ، لان تاثيرها سيبقى عالقاً في الذهن ، كونه آخر كلام تتلقفه الافهام ، كآخر لقمة طعام يبقى طعمهاعالقاً بالفم.
• الـلـغـة /
ـــــــــــــــــــــ
ان لغة الرسالة الادبية بكل تصنيفاتها يجب أن تتسم بسماتها المحددة ، فلايمكن ان تكون لغة خطابها كلغةِ الخطاب اليومي الدارج والمستعمل ، فمثلا :
ـ عندما تريد الكاتبة ان تجسِّد وقت شروق الشمس في رسالتها الادبية ، فلايمكن لها ان تصف الحدث باللغة المستهلكة كما في الخطاب اليومي لتقول : (ثم اشرَقتْ الشمس وانتهى الليل) فبالتأكيد ستكون هذه العبارة ساذجة بسيطة النسج ، ولايمكن ان ترتقي الى مستوى الخطاب الادبي .
ــ والآن لنقرأ ذات الحدَث تنسجه (آمال القاسم) في رسالتها الحادية عشر لتقول :
( لن تستأذنَ الشمسُ الفجرَ كي تقتلَ الليل )
ـ لاشك انه الجمال النسجي الجارف ، يشع حرارةً يتحسسها المتذوق والمتلقي مباشرة دون وساطة أو وسيلة .
ــ امتازت لغة رسائل المبدعة (آمال القاسم) بالتركيز على اهدافها المرسومة في مخيلتها ، مع الابتعاد عن الحشو والكلام الخَطِل ، مستعملة نسجاً مكثفاً مختصر الالفاظ ، مُشذباً مِن الدَخَن والغبار ، حتى بدَتْ عباراتها كسبائكٍ محسوبة الاوزان .
ـ فبالرغم من قصر فضاء بعض الرسائل ، إلا اننا نجدها مُتخمة في المعاني المَعبِّرة ، وتكاد تنفجر لكثرة خزينها البليغ .
ـ إن لغة رسائلها تختلف بأختلاف التلقي المقابل وباختلاف نيّة الخطاب . فعندما يكون هدف رسالتها الثالثة هو اخبار الذات المقابلة عن تنوع اجابتها عندما سُئِلتْ عنه ، فتأتي بلغةٍ مختلفة وتعريفات مختلفة ومتباينة حسب مقتضى الحال .
ـ فكان جوابها بأنه (قديس ، كاهن ، جني ، طفل ، ملائكي)
ـ وعندما تبعث برسالة الى ذاتها فهي تختار لغتها الناضجة البليغة فتستعمل مثلاً (كنتِ ) ثلاث مرات حتى لاتجد عبارة تفرغ من مخاطبة الذات .
ـ وعندما ترسل شجونها الى فضاء الذكريات (الابوي) سنجد لغة مختلفة تماما عما سبق من استعمالات وانتخاب للالفاظ ، فتقول في رسالتها التاسعة مثلا (وها أبحثُ … عن أرجوحةِ العيد، في رائحةِ أبي المتروكةِ في المكان).
ـ لو تأملنا لغة الرسائل الستة عشر ، لوجدنا الكاتبة قد ابتعدتْ في نسجها عن الالفاظ الوحشية ، كما انها لم تتعامل مع المفردات المبتذلة ، واستعملت لغة واضحة ليست بالغريبة ، بل استعملت مايوافق هدف الرسالة .
ـ فمثلا :
حين تصف قوة استشعارها في رسالتها الثالثة عشر … تقول :
(كلُّ حواسّي السّابحةِ برعونةِ الماءِ وبشوقِها المقدّسِ .. تعرفُك )
ـ لو تاملنا العبارة ؛ نجدها قد احتضنتْ الفاظاً مفهومة ومستعملة ، لكن طريقة واسلوب نسجها هو الذي جعلها لغةً تخالف المُعتاد ، والتي تستحضر جمال التأثير لجذب المتلقي . وهكذا هي لغة الخطاب النثري .
ــ وهكذا تتنوع لغة الخطاب بتنوع مقام ورتبة التلقي وباختلاف الهدف لكل رسالة .
• الصورة الفنية /
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة الفنية هي أس راسخ وثابت التواجد في الاعمال الادبية ، ولها ما لها من مقاييس ومعايير ،على اساسها تُعرَف قدرة ومهارة الكاتب والمؤلف والناظم ، فهي مَلمَح تعبيري فني له كيانه المستقل ، فبدونها يكون النص بارداً سابتاً لايقوى على الفعل والنشاط التأثيري في الذائقة ، فهي ينبوع حياة الادب . فهندسة تركيب الالفاظ التي نتلفظها في حياتنا اليومية وتحويلها الى عبارات مدهشة مبتكرة تبعث على الاندهاش هي التي تجسد الابتكار والعنفوان الابداعي للمؤلف.
ـ وللحقيقة اقول : بأني أعجبت كثيرا بالصور الفنية في هذا الجنس النثري للكاتبة الرائدة (آمال القاسم) حتى بتُ اقارن بين الكثير من الصور الفنية وربطها بمدلولاتها ، لغرض النقد والفحص والتحليل ، فوجدتها شديدة الفتل ، حبلى بالمعاني البليغة ، مَشذَّبة ومُهذَّبة بعناية ، ومدروسة هندسيا وبنائيا وتركيبيا ، لذلك ابحرتُ فيها طويلا وكثيراً ، مرة متأملاً متذوقاً ، ومرة ناقداً فاحصاً محللاً ، ولولا ضيق فضاء المقال لاسهبتُ في هذا الركن طويلا طويلا ، لكن لكل مقال مآل .
ــ لنتأمل بعض من هذه الصور الفنية التي راقت لي :
من الرسالة الثانية : (يا بنَ الرّوحِ المتبّلَ بالنون..)
من الرسالة التاسعة : ( وفي معجمٍ هجَرَتْه كلُّ اللغاتِ واعتقَلَ فمي الأميِّ ؛ بحثًا عن الرّواة .. !)
من الراسالة الرابعة : (فترعرعتُ فيكَ حدَّ الأنوثة )
من الرسالة السابعة : فإنَّ الطريقَ لصحراءِ رملِكَ يَغرَقُ في ذاتِه ..)
من الرسالة الأنموذج الثانية عشر: (حُبْلى بسَطْوتِك ، كنَمِرَةٍ مرتبكةٍ بالدلالِ أنجبَتْكَ طفلًا في طينِها)
من الرسالة الخامسة عشر: (يَجرحُني الماءُ ويُحرِجُني إذ يسألني )
ـ اتركُ التأمل للمتلقي ، فكل صورة فنية من هذه الصور تحمل بين جنباتها محطة نقدية كاملة لايسع المجال للاستطراد والاكثار بشأنها .
• الاقـتـبـاس /
ـــــــــــــــــــــــ
من سمات الخطاب البليغ هو تضمينه اقتباسات معروفة لدى المتلقي ، والمؤلف الذكي هو الذي يأتي بها حسب ما يتطلبه الخطاب ، لاثبات صدقه ، او اثبات قبول خطابه ، او إبراز قوة بنائه ، لتشكل حسّاً وشعوراً لايمكن التغاضي او التغافل عنه .
ـ لنتطلع الى الامثلة التالية من حسن الاقتباس :
اقتباس قرآني (في أمنيةٍ موْءودةٍ لمْ يُسأَلْ هيكلُها : “بأيِّ ذنبٍ قُتلتْ” ..?!) من الرسالة التاسعة .
إقتباس قرآني (حتى تتقاذفَني الجثثُ كعصفٍ مأكول) من الرسالة العاشرة
اقتباس قضائي (وأغدوَ قضيةً منسيّةً قُيِّدَتْ ضِدّ مجهولِ الهوية..) من الرسالة العاشرة
اقتباس قرآني (إني آنَسْتُ نورَكَ ونارَكَ ونُوّارَكَ ..) من الرسالة الثانية عشر
اقتباس قرآني (حين يعسعسُ الليلُ) من الرسالة السادسة عشر
ـ من خلال تجوالي بين هذه الاقتباسات ، لاحظتُ ان الكاتبة نجحتْ في هذا التوظيف الدقيق والحساس ، فهي لم تجعله ظاهرة تملأ بها رسائلها ، وبهذا سيكون النص فاقداً للنضوج التأليفي ، ويجعل النص متكلفاً مبتعداً عن فطرة القريحة المبدعة المبتكِرة .
ـ فهي أتت بما يستوجب الحال ، وبما تستحقه ضرورة الخطاب والمقال ، لترسم صورة فنية من خلال اقتباس لايدخل في رتبة التحريف .
• التقييم /
ـــــــــــــــــــ
• استطاعت الكاتبة من بناء رسائلها وفق نظام هندسي راسخ الاسس ، متلاصق اللبنات ، متوافق الاهداف ، حتى جعلت من الرسالة وحدة بنائية متماسكة الاطراف ومتعشقة الاجزاء .
• وضعت الكاتبة احداثيات ظرفية زمانية مناسبة لتوثيق الرسالة باسلوب ضمني .
• نجحت في صياغة الحوار التخاطبي والانتقال داخل الرسالة الواحدة مبتعدة عن النشاز .
• تعاملت مع حالات التناص والاقتباس بذوق والتزام ورصانة ودون تكلَّف وحسب ما يتطلبه الخطاب .
• استطاعت ان تحفر بصمة ابداعية على الساحة الادبية وخاصة عندما ستجعل هذه السلسلة تمتد الى ارقام بعيدة ، محافظة على تلك الاسس والعناصر الرصينة ، فبالتأكيد ؛عندها ستكون إنموذجا إثرائيا مهما للدارسين .
• إهتمتْ في مرحلة التهذيب للنص ، وتخليصه مما يجعله مشوشاً ركيكاً لايقوى على الصمود النقدي .
• استطاعت ان تحافظ على هدف كل رسالة دون تشتت او زوغان ، مما جعلت ذائقة التلقي مسترسلة ومتابعة دون توقف .
• استطاعت ان ترتقي بمضمون الرسالة وما تتضمنه من حوار مع تقدم السلسلة ، ويُعَدُ هذا مؤشرا ايجابيا مدروسا نحو التطور والبحث عمّا هو جديد .
• هذه السلسلة الادبية الخلابة (رسالة تذروها الريح) لو جاءت بصيغة (قصيدة نثرية) كما هو متَّبع عند البعض في تسطير العبارات النثرية ، لكنت اول الرافضين لها ، لكن الكاتبة عَمَلتْ حسناً حين جعلتها بهذا الشكل النثري الجميل ، محافظة على كيانها وجنسها الادبي المستقل ، حاملة عنوانها الادبي المستقل (الرسالة) .
ــ ابارك للرائدة (آمال القاسم) هذا الاختيار وهذا الاقتدار في هذا المنجز الادبي الابداعي ،
()