قراءة جمالية في قصيدة(انكسارات)للشاعر إبراهيم عباس ياسين. بقلم- عصام شرتح( دمشق. سوريا)

لصحيفة آفاق حرة

لاشك في أن اللعبة الشعرية لعبة لغة وهي التي تميز الشاعر المبدع عما سواه، واللغة ليست مقتصرة على شعرية التراكيب وطيفها الجمالي ،وإنما تتضمن كل مقوم لغوي يحقق قيمة جمالية في رؤيته التضافرية على المستوى النسقي، والشعرية هي في المحصلة تلاعب بالأنساق اللغوية بما يحقق لها الانسجام والتفاعل والاستثارة النصية.
وبما أن توجهات الحداثة وما بعد الحداثة إلى تأسيس خطاب شعري جمالي متغير في طيفه الجمالي وتقنياته الجمالية فقد استدعى هذا الأمر اختلاف المنظورات الشعرية إلى القصيدة الحداثية من حيث البلاغة والتكثيف والإيحاء، فالقارئ اليوم لايهمه الشكل اللغوي بقدر ما يهمه الإمكانية الجمالية التي حققها هذا النسق الشعري حتى حرك في داواخله القشعريرة الجمالية او اللذة الجمالية.
ومن يطلع على تجربة الشاعر إبراهيم عباس ياسين يلحظ احتفاء الشاعر بالصور الشعرية وتناغم القوافي،لتشكل القصيدة إيقاعها الترسيمي الرومانسي الغزلي، أي تتحرك الدلالات على محاور جمالية عدة ، منها نسق الصور الشعرية التي تنتهي بتقفيات مموسقة، محركة للنسق الشعري،ومنها اعتماد القفلات النصية التي تؤكد ترسيمه للدلالات والمعاني الشعرية المتواشجة في بثها ومعانيها الجمالية التي ترصد وقع الحالة الشعورية بأعلى قيمة بؤرية تأسيسية لحراك الدلالات والمعاني الشعرية.
ولو دقق الشاعر في المتغيرات الأسلوبية التي تبثها قصيدته( انكسارات) لوجدنا أن القصيدة تتضمن عدة مقاطع وكل مقطع شعري اتخذ مسمى خاصاً به ضمن ما يسمى شعرية الرؤيا، وهذه الرؤية تجعل لكل مقطع توجهاته الانكسارية ورؤيته الشعورية المأزومة أو المتوترة التي تشكلها القصيدة في مسعاها النصي،ومحفزها الإبداعي ، وأول ما يفتتح الشاعر هذه المقاطع والمسميات يفتتحها بترسيمته التشكيلية المقطعية الأولى التي اتخذت عنواناً لها:( بكائية)، وهذه البكائية هي اللوعة أو الزفرة الدامعة التي تبثها الحبيبة لمحبوبها من إحساس عاطفي يزداد استثارة كلما توغلنا في سيرورة القصيدة كما في قوله:
كقبّرةٍ في براري الشتاءْ
تفتّشُ عن موطنٍ من ضياءْ
أسافرُ مني ، حبيبي ، إليك
وأرجعُ مكسورةً كالنداءْ
تحاصرني ، يا حبيبي ، الجهات
وتسكنني حيرةُ الأنبياءْ
أنا ، دون عينيكَ ، لا أرض لي
ولا بحر .. لا أنجمٌ ، لا سماءْ
فأنت ارتحالي .. وأنت الثبات
وأنت اشتعاليَ والاِنطفاءْ
وما زلت – إذْ يعتريني الحنين –
أعلّلني بطيوف الرجاءْ
تُشاغلني نجمةٌ في البعيد
وتحتلّني صرخةٌ في الهواءْ :
لماذا ، وقد شرّدتنا البلاد
وألقت بنا في مهبّ العراءْ ،
نحاولُ فجراً نبيّ الشروق
وننشُدُ برقاً ثريّ الضياءْ
وهانحنُ أسرى طيور الظلام
تضرّجُ أيامنا بالدماءْ
غريبانِ تغتالنا الأغنيات
ويبكي ، حبيبي ، علينا البكاءْ
لابد من الإشارة بداية قبل دخول المضمار النقدي وتفكيك البنى الدالة في القصيدة من التأكيد على أن شعرية الشاعر تتأسس على دينامية القوافي وسحرها وإيقاعها المموسق الذي يتواشج مع نسق الصور الشعرية المؤسسة للحراك الجمالي ،أـي اللعبة الشعرية لعبة حيزات تفاعلية على مستوى الأنساق المتضافرة لتحقق قيمها الجمالية، إذ إن الشاعر ينتقل من رؤية إلى رؤية ومن دلالة إلى دلالة، تبعاً للمتغير الأسلوبي الجمالي الذي تشكله القصيدة في تكوين إيقاعها الجمالي من حيث تكثيف الدلالات ،وإظهار الأنساق التفاعلية المتواشجة على مستوى حراك البنى وإظهار المتحولات الجمالية، ولعل أول ما تثيرنا الأنساق الشعرية بهذه التوليفية الإيقاعية المموسقة من حيث التكثيف والإيحاء ، والتشكيل الإبداعي المتناغم، كما في الأنساق التالية:[ براري الشتاء= موطن من نداء= مكسورة كالنداء= طيوف الرجاء= مهب العراء= ثري الضياء]؛وهذا الأسلوب التشكيلي الذي اعتمده الشاعر حرك الأنساق الجمالية في القصيدة لتعبر عن إحساس الأسى والانكسار وحالة القيدية والانحسار الشعوري دلالة هيمنة المعشوق على ذات العاشق حتى التملك التام ، أي توحد العاشق في المعشوق حد الذوبان والوله المطلق، وهذه المناجاة الصوفية المفعمة بالأحاسيس والرؤى الدالة تدلل على شعرية البث الوجدي المفعم رقة وصبابة لاسيما في القفلة النصية:[ غريبانِ تغتالنا الأغنيات/ويبكي ، حبيبي ، علينا البكاءْ]؛ فهذا البث الوجدي المفعم صبابة وولهاً بالنثى يدلل على حرفنة جمالية في الانتقال من نسق شعري إلى آخر محققاً قيمة جمالية ،وهذا دليل أن الشعرية الحقيقية شعرية لغة وقلقلة للإسنادات البسيطة الساذجة ليحقق الشاعر قيمة جمالية في الترسيم الجمالي في تشكيل الصور وخلق متغيرها الجمالي.
والتساؤل المهم : ماهي أهم القيم الجمالية التي تمتاز قصائد الياسين على المستوى المشهدي؟ وهل ثمة قيم بؤرية تثير الشعرية من العمق؟ وهل من مؤثرات إبداعية تحققها قصائده على مستوى المقاطع الجزئية وصولاً إلى الرؤية النصية الكلية التي تطرحها هذه المقاطع على المستوى النصي؟
لو دققنا في مثيرات الصور الشعرية ومحفزاتها لأدركنا أن الشاعر يطالع برؤية نصية تثبت قدراتها على مستوى الجزء ، كما في قوله:
[غريبانِ تغتالنا الأغنيات
ويبكي ، حبيبي ، علينا البكاءْ] فالبكاء يبكي هذه الصورة جدلية وتملك مؤشرها الجمالي من خلال فعل الاغتيال والمفارقة الحادة في الدلالة بين “البكاء/ والاغنيات”،وكأن أغنياته المفرحة قد تحولت إلى دموع، وبكاء ،حتى أن البكاء ذاته حن لذات الشاعر فذرف الدموع حزناً عليه،وعلى محبوبته،فهذه التحليقات والتوثبات الجمالية يرافقها بعض الاتضاع الأسلوبي أحياناً من خلال الصورة التالية:[ تحتلني صرخة في الهواء]،هذه الصور تملك من الضعف والانهيار ما أدى إلى اتضاع الرؤية في نسقين متتالين:[ وتسكنني حيرةُ الأنبياءْ]،و[وألقت بنا في مهبّ العراءْ]، من يطلع على هذه النساق يلحظ هشاشتها وضعفها وانهيارها مقارنة بالتوثبات التشكيلية الخلاقة التي نلحظه في قوله:[ وأرجع مكسورةً كالنداء]،و [أعلّلني بطيوف الرجاءْ]،و[وننشُدُ برقاً ثريّ الضياءْ]، هنا نلحظ حنكة الشاعر في الوقوف على التشكيلات التصويرية والقفلات التقفوية البراقة التي تحلق بالأنساق الشعرية المنهارة التي تشكلها القصيدة ليؤكد لنا أن الشعرية خلق أنساق جمالية تشكلها الجملة في نسقها لتحقق أقصى درجات الاستثارة والجمالية في النسق الشعري الذي تثيره.فالشعرية لدى الشاعر ابراهيم عباس ياسين ترتقي فجأة وتهبط ،وكأن الجملة الشعرية لديه متراوحة بين الاستثارة والحنكة الجمالية حيناً والانهيار والضعف والانكسار حيناً آخر،لأن الشاعر مسكون بالحالة الشعرية أو الشعورية دون أن ينفك عنها.
وبتصورنا: إن سبب هذا الانزياح والانزلاق جمالياً من نسق شعري إلى آخر انشغال الشاعر بوقع الحالة الشعورية على حساب الترسيم الجمالي في تشكيل الصور الشعرية للارتقاء من نسق جمالي إلى آخر، فالانهيارات التي اعتمدتها القصيدة كأرضية للانبثاقات الجمالية لم تشفع للشاعر في إبراز شعرية الرؤيا في القصيدة، والقصيدة بحاجة إلى تعديل وتشذيب وتغيير الكثير من الأنساق الهشة التي تدلل على انقياد الشاعر لوقع الحالة وانهيارها مما أضعف النسق الشعري لاسيما في القفلات اللاموفقة التي أشرنا إليها.
ولو تقدمنا أكثر في المقاطع الشعرية التي تشكلها القصيدة لتفحص مصادر الجمالية ومؤثراتها الفنية في المقاطع الشعرية لتوقفنا على أهم مفاصلها الإبداعية من صور ورموز صوفية واستغراق في اللقطات المشهدية المكثفة

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!