بقلم الدكتور صالح الطائي
تعطينا القراءة العامة لرواية “يمامة بغداد” للأديب الحقوقي شلال عنوز ملخصا بنيويا سريعا، ممكن أن نستخلص منه محصلة مفادها أن النص بمجمله لا يعمل كسرد تقليدي قائم على حبكة خطية مفصَّلة؛ بل هو أقرب إلى تيارٍ وعي داخلي، وسردٍ متقطّع، حيث هناك فقرات تأملية، ومحاور لغوية متكررة، وانتقالات زمنية ومكانية قد تبدو ضبابية، وإيقاعات دورانية في اللغة. وبرأيي أن اجتماع هذه الصور في النص يجعله أقرب إلى نصِّ تجربة وجدانية أو حالة نفسية وجودية أكثر من كونه رواية أحداثية بحتة.
والرواية الأحادثية هي النمط الكلاسيكي من الرواية الذي يقوم على تتابع الأحداث (plot-driven novel). ويُبنى النص فيها حول حبكة واضحة، فيها بداية، وعقدة، وذروة، ثم حلّ.
أما الشخصيات فتتحرك بدوافع درامية، وغالبًا ما تتحدد ملامحها من خلال أفعالها في مسار الأحداث. والأحداث الخارجية في الرواية هي ما يقود السرد إلى الأمام.
وتنماز الرواية الأحداثية أن الزمن خطّي نسبيٌ، هناك ماضٍ وحاضر ومستقبل واضح المعالم.
أما أحداثها فتكون مركزية، وما يهم القارئ لمثل هذا النوع من الروايات هو: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ أما الإيقاع خارجي فتحكمه تعاقبات الفعل والصراع، وليس بالضرورة النبض الداخلي للشخصية أو اللغة. وقبالتها هناك الرواية التجريبية الداخلية. ووفقا لهذا المعيار أرى رواية حمامة بغداد ليست “أحداثية”، لأنها لا تعتمد على حبكة ولا على صراع خارجي، بل على تيار وعي وإيقاع داخلي.
بينما نجد صور الرواية الأحداثية مثلا في البؤساء لفيكتور هوغو، الحرب والسلام لتولستوي حيث التركيز على حركة المجتمع والشخصيات والأحداث الكبرى. ومن امثلة الروايات غير الأحداثية/تجريبية: عوليس لجيمس جويس، والبحث عن الزمن المفقود لبروست.
ويمكن رؤية ذلك وتشخيصه في مقاطع يتخلّلها تعدد الصور الذهنية والتكرار والإيقاع الداخلي الموجودة في رواية حمامة بغداد.
كما يمكن متابعة الإيقاع الداخلي من زوايا أدبية وصوفية وفلسفية، إذ يمكن متابعته من زاوية أدبية من خلال النظر إلى عدة جوانب من الرواية، مثل:
تكرار العبارات، فالكاتب كرر صورا وتراكيب بعينها، لكن هذا التكرار لم يعمل كحشو، بل كجرسٍ داخلي يذكّر القارئ بالمناخ الشعوري المسيطر على النص. وهذا شبيه بالقصيدة أكثر منه بالسرد الروائي، وسببه أن السارد هو شاعر أيضا.
تقطيع الجمل، فاستخدام الجمل القصيرة والمتقطّعة ثم الانزلاق إلى جمل أطول يعكس حركة النفس، وكأنه زفرة، ثم مدّ في التنفّس. وهذا يخلق ما يشبه النبض في النص، يعطيه حيوية.
وقد تسبب غياب العلامات الزمنية الدقيقة بدلاً من التعاقب التقليدي في تحديد مسار الرواية، فالسارد اعتمد على إيقاع ذهني/عاطفي كموجات صعود وهبوط.
كما يمكن متابعة الإيقاع الداخلي من زاوية صوفية فالتكرار الإيقاعي للصور أو الكلمات في الرواية يحاكي تجربة الذكر الصوفي؛ فالهدف ليس التقدم في الأحداث، بل الغوص أعمق في الحالة. وقد عرض النص مقاطع من الاسترسال تليها لحظات صمت أو فراغ دلالي، وكأنها أنفاس السالك في طريقه: بسط/قبض، حضور/غياب.
ومن ملامح التصوف في النص أنه لا يبدأ من نقطة ليصل إلى أخرى، بل يدور حول مركز شعوري روحي، وهذا الدوران هو جوهر التجربة الصوفية حيث الدوران حول المحبوب أو حول الحقيقة.
الإيقاع الداخلي نفسه يمكن متابعته من زاوية فلسفية
فالإيقاع الداخلي للنص كشف كيف يُعاش الزمن داخل الذات. الزمن هنا ليس تقويمًا خارجيًا، بل خبرة داخلية تتشكل من التكرار والانقطاع.
أما الإيقاع المتولّد من تكرار عجز اللغة أو إعادة المحاولة فهو برأيي نوع من حوار مع حدود القول، وكأن النص يذكّر القارئ في كل مقطع أن التجربة أعمق من اللغة. وهناك بعض الفلاسفة مثل الفيلسوف الفرنسي هنري مالديناي (1912–2013) يرون أن الإيقاع ليس مجرد زخرفة، بل هو طريقة في الوجود؛ والرواية بهذا المعنى تُظهر الوجود نفسه كإيقاع ينم عن توتر ثم انفراج.
أما شخصيات الرواية فقد بدت عبر نبرة الراوي الداخلي أو عبر لقطات ذهنية وكأنها كادت أن تكون رمزية، بدلاً من بناء درامي متقدّم. وهذا يجعل النص فضاءً منفتحا على التّجربة والوعي وهما الحدثان الرئيسيان يعتبران عنصرا قوة في أي عمل أدبي شعرا كان أم نثرا.
من حيث الأسلوب والبناء، وجدت النص مترعا بنقاط قوة أسلوبية واضحة. فمن حيث التجريب اللغوي والإيقاع استخدم الكاتب منهج إعادة تشكيل الجمل: قطعاً إنشائية، وتكراراً إيقاعياً يخلق رنة تأملية، يحتاج إليها العمل الرصين. والمعروف أن مثل هذه الوسائل تعمل على نقل حالة داخلية أكثر من كونها مجرد سرد حدثي. وقد بدأت هذه الحالة تتكرر عند كثير من الأدباء العراقيين مؤخرا وكأنها تنم عن انعكاسات الواقع، فالواقع الذي يعيشه الأديب والكاتب ينعكس على مخرجات تفكيره.
غير ذلك هناك في الرواية العديد من الصور الحسية والرمزية، إذ توجد مشاهد وصور لا تعتمد على وصف خارجي فحسب، بل تستدعي حسّ القارئ داخلياً من خلال تقطّعات، ظلال، سكون، ضجيج داخلي
ولذا تجد كثيرا من المقطوعات تبدو كحوارٍ مع اللغة نفسها، وكأنها محاولة لالتقاط ما عجز اللفظ عن التعبير عنه. وهذا الأسلوب يعطي أعمالاً شاعرية ضمن نص روائي، ويكثر استخدامه عادة لدى كتاب الرواية الشعراء، والمعروف عن الأستاذ شلال أنه شاعر وروائي ولذا لا غرابة ان تجد ذلك في سردياته.
لكن بالرغم من ذلك هناك نقاط أسلوبية لا أقول عنها ضعيفة بل تحتاج اهتماماً بسيطا لترقى إلى مستوى الرسوخ، منها غياب علامات قطع واضحة، وهي الأدوات النصية التي يستخدمها الكاتب ليُشعر القارئ أن هناك انتقالًا أو فاصلًا بين مشهد وآخر، أو بين فكرة وأخرى. ومن دون هذه العلامات، قد يبدو النص متدفقًا بلا توقف فيُحدث ارباكًا عند القارئ.
وهي أنواع، منها: علامات طباعية، مثل الفراغات البيضاء (white space). أو النجوم أو النقاط مثل ….، أو الشرطات مثل ـ كفواصل. وتقسيم النص إلى فقرات قصيرة.
اما من حيث العلامات السردية، فهناك إدخال جملة زمنية مثلا: بعد يومين، أو مكانية مثل في غرفة أخرى.
وهناك علامات أسلوبية، مثل استخدام التكرار كفاصل مثلاً: “سكت… ثم سكت…”).
والانتقال من وصف خارجي إلى داخلي أو العكس.
دور هذه النقاط في الرواية الأحداثية أنها تأتي كعلامات قطع تنظّم الحبكة (كل فصل مشهد، كل مشهد له بداية ونهاية).
أما في الرواية التجريبية أو الصوفية فقد يغيب هذا النظام، لكن غيابه التام يجعل القارئ يضيع، لذا يحتاج النص إلى بعضها كي يخلق إيقاعًا متوازنًا: بين التدفق والانقطاع.
ونجد في “حمامة بغداد” أنها مليئة بتيار وعي وجمل متتابعة، لكنها تفتقر أحيانًا إلى علامات قطع واضحة. وبالنتيجة لا يعرف القارئ هل انتهى المشهد وانتقلنا إلى آخر؟ وهل هذا صوت الشخصية أم صوت الراوي؟ وهل نحن في لحظة زمنية جديدة أم في استرسال لما سبق؟
ومن علامات القطع دلائل زمنية (Time Markers)، وهي الإشارات أو العلامات التي يضعها الكاتب داخل النص لتحديد موضع القارئ في الزمن ليبين له متى جرت الأحداث؟ وهل هناك انتقال بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ وكم مضى من الوقت بين مشهد وآخر؟
ودورها في الرواية الأحداثية أن الدلائل الزمنية أساسية لأنها تربط تسلسل الأحداث وتوضح منطقها.
وفي الرواية التجريبية/الصوفية: قد تُهمَّش هذه الدلائل لصالح التركيز على الزمن الداخلي (شعور الشخصية بالوقت). لكن حتى هنا يحتاج القارئ إلى إشارات قليلة كي لا يضيع.
ونجد نص حمامة بغداد يفتقر أحيانًا إلى هذه الدلائل، فيبدو وكأنه تيار واحد بلا زمن محدد. النتيجة أن القارئ يشعر أنه في “فراغ زمني” لا يعرف إن كان لا يزال في اللحظة نفسها أم انتقل إلى أخرى.
مثلًا: ينتقل النص من صورة وجدانية إلى أخرى من غير جملة فاصلة تشير إلى انقضاء وقت أو تغيّر سياق. وهذا الغياب وإن كان يزيد الطابع الصوفي في الرواية من حيث الزمن دائري، بلا بداية ونهاية، لكنه يُضعِفُ إمكان القراءة السردية المنظمة. مشكلة تهميش الدلائل أنها تجعل القارئ يفقد نقطة ارتكازه؛ وهذا يعني أن النص يحتاج في بعض فصوله إلى مشدّات (anchors) سردية، والمشدّ السردي عنصر يزرعه الكاتب في النص ليعطي القارئ نقطة ارتكاز، مثل حبل يمسكه وسط بحر من التيار اللغوي أو الوجداني. وبدون هذه المشدّات، سوف يشعر القارئ أنه يسبح في نص مفتوح بلا علامات هداية. والمعروف ان هناك مشدّات زمنية تعطي إحساسا بالحركة الزمنية وتُحدّد موقع القارئ. ومشدّات مكانية فحتى لو كان النص صوفيا أو داخليا، فإن تحديد المكان يمنح ثباتا. ومشدّات شخصانية أي ضرورة العودة
المتكررة إلى شخصية أو رمز مركزي (الأم، الشيخ، الحبيب)، وهي حتى وإن اختفت الحبكة من الرواية، فإن مجرد وجود شخصية مرجعية يخلق انسجاما. ومشدّات لغوية/رمزية أي وجوب استخدام صورة متكررة (القمر، النهر، الباب المغلق) كرمز مرجعين ففي مثل هذه الحالة سوف يشعر القارئ بالاستقرار كلما عاد إليه.
يعني ما تقدم أن وظيفة المشدات أنها تحافظ على اتزان المتلقي وتخلق لديه توازنًا بين الحرية التجريبية والفهم الممكن. أما النص فتمنحه إيقاعًا دائريًا حيث يعود القارئ إلى نقطة مألوفة بين حين وآخر. واجد في “يمامة بغداد” أن نصها يعتمد كثيرا على تيار وعي ولغة متدفقة، لكنه يفتقر أحيانا إلى مشدّات سردية، مما يجعل القارئ غير متيقّن فيما إذا سينتقل إلى مشهد جديد، أو ان الراوي هو من يتحدث أم غيره، وهل الفقرة التي يقف عندها استرجاع أم متابعة للآن؟
ومن علامات القطع الدلائل المكانية، ونحن عندما نتحدث عن الدلائل المكانية في علامات القطع في سياق الرواية أو النص الأدبي، ففي الواقع نتعامل مع وسائل السرد التي يستخدمها الكاتب لتحديد الانتقال بين مشاهد أو أماكن مختلفة، أي اللحظات التي يشعر فيها القارئ بأننا انتقلنا من مكان إلى آخر أو من حدث إلى حدث آخر.
أعود وأقول: إن علامات القطع (Cuts) هي إشارات سردية أو نصية تدل على نهاية مشهد أو فصل، وبداية مشهد جديد.ويمكن أن تكون إشارات مباشرة: كلمات مثل “وفي مكان آخر…” أو “لاحقًا…”
أو إشارات ضمنية: فجوة في النص، سطر فارغ، أو تغير مفاجئ في المشهد أو الشخصيات.
وتنحصر وظيفتها في تفصل الأحداث، لتسهل على القارئ متابعة الزمن والمكان. فضلا عن كونها تمنح النص إيقاعًا داخليًا، أي شعورًا بتنفس القصة بين المشاهد. ومن بينها الدلائل المكانية (Spatial Cues)، وهي مؤشرات تساعد القارئ على تحديد المكان الذي يحدث فيه الحدث: “في حديقة المنزل”، “على رصيف الشارع”، “داخل القصر القديم”.
وتكون أحيانًا تكون رمزية كقولنا: “في صحراء الروح”، أي ليس مكانًا حقيقيًا بل شعوريًا أو رمزيًا. وهي تمنح النص وضوحًا مكانيًا. وتساعد على توجيه المشهد في ذهن القارئ، وربطه بالشخصيات والأحداث.
والمعروف انه في الروايات التجريبية أو التي تستخدم تيار الوعي، قد تكون هذه الدلائل ضبابية، لكنها ما زالت تمنح القارئ إحساسًا بالانتقال المكاني.
وأسلوبيا توضح علامات القطع أننا ننتقل الآن إلى مشهد جديد أو زمن جديد. لكن الدلائل المكانية تقول: “هذا المشهد يحدث هنا بالضبط، في هذا المكان”.
وهذا يشكّل خريطة زمنية ومكانية في النص، تجعل القارئ قادرًا على متابعة الأحداث دون ضياع.
وبالتالي أرى أن علامات القطع تدل على توقف أو انتقال، والدلائل المكانية تحدد المكان الذي يحدث فيه الحدث. وفي النصوص الحديثة أو التجريبية، يمكن أن يكون الانتقال سريعًا أو مشوشًا، لكن وجود هذه الأدوات يمنح الرواية إيقاعًا داخليًا واضحًا ومكانًا في الوعي الذهني للقارئ.
عدم الاهتمام بعلامات القطع لا يتسبب في تشتت رأي التلقي فحسب وإنما يذهب لأبعد من ذلك
ليتجاوز الشعور بعدم التركيز.
من هنا أرى أن رواية (يمامة بغداد) تحتوي على ضوضاء نصية ممثلة بوجود أخطاء أو رموز متكررة مما يؤثر على القراءة ويُقلّل من إمكانية أخذ أمثلة حرفية واضحة دون تصحيح النص. وسبب ذلك برأيي أننا نحن العراقيين جميعنا نكتب ولا نجد من يتطوع ليراجع لنا ما كتبنا مراجعة تحريرية قبل النشر، أنا مثلا حتى بعد أن أصدرت (91) كتابا بعضها بجزئين أو أكثر لا زلت أعاني من هذا (الإحباط) غير المقصود الذي يوقعني بمشاكل كثيرة. لكن ذلك لا يعني بالمرة أن رواية “يمامة بغداد” تفتقر إلى الحبكة وحسن الصناعة فهي واحدة من قلة من الروايات التي شدتني إليها فلم أغادرها غلا بعد ان طويت صفحتها الأخيرة وانا مفعم بمشاعر غريبة تحتاج لوحدها إلى مقال طويل لشرحها أو تصويرها في الأقل. وقد تكون هي السبب الذي حدا بي لأنتبه على الجانبين الصوفي والفلسفي في الرواية؟
لهذا السبب سعيت وراء قراءة صوفية، أو تأويل صوفي للنص، فأنا ومن خلال التجربة بت موقنا أنه حتى عندما لا ينطق النص بمصطلحات صوفية صريحة، فلابد وأن هناك ما يؤهّله لقراءة صوفية معتبرة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قراءة النص، أي نص بتقنيات التأويل الصوفي لا تتطلّب وجود مرجع صوفي صريح؛ إذ يكفي متابعة صور الفقد، النفي، الصمت، والاندماج اللغوي الواردة فيه كعلامات طريفة لقراءة صوفية معرفية.
وقد وجدت في هذا العمل محاولة للمسير إلى الداخل، فالنص يفضّل المنعطف الداخلي على الحدث الخارجي؛ وهذه بنية محورية في التصوّف، فالمدونات الصوفية تتحدث دائما عن السير إلى الذات، وعن القلب كطريق للوصل.
هناك في الرواية عدّة مقاطع تُظهر سعيّاً نحو “سكون” وعيّ لا يتكلم إلاّ بلغة النفي أو الهمس، وهو ما يمكن قراءته كمرادف لصيرورة الفناء في الذات أو ما يسميه المتصوفة “فناء الأنانيّة” كأساس للوصول. وهي فكرة صوفية وفلسفية متجذرة في روحانية الطرق الصوفية، فالأنانية هنا تعني التركيز على الذات الفردية، أو الغرق في الأنا والمصالح الشخصية الضيقة. والفناء لا يعني الموت الجسدي، بل تجاوز الأنا أو الذات الفردية الضيقة.
ويُستخدم مصطلح “الفناء في الله” (الفناء في المحبوب) في التصوف ليشير إلى ذوبان الأنا في الحب الإلهي، بحيث يصبح كل شعورنا وتصرفاتنا انعكاسًا للحقيقة الكبرى وليس للذات. والمصطلح بمجموعه يتخذ أساسا للوصول، الوصول إلى الحقيقة الروحية، أو الاتحاد بالروح الإلهية، أو حالة الصفاء الداخلي. فالفناء في الأنانية هو الشرط الأول للتجربة الصوفية الحقيقية، ولا يمكن للروح أن ترى الحقيقة إذا بقيت محصورة في رغبات الأنا. وقد ترجموه بقولهم: “حين ذاب الأنا في ضوء المحبوب، صار كل نسيم وصمت، نورًا في قلبي.”
أي: فناء الأنانية يؤدي إلى التجلي والاتحاد الروحي.
وهي فكرة يمكن توظيفها في النقد الأدبي، لاسيماعند قراءة نصوص تتناول الوعي الداخلي والتحول النفسي كالشخصيات التي تتجاوز مصالحها الضيقة تصل إلى حكمة أعلى.
وفي التصوّف، كثيراً ما يُستخدم النفي والسكوت واللاقول كطريقة للوصول إلى الحقيقة من خلال التجرد من الصور. وقد استثمر النص صيغاً لغوية تقرب من هذه التجربة في إشاراته إلى الكتابة عن حدود اللغة، وعن عجز الوصف، وعن العودة إلى حالة ما تتجاوز الكلمات. وقد تكرر حضور هذا التوجه في الفقرات التي تبدو كمحاولة لأن تقول ما لا يقال.
ويسعى المتصوفة من أجل تزكية النفس إلى حالة من التشابك بين الشوق والمعرفة، وقد وجدتُ النص ينجذب إلى لحظات الشوق والافتقـاد، وهي حالة أساسية في الخطاب الصوفي مثل: الشّوق إلى الحبيب الإلهي، أو الشوق إلى حقيقة ما. ويمكن للقارئ النبه قراءة بعض الصور والإيقاعات التي وردت في النص على أنها تصوير للشوق كحافز للبحث الداخلي.
أما من حيث القراءة الفلسفية للنص، والبحث فيه عن أسئلة وجودية، فلا أراها تختلف كثيرا عن دراسة النص صوفيا؛ من خلال الإشارات الشاردة والواردة فيه، فلا يوجد ـ برأيي ـ نص خال من إشارات فلسفية بعضها بسيط للغاية، لا يراه ويشخصه سوى المتخصص الحاذق، وبعضها عميق جدا، مكشوف للجميع. من هنا يمكن تناول نص حمامة بغداد عبر عدسات فلسفية عدة؛ للتبسيط يمكن اختزالها بمسارين أساسيين:
المسار الأول: الوجود والذات، فالنص بمجمله يؤسّس لتجربة وجودية، حيث يعاد تركيب الذات عبر الذكر والذاكرة واللغة. في النص ظلت الأسئلة حول: “ماذا يعني أن أكون هنا/الآن؟” حاضرة في هيئة فقرات تأملية تتساءل عن حدود القول، وعن التجربة المباشرة للوجود. وهذا بحد ذاته كاف ليفتح الباب لربط النص بالفينومينولوجيا أي قراءة الخبرة الحيّة كما تُعاش في النص، وتأمل في الوعي والوضع العالم للذات.
إن الفينومينولوجيا (Phenomenology) “الظاهراتية” تيار فلسفي حديث أسسه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل مطلع القرن العشرين، ثم طوره عدد من كبار الفلاسفة مثل هايدغر، سارتر، ميرلو- بونتي وغيرهم. وهي في جوهرها محاولة للعودة إلى الخبرة المباشرة للوعي، أي دراسة الأشياء كما تظهر لنا قبل أن نفسرها أو نعللها أو نضعها ضمن أنساق علمية أو ميتافيزيقية، وبمعنى أكثر تخصيصا هي ليست دراسة “ما هو الشيء في ذاته”، بل “كيف يظهر الشيء لنا في وعينا”.
من هنا نجدها تعتمد الردّ، أي: تعليق كل الأحكام المسبقة والتصورات الجاهزة عن العالم، لننظر إلى الظاهرة كما هي معطاة. والقصدية أي الوعي الدائم، وعي بشيء ما، فكل تجربة شعورية لابد وان تكون متجهة نحو موضوع. والماهية فهدفها ليس وصف الظواهر السطحية فقط، وإنما الوصول إلى بنيتها الجوهرية أو معناها العميق كما يُعطى في التجربة. وقد وظفت في مجالات عديدة مثل الفلسفة الوجودية كما هي عند سارتر، هايدغر. والفلسفة الصوفية الحديثة كما هي عند هنري مالديناي؛ الذي طبقها على التجربة الروحية. وعلم الاجتماع كما هي عند شوتز. وحتى في علم النفس والتحليل العلاجي. فضلا عن الأدب والنقد الأدبي، إذ يستخدمها النقاد في تحليل النصوص باعتبارها خبرة معاشة للقارئ أو للكاتب. وباختصار هي فن الإنصات إلى التجربة كما تُعطى للوعي، قبل أن نلوّنها بنظريات أو أحكام جاهزة.
المسار الثاني: اللغة وحدودها، فالنص تُختبر فيه حدود اللغة كأداة للمعرفة؛ طالما أن هناك الكثير من الجمل تعمل كخط أو نقش عشوائي على نافذة الفكر في محاولة لكتابة ما لا يُكتب.
فلسفياً، وهذه القراءة تُقرب النص من مناخات التفكير في “اللاتمكن للغة” والمقاربة السلبية والمنهج التنزيهي، أو ما يعرف بالأسماء النافية في اللاهوت السلبي، وكذلك من مسائل نظرية اللغة والعجز التأصيلي.
ومن نقاط القوة التي أفرزها النص فلسفيا هي انضوائه على مخاطبة مباشرة للعمق الوجودي والوجداني؛ فهو نص يؤسس لحالة شعورية قوية تُشعر القارئ بأنه في مكان داخلي. فضلا عن الشجاعة التجريبية في اللغة والتركيب السردي.
لكن تشويش النص الناتج عن الرقمنة وضعف التحرير عرقل القراءة الأكاديمية؛ مما يستدعي بل يوجب ضرورة تنقيح نصي للرواية في طبعتها الثانية لتجاوز هذه المحنة التي نعاني منها جميعنا.
أقول هذا مع أني أجد في بعض المواضع أن الإيحاء المبالغ فيه يصبح حاجزاً، فينتج عنه إحباط معرفي للقارئ الذي يحتاج إلى نقاط ارتكاز أو تواتر شخصيّات/حكايات/ أحداث.
من هنا أرى أن إمكانية تحويل النص إلى موضوع نقدي/أكاديمي مفيد ولكن ذلك يعتمد على تنقيح نصي وتحجيم/توضيح بعض الأماكن التي تُفقد القارئ تماسكه من حيث الرقمنة والصياغة،
فإذا تجاوزت الرواية هذه المطبات البسيطة ممكن أن تكون واحدة من الروايات العراقية المهمة.
واختصارا للآراء الواردة في دراستي النقدية هذه، اقتبست من وسط الرواية قول: “بدأت تشعر بأنها تريد أن تعرف أسباب تغيب سامر، وفي الوقت ذاته تسأل نفسها: لم أهتم لوجوده أو عدمه؟ لم أراني أفتقده؟”
ومن خلال تفكيك النص من الناحية الفلسفية سنواجه سؤالًا عن اللامبالاة الوجودية، البطلة تتساءل عن غياب شخص يفترض أن يكون له معنى في حياتها، لكنها في الوقت نفسه تكتشف أن حضوره أو غيابه سواء. وهذا يعكس لحظة تفكك المعنى، وهي حالة وجودية معروفة في الفلسفة الحديثة ولاسيما عند الوجوديين مثل سارتر، وكامو، حيث يُسقط الفرد قيمة الآخر ويواجه خواء العلاقات. لكن الأسئلة في النص جاءت أقرب إلى خواطر يومية عابرة لا إلى تأمل فلسفي معمق، وهي بذلك تكشف فراغا أكثر مما تُنتج معنى.
ولم أجد في هذا المقطع أفقا صوفيا إذ أن غياب العاطفة أو الفقد هنا ليس زهدا روحيا ولا فناءً في المطلق، بل هو أقرب إلى جفاف وجداني أو برود نفسي. وبمعنى آخر، بينما النص الصوفي يقرأ الوجود من خلال الارتقاء، فإن هذا المقطع يقرأ العلاقة من خلال اللامبالاة، وهو أبعد ما يكون عن الوهج الصوفي، لكن النص أدى وظيفة درامية.
واقتبست من الصفحة الأخيرة من الرواية قول: “حين انزلها باسم إلى مرقدها الأخير، راحت السماء تشرب صحوها، غمامة بيضاء تقترب وأخرى كثيفة تعانق الأفق الماطر، ثمة رياح شفيفة تهب من جهة الشمال، تهتز أغصان شجرة السدر معلنة مراسيم التوديع، تنظر اليمامة إلى ذلك الطير الجميل الذي كان يحلق فوقها، ينشغل طاهر بحركاتها الغريبة مبهورا، اقترب الطير منها، أطلقت آخر نوبة من هديل، ثم رفرفت بجناحيها وطارت نحو ذلك الطائر الفاقع البياض، تلاقيا، حلقا عاليا، غابا بعيدا يسابقان المدى في كبد الفضاء”.
فوجدته نصا يحمل في طيّاته شحنة رمزية وشاعرية عالية، وهو جدير بتحليل صوفي وفلسفي عميق، ولاسيما إذا أردنا أن نرى إن كان هذا الختام يرفع الرواية إلى مستوى الرمز المتين، أو يتركها في دائرة التفاهة والزينة البلاغية.
إن التحليل الصوفي ممكن ان يفك رمزية النص المقتبس، فاليمامة جاءت هنا كرمز للروح، الطائر هنا هو تجسيد للروح الإنسانية، والرحيل ليس موتا بالمعنى الجسدي بل تحررا من القيد الأرضي. “أطلقت آخر نوبة من هديل” ليست مجرد علامة احتضار، بل إعلان الدخول في سكونٍ سرمدي هو أقرب إلى “الفناء” الصوفي.
أما الطائر الأبيض فهو في المخيال الصوفي، رمز للبياض، والبياض رمز للنقاء والوصال الإلهي. أما تلاقي اليمامة مع الطائر الأبيض فيعكس لحظة الاتحاد، أو مثلما يسميه المتصوفة وحدة العاشق والمعشوق، أو اتحاد النفس بالحقيقة. أما الأفق الماطر والرياح الشفيفة فهي عناصر مناخية تقليدية نجد الكثير منها في النصوص الصوفية، وهي تُستحضر لتأكيد أن الكون بأسره يشهد لحظة “العبور”، وكأن الطبيعة كلها تشارك في الطقس الكوني للوصال.
من هنا أرى أن المشهد يمكن قراءته كتجسيد لمفهوم الموت العرفاني حيث تنعتق الروح من سجن التراب لتلتحق بالطائر النوراني الذي يمثل الكمال والحقيقة العليا.
أما التحليل الفلسفي فيسعى إلى فك طلاسم الجدلية بين الجسد والروح، فمشهد الدفن يذكّر بفكرة أن الإنسان كائن مزدوج “جسد” ينتهي إلى التراب و”روح” تتوق إلى العلو. الرؤية الفلسفية هنا قريبة من رؤية أفلاطون حين شبّه النفس بالطائر السجين في قفص الجسد.
وقد جاء الصعود كرمز للمعنى، فالطيران نحو “المدى في كبد الفضاء” يشير إلى أن المعنى الإنساني الحقيقي لا يتحقق في الأرض، بل في تجاوز الأرض إلى ما هو أبعد، وهي برأيي دعوة فلسفية للبحث عن “المطلق” خارج حدود الزمن والمكان.
والنص بمجمله يُظهر كيف أن اللغة الروائية تستعير لغة شعرية/ميتافيزيقية لتفسير الموت. لكن فلسفيا يمكن التساؤل: هل هذا مجرد تزيين جمالي، أم محاولة حقيقية لإعطاء معنى لحدث الفناء؟
وللجواب أقول: إذا اعتبرنا أن الرواية بُنيت على تصاعد رمزي يقود منذ بدايتها نحو لحظة “التحليق الأخير”، فإن هذا الختام يمثل ذروة متماسكة تُثري الرواية وتمنحها بعدًا فلسفيا/ صوفيا عميقا. أما إذا كانت الرواية منسوجة أساسا بلغة سطحية أو أحداث لا ترقى إلى الرمزية، فإن هذا المشهد سيكون مجرد زخرف بلاغي، يبدو متفوقا على جسد النص، لكنه غير مندمج في بنائه الكلي، وبالتالي يفضح “التفاهة” أكثر مما ينقذها.
وقد أثبت التحليل والتفكيك الصوفي الفلسفي أن هذا المقطع بحد ذاته غني وصوفي وفلسفي وعميق، لكنه وهو ليس تاج الرواية إذ أنه انسجم مع مسارها العام، ولم يكن قناعا منمّقا يخفي فراغها. ذلك لأنه لم يأتِ معزولًا عن سياقها السردي والفكري العام.
يذكر أن رواية يمامة بغداد صدرت بتاريخ 2025 عن دار السرد للطباعة والنشر البغدادية بحلة قشيبة وإخراج جميل، تزين غلافها لوحة رائعة للفنان علي عبد الكريم، وهي رواية جديرة بالقراءة.