لصحيفة آفاق حرة
قراءة في رواية: حاكم – حنون ابن الهيثم.
الكاتب : د . يوسف زيدان.
الناشر: بوك فاليو.
ط١ ، ب د ف. ٢٠٢٢م.
د . يوسف زيدان روائي ومفكر مهم جدا، له العديد من المؤلفات، واغلبها ينصب على استقراء التاريخ وإعادة إنتاجه بحيث يخدم معرفته من جانب، والدروس والعبر المستوحاة منه من جانب آخر. طبعا كما يراه هو.
حاكم – جنون ابن الهيثم رواية يوسف زيدان الجديدة، الطويلة نسبيا. تحاول أن تطل على الواقع المعاصر ولو بشكل عابر لكن مركّز، في مصر من خلال أحد أبطال روايته راضي الشاب الصعيدي من بلدة أولاد عمرو. ومن ثم تتابع مسار الرواية من خلال اكتشاف مخطوط يغوص في تاريخ مصر في عصر الحكام الفاطميين المعز والعزيز والمنصور الحاكم بأمر الله. متضمنا كذلك الحديث عن العالم الموسوعي ابن الهيثم. في حبكة يتداخل فيها الخاص بالعام. شأن الدولة بحياة الناس، الحب والحرب والحكم وما يعنيه من بطش وجبروت. لنعيش ونحن نقرأ الرواية في ذلك الزمان ومع شخوصه. ننتمي لطرف ونرفض فعل طرف، وننتصر اخيرا للمعرفة الثرّة التي نحصل عليها.
تبدأ الرواية من راضي الذي ينتمي الى بلدة أولاد عمرو الصعيدية، وهو ينتسب الى عمرو بن العاص الذي فتح مصر ايام توسع نشر الاسلام في ارجاء العالم. ارسله والده الى القاهرة، طالبا منه أن يتابع دراسته وأن يجد له فرصة عيش أفضل بعدما أصبحت الزراعة في الصعيد لا تطعم اهلها، ويكون كأحد جدوده الذي كان قاضيا في فترة سابقة. ذهب إلى القاهرة تواصل مع بلدياته، أمّن لنفسه مسكنا متواضعا. وبدأ بالذهاب للجامعة لمتابعة دراسته مختصا في المخطوطات. تعرف هناك على أمنية الفتاة التي أحبها وأحبته بعد ذلك. أمنية فتاة متميزة تحمل افكارا مختلفة عن المألوف، والدها يحمل شهادة عالية حيث درس في إنجلترا. وتأثر بأفكار استاذه، أنكر الإيمان بالأديان السماوية وآمن بالغنوص وهي المعرفة المباشرة لروح الكون، نماذجها البوذية والفيثاغورية والهرمسية. اما الزرادشتية فهي عبادة النار، ويحصل الغنوص بالتأمل، له آليات متنوعة عند كل اعتقاد، وكلها تنتهي الى مجموعة من القواعد والضوابط الحياتية، يعتقد أصحابها أنها تؤمن لهم حياة أفضل. ارتبك راضي امام افكار أمنية حبيبته، وجعلته يعيد التفكير مجددا بالإسلام الذي يؤمن به وكل ما كان يحمل من أفكار. غير ذلك تابع راضي وأمنية مع استاذهما في الماجستير موضوع مخطوطات وجدت عن جد راضي في بلدته. واحضر صورة عن مخطوطة تتحدث عن فترة الحاكم بأمر الله الفاطمي وما قبلها وبعدها مغطية زمانا يصل الى أقل من مئة سنة تقريبا من عام ٣٥٠ هجرية إلى عام ٤٣٠هجرية.
ينتهي هذا الجزء من الرواية عندما تغادر امنية القاهرة لمتابعة منحة ماجستير في بريطانيا حصلت عليها بدعم من أصدقاء والدها، تترك راضي حبيبها مجروحا من تخليها عنه.
ثم تنتقل الرواية إلى المخطوطة:
تعود المخطوطة إلى منتصف القرن الرابع الهجري حيث زمن دخول الفاطميين الى مصر بعد أن وطدوا حكمهم في المغرب العربي. مدوّن المخطوطة مطيع السهمي يعود بنسبه إلى عمرو بن العاص. وهو يتحدث مبتدء من زمن جدّه وأهله وطفولته وشبابه حتى وفاته:
لقد كان الزمن الذي سبق دخول الفاطميين إلى مصر، زمن اضطرابات وصراع على الحكم وتسلط على العباد، حيث ضعفت الخلافة العباسية السنية، وانفصل عنها البويهيين الشيعة في بلاد فارس وما حولها. والحمدانيين في بلاد الشام ، وتوسع القرامطة من دولتهم في البحرين منتشرين في بلدان كثيرة مؤسسين دولتهم التي عاثت بالارض فسادا. هاجمت مواكب الحجاج قتلت ونهبت واستعبدت، وهاجمت الحرم المكي واستولت على الحجر الاسعد. وأصبح الحج مستحيلا لأعوام كثيرة. وصل ظلم وطغيان القرامطة حتى مصر ايضا. مصر التي توسع الفاطميين الإسماعيليين أحد فروع الشيعة باتجاهها، وسيطروا على الحكم فيها، كان من جملة من رحّب بالمعز لدين الله الذي فتح مصر من الفاطميين جدّ مطيع، كانت معاملة المعز لجد مطيع جيدة، فقد حفظ لهم انتسابهم لعمرو بن العاص، ودوره في التوسع الإسلامي، و اعاد اليهم حقوقهم وأملاكهم التي كانت قد صودرت ايام الحكام السابقين. وتحول الجد ليكون مستشارا مؤتمنا عند المعز. في هذه الفترة كان قد ولد مطيع، وكذلك ولد المنصور حفيد المعز لدين الله، وقبله ولدت أخته ست الملك التي تكبره بسبعة أعوام من أم مسيحية. تصرف الفاطميين الشيعة بعقل وتدبر، انصفوا أهل مصر السنة وكذلك رعوا مصالح المسيحيين الأقباط وعادت الحياة في مصر الى حالة الأمان والعمل والانتاج. في هذه الفترة نشأ مطيع في صحبة حفيد المعز مع طفل آخر و برعاية من أخته ست الملك. أما مطيع فقد نُكب بطفولته بغياب – خطفا او قتلا – امه وابيه بعد رحلة للحج لم يعودوا بعدها، وعاش في كنف جده مع ابنة عمه تمني التي تكبره بسبعة أعوام ايضا. تمني التي احبها مطيع وشغف بها. ولم يقبل الزواج الا بها. وبعد تمنع دام لسنوات رضيت بالزواج به. وانجبت منه بنتا اسموها على اسمها تمني، وبعد وفاة جد مطيع وحظوته من الحاكم بأمر الله الفاطمي، وتوسع تجارته واملاكه، وجبروته في تصرفاته بحق العبيد عنده ومن يتعامل معهم. خاصمته تمني وماتت كمدا. حزن عليها مطيع كثيرا. وبعد سنوات كثيرة سيتزوج صفا اخت صديقه حسام وينجب منها ومن بعض الجواري الكثير من الأولاد ويعيش حياة هانئة.
وتمضي الأيام بالنسبة للمنصور حيث توفي جده المعز الفاطمي وتولى الحكم بعده ابنه العزيز والد المنصور فترة سنة وأربعة أشهر. وتوفي بعدها. ولكي لا تنقطع السلطة في الفاطميين أُعلن المنصور حاكما بوصاية أخته ست الملك. كان عمره إحدى عشر عاما. واستمر حكمه خمسة وعشرين عاما تقريبا. من ٣٩٥ هجرية حتى ٤١١ هجرية.
كبر المنصور الملقب بالحاكم بأمر الله في كنف اخته وأجواء ممارسة الحكم، وبدأ بتسيير أمور الدولة، كان يلتقي بصديق طفولته مطيع ويأخذ مشورته ويتبادل الحديث معه. كان محرجا من هيمنة اخته على شؤون الحكم في طفولته. بدأ يبني قوته الموالية له بعد نضجه، عبر إقصاء أنصار اخته. كما بدأ حملة عنف قاسية في مواجهة الفساد في صفوف الجيش والحكم والمجتمع ومتابعة السراقين وعصابات النهب والقضاء عليها. لقد أوغل الحاكم بأمر الله في الدم، بحيث يعتبر من أكثر الحكام قتلا للمحيطين به . كما كان يلتقي بـ إخوان الصفا وخلان الوفا، وينهل من أفكارهم. وله تصرفات اقرب للتصوف والزهد احيانا. تصرف في كثير من المرات بمنطق الانتقام. عاقب المسيحيين ليردع اخته لان امها مسيحية، وهدم كنائسهم. مع ذلك كان مهتما بالعلم والمعرفة وآخر ما قدمه العلماء الموسوعيين في عصره. فقد فكر بأن يتم استثمار مياه النيل، سواء في سنوات فيضه أو سنوات انقطاع الفيض، فكر ببناء سد على نهر النيل. ولأجل ذلك استدعى العلامة ابن الهيثم الذي كان قد ظُلم في العراق على يد البويهيين وانتقل إلى بلاد الشام هاربا، وتستر بادعاء جنونه، ودرجة ولهه بالعلم والاختبارات على دراساته وأبحاثه وتأليفه. استدعاه الحاكم بأمر الله وبحث معه واقع نهر النيل وهل بالامكان بناء سد عليه. جاء ملبيا الطلب، وذهب برحلة نهرية في النيل. لدراسة موضوع السد. لكنه لم يجد المكان المناسب ضمن الأراضي المسيطر عليها الحاكم بأمر الله، حيث وصل الى منطقة سيطرة النوبيين، وعاد ونقل الى الحاكم بأمر الله ذلك. وخاب امل الحاكم. واستمر ابن الهيثم العيش في مصر. متسترا فيها يتابع أبحاثه وكتبه، مختبئا عن عين الحاكم خوفا من ان ينكل به لاي سبب كان. ترعاه ست الملك أخت الحاكم، التي طلبته للزواج وتعفف. واستمر حال الحاكم على ما هو عليه من مزيد من البطش والعنف بحق الناس والمحيطين به لاسباب مشروعة احيانا واسباب واهية لكثير من الاحيان، وزاد الأمر تعقيدا حيث ظهر في السنوات الأخيرة لحكم الحاكم. داعية يسمى نشتكين الدرزي، ادّعى أن الحاكم بأمر الله هو الله. ولقبه الحاكم بأمره. اعجب الحاكم بذلك وصمت عنه، لكنه خلق فتنة مجتمعية، زادت من غلواء الحاكم وظلمه. ولان الناس ورجال الدين والنخبة الاجتماعية رفضت ذلك. فقد عاقبهم الحاكم بأن ترك عصابات النهب والسرقة تبطش بهم وتقتلهم وتحرق أملاكهم، ثم عاد وسيطر على هذه العصابات، واستطاع القضاء عليها.
لم تعد ست الملك صابرة على حال اخوها سواء بقبوله دعوى الألوهية. او ظلمه بالناس، فأخذت ابنه علي واخفته عنه واختفت معه. وبدأت في التفكير الجدي بالقضاء على أخيها الحاكم بأمر الله وتنصيب ابنه علي بعده للحفاظ على السلطة الفاطمية التي تكاد تنهار من أخطاء الحاكم بأمره. كان للحاكم عادة بالتجول منفردا ليلا على حمار، وفي ليلة ذهب ولم يعد. البعض اعتبره صعد الى السماء والبعض جملوا اخته مسؤولية عن غيابه، و حتى قتله. كان ذلك سنة ٤١١ هجرية.
المهم إن أخت الحاكم ست الملك عادت ومعها علي ابن الحاكم وأسلمته الحكم، وثبتته عليه. واستمر ابن الهيثم بأبحاثه ودراساته انجاز كتبه في علم المنظور والمنطق والفلسفة وغيرها كثير التي استمر في إنجازها حتى وافته المنية سنة ٤٣٠ هجرية، والتي ستخلد بالتاريخ بعد مضي قرون طويلة. وتوفي في نفس السنة مطيع كاتب المخطوطة عن حياة حافلة ايضا. وهنا تنتهي المخطوطة.
في التعقيب على الرواية نقول:
لا يحتاج إعادة إنتاج التاريخ وإحياؤه مدحا فهذا عمل عظيم يجعلنا نعرف نحن الأحفاد من كانوا اجدادنا وماذا فعلوا، وكيف اجتهدوا وابدعوا.
كما تعيد الرواية توجيه الاتهام للحكام المستبدين الظلمة الذين يستبيحون حياة الناس دون أي محاسبة أو مساءلة. تعيد إحياء مطالبة الشعوب العربية بدول تحافظ على كرامة الناس وحريتهم وعلى العدالة في إدارة حياتهم والديمقراطية والشورى في إدارة الحكم للعيش بأفضل حال.
كما تعيد الرواية التذكير أن العقائد كثيرة في حياة البشر ومنذ القديم منها السماوي والأرضي وكلها يجب أن تجد الاحترام والقبول المتبادل والاهتمام بالعيش المشترك وكيفية إدارته للصالح العام. ورفض أن يكون الاختلاف العقائدي مقدمة لحروب لا ينتصر فيها إلا الموت والخراب…
احمد العربي.
١٧ . ٦ . ٢٠٢٢م.