بقلم الروائي \ محمد فتحي المقداد
(اختارتها منظمة الأونسكو العالمية هذه الرواية في سلسلة “آثار الكُتّاب الأكثر تمثيلًا لعصرهم” وقد شرعت بترجمتها إلى اللّغات الأجنبيّة، وقد صدرت الحلقة الأولى – الترجمة الإنكليزيّة – عن دار هايمان في لندن 1976بعنوان “Death in Beirut”).
بالتوقّف في عتبة الثقافات للمجتمعات تتبدّى حالة عجيبة من الفسيفساء الاجتماعيّة ذات التكوينات الإثنيّة والدينيّة، والطّائفيّة، والعادات والتقاليد وطرائق العيش المختلفة، في مكان جغرافيّ ربّما يتّسع أو يضيق، وهو المُحتَوي المُغلّف للصّراعات التي تجري في بطنه.
القراءة نعمة لذيذة كالأكل والشّراب والهواء، ضرورة للعقل، دائمّا ما أشعر بتعفّن عقلي عند ابتعادي لفترة ولو قليلة عن الكتاب. ومع ظروف الحجر العزل في البيوت من وباء الكورونا، فقد أنهيت مشروعي المؤّجل منذ فترة، في قراءة رواية (طواحين بيروت) للروائي اللّبناني (توفيق يوسف عوّاد). العنوان دلالته واضحة تُستخلص من خلال طيّات الرواية، فلو كان الأمر مخصّص بكلمة طاحون، لكان الكلام ربّما يأتي تراثيًّا، ولكن ورد بالجمع (طواحين). بالعودة إلى القاموس نقف على حقيقة الكلمة ودلالاتها قبل الخوص في تفاصيل السّرد الروائيّ: [طحَنَ يَطحَن ، طَحْنًا، فهو طاحِن ، والمفعول مَطْحون وطحين. طحَن الحَبَّ: صيَّره ذرّات دقيقة، سحقه بشدّة حتّى جعله ناعمًا، طَحَنَتِ الْحَيَّةُ: اِسْتَدَارَتْ، طحَن الطعامَ بأسنانه: مضغه بشدّة، طحن الناسَ: أهلكهم، طحنتهم المنون / طحنتهم المَنِيّة / طحنتهم الحرب: أهلكتهم وأفنتهم].
تعدّد المطاحن في بيروت والطّاحنين، تتبدّى لنا المأساة بحجمها أمام تحدّيات أكبر بكثير من حجم لبنان الجغرافيّ المحدود.
أعتقد جازمًا أنّ الطّواحين اتّضحت ماهيّتها بعد الانتهاء من قراءتي، فالطائفيّة المميّزة للمجتمع اللّبناني المُشَكّلَة لنسيجه المتآلف على مدار تاريخه، السياسة وتُجّارها لعبوا دورًا قذِرًا في تفتيت هذا النّسيج المتآلف منذ فجر التّاريخ، وجاءت القضيّة الفلسطينيّة لتكون أحد المؤثّرات بنتائجها بعد سنين، بعد إنشاء منظّمات الثورة الفلسطينيّة المُتعدّدة التوجّهات والولاءات والانتماءات الفكريّة بمرجعيّاتها المتنافرة بتناقضاتها العميقة. وهي مرحلة العمل الفدائيّ التي كان لها الأثر الأكبر في حياة لبنان، ما بين مؤيّد لها ومعارض، ومناضل صادق، ومنافق مُتسلّق، وجاسوس مُتخفٍّ مُتربّص باقتناص لحظة لإخماد خنجره المسموم في جسد القضيّة.
فالطواحين هي التحدّيات الكبيرة الآنفة الذّكر، إضافة للموجودة أصلًا منها التحدّي الجغرافي التمثّل بالصغر مساحة لبنان، بجوار سورية الوطن الأمّ له، والتحدّي الآخر على حدوده الجنوبيّة العدوّ اليهوديّ المُتربّص على مدار السّاعة، وهجماته الدّائمة على القرى الجنوبيّة، وتكلّل أخيرًا بالاجتياح الاسرائيليّ لبيروت العام 1982م.
والتحدّي الأهمّ هو الاقتصاديّ، فمساحة عشرة آلاف وخمسمئة كيلومتر مربعة لا يمكن أن تبني حالة اقتصاديّة متكاملة زراعيّة وصناعيّة، تكون قاعدة لتحرير القرار السياسيّ المُرتهن بالخارج بشكل دائم منذ إنشاء جمهوريّة لبنان.
*
الرواية (طواحين بيروت) عملت كرسّام معماريّ ماهر أخذ مقطعًا رأسيًّا للمجتمع اللّبناني، فمن يجلس في الأعلى تكون الرؤية عنده واضحة بشموليّتها، وهذا ما مثّله الروائيّ (توفيق يوسف عوّاد).
فقد سلّط الأضواء السّاطعة على الزوايا المُظلمة، وفضح المسكوت عنه، بلغة روائيّة حكائيّة وسرديّة أدبيّة سلسة مفهومة، مع إدخال الكثير من الكلمات المحليّة المحكيّة باللهجة العاميّة كما هي منطوقة في الواقع.
وتصاعد الصّراع في أحداث الرّواية بداية ما بين مجتمع الرّيف الفلّاحيّ المحافظ على عاداته وتقاليده، في طريقة عيشه في بيوت أقرب إلى البساطة والكفاية من أجل حياة كريمة تستند إلى الكفاف. كما بيّن أسباب الهجرة من الرّيف إلى المدينة بدوافع اقتصاديّة بحته بحثًا عن العمل، وبيع منتجات القرى، والفقر الذي دفع بكثير من الآباء للدفع ببناتهم الصّغيرات للدفع بهنّ للعمل كخادمات عند أهل المدينة في بيروت من الأسر الميسورة، مقابل ليرات قليلة يقبضها الآباء في نهاية كلّ شهر، لكنهم أغمضوا أعينهم عن الانتهاكات التي تحصل للبنات هناك، والموت بالمرصاد لمن تظهر عليها أعراض الانتهاك والاغتصاب، لغسل الشّرف والكرامة كما يدّعون، وهم أضاعوها بأيديهم، وألقوا التّبعات على بناتهم، ولم ينتبهوا للفقر..!!.
أمّا مجتمع المدينة فهو خليط عجيب غير متجانس جمعته جغرافيّة العمارات العالية بشُققها العديدة في الطّابق الواحد. لا أحد يعرف أحدًا.. ولا يسأله من أين أنت؟.. ولا ما الذي تفعله..؟.
أمّا موضوع الهجرة إلى دول أفريقيا، وهي الهجرة الثانية للبنانيّين بعد الأولى للأمريكيّتيْن. وما صاحب ذلك في كلا الحالتيْن، من اختلالات اجتماعيّة، عادت على قسم من المهاجرين بالثّراء الفاحش الذي لم يسأل أيًّا منهم عن المصدر .. من أين لك هذا..!!؟. إضافة لترك الزّوجات والأولاد لسنوات طويلة كما حدث لأسرة (تامر نصّور) الذي هاجر إلى غينيا تاركًا زوجته الشّابة وولدين وابنة، وما صاحب ذلك من انحرافات أخلاقيّة عن الأولاد والبنت، وكان الدم هو الذي يغسل شرف العائلة.
كلّ هذه المستجدّات التي عالجتها الرّواية في حقيبة منتصف السّتينيّات من القرن الماضي، وما رافقها من ظهور سلطان النّقابات العماليّة، ودور الجامعات واتحادات الطلّاب. والمدّ القوميّ على أشدّه على السّاحة العربيّة، ولكنّه في مثل حالة لبنان الرّخوة سياسيًّا، أخذ أشكالًا كانت أقرب إلى الانفلات ومنها من لجأ إلى العسكرة متأثّرًا مع ظهور العمل الفدائيّ بعد السبعينيّات.
السّياحة أحد أعمدة الاقتصاد اللّبنانيّ المنفتح بلا حدود، حتّى يظنّ المراقب أنّه انفلات بلا حدود، فانتشرت شبكات تجارة الجنس والمخدّرات وغسيل الأموال، وشكّلت (كارتلات) ضغط اجتماعيّة وسياسيّة غيّرت البنية الأساسيّة للشعب اللّبناني.
في عالم اليوم لا يمكن أن تكون فكرة الانعزال والاستغناء عن المحيط الجغرافي بذات فائدة؛ فالعلائق والارتباطات لها تداخلات، فالسياسي مرتبك بالاقتصادي، وقراره مرهون بحالته الاقتصادية. والتّاريخ سيقول كلمته على أنغام سمفونيّته الجغرافيّة.