لصحيفة آفاق حرة
قراءة في رواية: ليال أخرى.
الكاتب: محمد البساطي.
الناشر: دار الآداب بيروت.
ط١ . ورقية .٢٠٠٠ م.
بقلم/أحمد العربي
محمد البساطي روائي مصري مخضرم بدأ الكتابة من ستينيات القرن الماضي.
ليال أخرى رواية مختلفة، تبدو وكأنها سجل مشاعري ذاتي لبطلتها ياسمين، تعيش في أواخر القرن الماضي، لكنها تعيد تركيب حياتها نفسيا ووجدانيا، عبر خلط جميل بين الأزمنة والأمكنة والأحداث، وكلها تعيشها، وسرعان ما تتكشف لنا؛ حياتها رويدا رويدا عبر الرواية.
ياسمين ابنة الصعيد، اسرتها مكونة من امها وابيها وخالتها واخواها التوأمين الذين يكبرونها لأعوام قليلة، تسترجع طفولتها؛ أمها التي تصغر خالتها قليلا، الخالة تتزوج والأخت الصغيرة تبقى قريبة منها دوما، الخالة تنجب توأما، الأخت الصغيرة جميلة و يتقرب منها زوج الأخت وينام معها، تعرف اختها بالأمر؛ الذي إن عرف من الاهل يعني كارثة عائلية؛ تقتل الأخت وقد يقتل الزوج؛ ويتيتّم الأولاد، والأهم الفضيحة التي لاتمحيها السنين، فكان الحل عند الأخت الكبيرة ان فرضت على زوجها أن يطلقها، ومن ثم يتزوج اختها، ليستر الفضيحة، ويستمر ابا لأولاده رغم الطلاق، ياسمين ابنة الأخت الصغيرة من الزواج الثاني، الأهل أغلبهم توفي ولم يبقى لياسمين غير اخوتها التوأمين، كانت تحبهم كثيرا وهم ايضا، خرجت من القرية لتتابع علمها، اهتمت بالفلكلور الشعبي وبكل ما يعبر عن أصالة الصعيد والريف، الملابس والأدوات وغيرها، وبدأت تجمعها في متحف خاص لها، تخلد به ذلك الوجود المجتمعي الذهاب للانقراض، وتصنع لها عالمها الخاص، حيث أنها قررت انها لن تعود للصعيد، ولأن إخوتها يحبانها فقد رضوا بقرارها، واستمروا بمساعدتها، حيث أصبحا تاجرين كبيرين في الصعيد. تعرفت على شاب ايطالي ذي أصول مصرية، جاء إلى مصر للدراسة ولتعلم اللغة العربية لمدة عامين ، ومن ثم يعود ليتابع اعمالا كان قد خطط لها مع أهله ، احبها واحبته، عرض عليها أن يتزوجا في هذين العامين، وبعدها هو يعود إلى إيطاليا، وهي تمارس حياتها كما يحلو لها، قبلت ياسمين بذلك، فأن تعيش زواج مع حب ناجح لعامين هو أكثر من المطلوب أو الممكن، وحصل الزواج بينهم وعاشت حياتها معه برضى عن النفس وسعادة ، وسرعان ما جاء اخوتها ، وتحدثوا معها عن زواجها ، وشاهدوا عقد الزواج، رضوا بالأمر ، وطالبوا بأن يذهب الزوج وهي إلى بلدهم في الصعيد حيث يعلن الزواج بين اهلهم وناسهم، رفضت لانها لا ترى لذلك مبررا، وأنه لا وقت لها ولزوجها لتفعل ذلك، وخرج اخوتها من عندها غاضبين، ولم تعد تراهما مطلقا، ولم تهتم لذلك ، ومضى العامين، كانت ياسمين تعتمد على طول العشرة والحب، يجعل زوجها لا يغادر مصر ، ويعيشون سوية فيها، أو يأخذها معه، لكن ذلك لم يحصل، غادرها وهي متألمه، حاول التواصل معها ولم تستجب، تعبت كثيرا لغيابه، وقررت أن تنساه، وهو الآن أصبح ندبة في النفس من الماضي . هي الان تعيش حياة روتينية اعتيادية ، أخوتها لم يعودوا يتواصلون معها ، وهي تحس انها متابعة منهما بشكل ما، تعيش في شقة لوحدها ، تقضي يومها بين متحفها وبيتها، تذهب للسينما والمسرح احيانا، تسمع الموسيقى، وتقرأ كثيرا وبنهم، لكنها تعيش حياة جوفاء، لا تعبر عن ذلك حتى لنفسها، تترك نفسها على هواها، وما تفكر به تفعله. في جوارها يوجد صديق (عبد العزيز) فرض نفسه عليها، تتقبل وجوده كأمر واقع، هو محقق سابق في قضايا الدولة، مبعد عن الخدمة لأنه تسامح مع موظف ولم يعاقبه، لأنه كان يسرق من الأمانات في حوزته، عشرين جنيها شهريا، ليطعم أولاده وجبة من اللحم ، و ليأخذهم إلى فسحة في آثار مصر، عيشها مع عبد العزيز كان روتيني وعادي وحسب مزاجها، عاش معها في بيتها، طلب منها الزواج، لكنها رفضت، لم تعد مقتنعة بالزواج، مارسا الجنس، كان روتينيا، أقرب لتلبية رغبة غريزية منها لحاجة إنسانية ممتلئة بالعواطف والمشاعر، وهكذا غادر بيتها لأنهما لم ينسجما، لكنهما لم ينقطعوا عن بعضهما، وأصبحت علاقتهما أقرب إلى الصداقة الإجبارية، ففي غربة حياتهما كانت تعطي لهما بعض الود والعزاء. وعاشت ياسمين حياتها باعتيادية؛ تأكل وتشرب وتذهب الى متحفها وتقرأ وتنام وتعيش أيامها المتشابهة بغربة قاسية، يتواصل معها بشكل متباعد صديقها الشاعر العامي المصري، لا عمل له ولا مأوى، يعيش على مجد أنه كتب شعرا يوما ما ومدحه عبد الناصر، وذكر ذلك بجريدة يحتفظ بها معه دوما، شهادة حسن سلوك، هو الآن مشرد لا مسكن له، يتنقل بين الحانات، ويقع في مشاكل تنتهي عند الشرطة، وغالبا ما ينقذه ماضيه، يزور ياسمين كلما ضاقت عليه الدنيا أو جاع أو احتاج لبعض المال، في زيارته الأخيرة، نام عند ياسمين ومارسا الجنس، وغادر في الصباح، ووجد بعد وقت مقتولا في مكان ما. ياسمين تشك ان لاخوتها يد فيما يحصل، وتصمت، تمر الايام ويتعرف عليها آخر عمل مصورا ويذهب لبيتها ويمارس الجنس، وفي اليوم الثاني يوجد مقتولا، وكذلك آخر ثري عربي يلتقي بها وينام معها ، ويوجد بعد ذلك مقتولا، ويحصل ذات الشيء مع صديقها عبد العزيز الذي قتل بعد أن نام معها وغادر بيتها في اليوم الثاني.
تنتهي الرواية وياسمين تعيش حياتها في ذات الروتين، وهي مدركة أنها محاصرة بروح قاتلة لكل من يقترب منها.
في قراءة الرواية نقول: إن للرواية مستويات عدة، الأول هو المدون والمعاش ومتتابع في السرد والحدث، وهي تكاد تكون عادية ومكررة مع كل البشر، على أنهم متنوعين ومختلفين ولكل حياته، وكل الاحتمالات ممكنة أن تعاش. وهنا تبدو الرواية مجرد نص ممل أحيانا، أما المستوى الآخر للرواية ؛ فهو الغوص عميقا في أحداثها وأبعادها النفسية والمجتمعية والسياسية، وهي: أن لياسمين قصة حياة فيها بعض من وصمة العار فهي ابنة للزنا، بين زوج خالتها وامها، صحيح أن ما حصل لم يفضح، لكنه لن ينمحي من نفس الكل؛ الام واختها واخوانها التوأم، وسيظهر ذلك لاحقا سواء بالحب المعقد المنصب عليها منهم، أو عبر قتل كل من يقترب منها ويعاشرها جنسيا، مع عجزهم عن قتلها؛ رغم استحقاقها ذلك حسب العرف الاجتماعي. وفي الرواية عمق آخر وهو عمل ياسمين في محاولة إحياء الفلكلور والأصيل من عالم الصعيد والريف والبعيد عن المدن والحداثة وضياع الذات، لكن متحفها يصبح أقرب لقبر يحوي هذا الماضي الذي مات ولم يعد أحد يهتم به، والذي انعكس على ياسمين و حياتها ، فأصبحت تعيش حياة غرائزية دون أي هدف سوى إشباع الرغبات الجسدية بما فيها الجنس والأهواء البسيطة المعاشة يوميا. و في الرواية عمق آخر وهو غياب للحياة السوية لأغلب ابطالها، ياسمين التي تبيع عمرها كله لأجل سنتين من حب اعتقدتها كافية لعمرها، وبعدها أصبحت حياتها فارغة جافة وميتة بالعمق. وكذلك الشاعر الذي يعيش في مجد الماضي، مضيعا واقعه و حاضره ، فلا عمل ولا مأوى، ينتقل من حانة لأخرى ، ويحتاج اللقمة والكرامة، والسؤال لماذا حصل ذلك. وصديقها عبد العزيز السياسي السابق الذي اعتقل واكتشف أنه مجرد وهم، في الماضي لم يثمر،ودورهم في الواقع معدوم، المنتمين سياسيا اليوم مرضى نفسيين ، يعيشون أوهامهم ويتمنونها، يعيشون ويموتون ولا اي هدف يحصل. سيذكر السادات دون ذكر الاسم واعتقال مفكري مصر في أوائل الثمانينات بعد زيارته للكيان الصهيوني، أنه مؤشر لما حصل وكيف قتل يوم احتفاله بنصره، وكيف أصبحت مصر بعد ذلك، مزيد من الأزمات، سنتعرف على الثري العربي، الذي لم يعد يرى في مصر إلا نساء يشتريها بماله، مصر التي هانت الى درجة الاستباحة على كل المستويات. الجانب الوحيد المعافى في حياة المصريين هو الأمن، الذي يحصي حياة وحركات وسكنات الناس، ويحمي الحكم، هذا ما فهمه عبد العزيز.
واخيرا مقتل كل من يقترب من ياسمين، يعني أن لاتغيير في بنية المجتمع المصري نحو الأحسن، بل ماض مريض وواقع سيء ومستقبل غامض.
وننتظر بعد نشر الرواية عقد من الزمان حتى يثور المصريين، ويرفضون معادلة الواقع الذي أرادت الرواية أن تومئ له بطريقة روائية خاصة.
لكن ثورة مصر لم تنتصر ولذلك أسبابه.
وذلك حديث آخر…
…..
٦/٣/٢٠١٨…
٢٨ ايلول ٢٠٢١م