قراءة في رواية: نهر الفن المقدس. .الكاتب أيمن البارودي.

لصحيفة آفاق حرة:

 

.قراءة في رواية: نهر الفن المقدس.
.الكاتب ايمن البارودي.


2011. / ب د ف .

.نهر الفن المقدس رواية  تحكي قصة حياة الفنان التشكيلي الهندي مقبول فدا حسين، الفنان الذي عمر مائة سنة تقريبا، ورسم ما يزيد عن ستين ألف لوحة، واستمر عطاؤه في كل مراحل عمره، وانتقل من قاع الفقر ليصل لقمة الغنى، وتمتد شهرته وأعماله الفنية الى العالمية، واسعار لوحاته بملايين الدولارات؛ وذلك في حياته….

.الكاتب ايمن البارودي كنا قد قرأنا له رواية سابقة: الباشا والتراب، اسلوبه مميز يمزج بين الحقائق الواقعية والعمق الاجتماعي والفكري والفلسفي لشخصياته…

.تبدأ الرواية من تعرف الكاتب على الفنان الهندي مقبول فدا حسين، حيث قابله وكانت مناسبة للتعارف دام طويلا، وليصل لشبه صداقة دفعت الفنان مقبول ان يطلب من الكاتب ايمن ان يكتب عنه رواية، ووضع أمامه بعض ما عاشه في عمره المديد، وباشر الكاتب بالرواية وعندما وصل خواتيمها جاءت الأقدار وتوفي مقبول ولم يطلع على روايته التي اختتمت بموته الواقعي، وفي الرواية ايضا….

.مقبول فدا حسين شاب هندي ولد في الهند من أصول عربية يمنية، هاجر أجداده منذ قرون للهند واستقروا هناك في بومباي وما حولها، مقبول يولد ويكبر وسط عائلته لكن امه تموت وهو صغير لذلك لم يعي وجودها، وهذا ما سيؤثر عليه باحساس فقدان لأول نبع حنان في الوجود الإنساني في حياته ، لذلك يقول: (رائحة الخبز هي امي)، سيرعاه جده وتتلمذ على يد الفقيه مشتاق، سيعيش شوقا وجوديا في البحث عن الله، سيفكر أن يعتزل أو يعتكف في أعالي الجبال، لكنه يكتشف أن الله في كل شيء؛ وفي نفسه ايضا، فيقرر أن ينغمس في الحياة وعالم الرسم ويبحث عن معنى ما لوجوده، سينطلق الى مدينة بومباي، سينام على الارصفة في حي العاهرات، سيبحث حثيثا عن عمل يؤمن له لقمة عيشه وكرامته، ويبدأ برسم لوحات جدارية كبيرة للأفلام الهندية التي بدأت تغزو الهند والعالم أيضا…
. ستحتضنه الخاله محمودة حيث هو في بومباي وتعتبره ولدها، و تزوجه من ابنتها مقبولة التي ستنجب له بعد حين كثيرا من الأولاد…
. مقبول مسكون بميراث الإسلام كما تعلمه من الفقيه معشوق، ومسكون بالتراث الهندي الموغل في القدم من هندوسية الى الاسلام والمسيحية وغيرها كثير… كلها تعانق الوجود الإنساني المباشر، كلها تجعل ابن الهند يحس انه على اتصال مباشر مع الكوني والمتعالي والخالد والجوهر وأنه واحد من رعية الله او روح الوجود الحاضر في كل شيء… لم يكن مقبول يفكر انه يصنع شيئا مميزا برسمه وأعماله، كان يعيش ذاته وكفى، يعيش تكييف الحياة والأشياء أمامه وبرسمها، ما لفت النظر له هو من شاهد اعماله وعشقها ومن ثم اشتراها، فاول لوحاته التي باعها لتاجر كانت رسمة فتاة تبتاع من تاجر الموز، والمشتري عشق الفتاة بالصورة واشتراها وسأل عن الفتاة لعله يصل إليها. بدأ الرسم يعوض مقبول المال وبدأ يعمل لينشر ما يرسم ويبيعه ويصنع لنفسه حضورا ما…
.كانت بداية احتكاكه بالغرب كفن وتفاعل هو عبر تعرفه على المخرج الايطالي روسيني في الأربعينات من القرن الماضي، الذي كان قد استقدمه رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، و تعارفا و تناجيا أخلص مثل صديقين في الوجود؛ تلاقت ارواحهم، روسيني الأوروبي الذي سيؤخذ بالهند وعمقها وغناها وتميزها، ولانه صاحب مقولة “كل عمل جديد يحتاج لامرأة جديده موحية”، فقد تعارف على سونيلي زوجة مخرج هندي كبير وستكون الحبيبة المنتظرة، والتي سيكون له معها حكاية حب ستصنع له أعداء، فماذا عن وفائه هو لزوجته الممثلة المشهورة انجريد بريجمان، وماذا عن المخرج الذي فقد زوجته، وما موقف مقبول الذي انتصر الحب عندهما هما الاثنين، ودفع لمنع المجتمع أن ينتقم او يقتل او يهدد المخرج وحبيبته، فالزوج اقتنع انه اهمل زوجته وأنها وجدت ذاتها بالحب الجديد فتركها لقدرها، وكذلك زوجة روسيني التي سلمت بما حصل على انها تعرف زوجها كمتعدد بعلاقاته النسائية، وكان لمقبول دورا ما في جعل ما حصل يحصل، كان يبلسم الجراح ويقنع الأطراف بأقدارهم…
.سيعانق مقبول الغرب وحضارته عندما يذهب لفرنسا ويطلع على برج ايفل ويشاهد معارضها الفنية ويطلع على اعمال بيكاسو، سيجد هنا امتدادا لروحه الفنية رغم اختلافها سيتجول حافيا (كما ولدته أمه)، وسيستمر في محاولة إقناع الغرب ومدارسه الفنية بعمق تجربته وفرادتها وروحها الشرقيه بكل تفاصيلها، سيعمل معرضا لرسومه البالغة ثمانين لوحة في براغ عاصمة التشيك، سيستقبل بإستهتار وعندما تحضر ماريا زوركوفا لمشاهدة اللوحات ستتأمل بعمق وتأن، سيكتشف مقبول بأنها حب عمره الذي يبحث عنه، وما أن تنتهي ماريا من اطلاعها على المعرض حتى يعرض عليها في موقف مؤثر انه يهدي لها كل لوحات معرضه الثمانين، ستستغرب وتعتبره شبه مجنون وأنه لن يشتري اعجابها بهذه الهدية، لكنه يستطيع ان يحصل على حبها ويتعايشا ستة سنوات، ولكنها كانت ترفض الزواج منه دوما، فهي الغرب وهو الشرق ولا يلتقيان، حصل على قبول زوجته فضيلة بالطلاق وأن يتزوج ثانية، فضيلة قالت له انا احبك واحب ان تتبع هواك فلك ما تشاء، لكن ماريا ترفض الزواج منه وتتزوج من غيره وتتركه وتهاجر الى استراليا مع زوجها…
. يعود مقبول الى الهند ليستمر برسومه وأعماله، وستكون مفاجأة بانتظاره؛ حيث سيتعرف على أعماله تشيستر هيرتز احد الأمريكيين المهتمين بالفن الهندي والذي سيأتي للهند ولايجد مقبول هناك، وسيحصل على لوحته (ميلاد رجل) وياخذها لمعرض الفن في بوسطن حيث ستكون مدخل مقبول إلى عالم الشهرة الفنية، وتتحول لوحاته مع الزمن الى تحف فنية تباع بملايين الدولارات…
. مقبول لن يتغير من حلمه شيء فهو ما زال يرى أن أمامه أعمال كثيرة يجب أن يقوم بها، فالعالم السمعي البصري عنده لا ينتهي انه محيط لاينضب، وعندما تسأله عن متعته الحقيقية؟. يجيبك: هو ان اعمل وانتج مجددا. وهل المال مهم ؟. نعم مهم لكن الأصل العمل والإبداع. لذلك يوزع ماله في كل اتجاه، ويجد نفسه في يوما ما أنه يعجز عن شراء لوحاته الغاليه…
. طور حلمه بالعمل السينمائي، السينما عنده واحده من اهم ما في الوجود (الفن والسينما والمرأة). وفوضته انديرا غاندي بصناعة فيلم، اختلف مع زمرة السينما التي طرد من أحد مخرجيها الكبار في زمن مضى، ونفذ ما يدور في رأسه، وجاء الفيلم وعرض عالميا وحصل على الجائزة الأولى، وأكد موهبة مقبول في السينما كما الرسم، وفكر أنه يريد أن يخلد حبه الخالد من ماريا زوركوفا فقرر ان يعود بعد أربعين عاما الى براغ ليصور قصة حبه بها، ولتعلم هي وتعود إليه بعد أربعين عاما ليجد أنه مازال يحبها، وما زالت حبه الخالد، وتؤكد هي انه مازال غريبا ومثيرا ومجنونا، وتقدم له مفاجأة عمره؛ حيث ستعيد له لوحاته الثمانين التي أهداها لها منذ أربعين سنة، قال لها: لكنها لكِ و تساوي ثروة الآن ؟!!. تجيبه: بل لك ولتكن ماتكون انت اولى بها، وتعود لوحات بداياته له؛ انه حب خالد فعلا…
. واستمر مقبول يعمل على افكار فنية اخرى، وفكر ايضا؛ ان يعود بهجرة معاكسة الى جذوره في جزيرة العرب، وأن يقوم ببعض الرسوم التشكيلية والأعمال الفنية والافلام يعيد فيها كتابة تاريخ الإسلام العظيم وتطوره عبر التاريخ، أنجز جزء كبير من المشروع لكن الموت داهمه قبل إكماله…
.وصل مقبول الى المئة سنة واستمر بعطائه، وقال انه لو عاش مئة سنة اخرى فما زال لديه ما يجب أن يرسمه و يعمله. لقد كان يشعر بأن ارتباطه بروح الكون عميق ويكفي أن يضع ريشته بيده لتتشكل الحيوات الفنية بين يديه، وان متعته الحقيقية حين يعمل لينتج ما يعطي للحياة قيمتها ومعناها وجدواها….
.لم تستمر عطاءات مقبول الفنية وأفلامه ومشاريعه لسبب بسيط :انه انسان وانه زایل وانه نسبي وان خالق الوجود سيعيده في دورة الطبيعة؛ وروحه ستذهب للخالق ليعاد ارتباطها بالله العظيم…
.مات مقبول فدى حسين وروايته لم تنتهي، ختمت بموت جسده لكن أعماله وما قام به وما مثله مازال حيا بأعمال رسم وصلت ستين ألف لوحة فنية وأعمال سينمائية وغيرها كثير…

.في قراءة الرواية نقول. اننا لن نتوقف كثيرا عند تحول مقبول النموذج الفنان المعطاء المبدع من النموذج الهندي الشرقي للعالمية، عندما اكتشفه الأمريكي وسوقه، نعم عبر للعالمية عبر الغرب، لكنه يستحقها.
. لنعترف أن مسطرة العلم والمعرفة والحضارة والتقدم اصبحت غريبه، ولو أننا كعالم ثالث وعرب ضحية هذا الغرب بوجهه الرأسمالي المستعمر المتوحش، ومع ذلك كنا كبشريه وعبر التاريخ ضحية هذه الثنائية الوجودية، الله والشيطان، الخير والشر، الغرب والشرق، الحب والكره. والغرب الان يقود هذه الثنائيه في العالم بتقدم منقطع النظير وبتوحش فاق حياة الغابة بآلاف  الأضعاف…
.في الرواية نحن اننا امام انسان نموذجي في حياته؛ رسالي صاحب رؤيه يؤمن بوجوده ودوره يحققها بمواظبة الإنسان المقتدر والخالد بأعماله، ينتصر للإنسان في داخله اولا، للحب، العطاء دون حدود، للرسالة الإنسانية، للخير ، لله: بصفته حب وخير وعطاء لا نهائي…

إن مقبول فدا حسين نموذج إنساني يحتذى…

.احمد العربي..
27.6.2017…

٢٢/ أيلول/ ٢٠٢١م

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!