قراءة في قصة الربان للدكتورة ميسون حنا / بقلم الناقد نضال الخليل ( سوريا )

الربان قصة قصيرة بقلم : د. ميسون حنا يتمايل القارب على سطح الماء، اعتاد الربان أن يصطحب حبيبته في جولة على متنه كل يوم، كانت سعيدة بهذه الرحلة المسائية الهادئة، وكان يسعد لسعادتها. أما هي فكانت تشعر براحة واطمئنان خصوصا أنه يفهم لغة البحر، ويراوغه، ويقود القارب إلى شاطيء الأمان بحنكة ودراية. اليوم فاجأتهما سمكة قرش شرسة، وهمت أن تبتلع الربان الذي نظر إليها باستعطاف وقد أذهلته المفاجأة ، السمكة عنيدة، لم تأبه بنظرات التوسل، ولا بخوفه وضعفه ومذلته … لكنه مصمم على النجاة، نظر إلى السمكة نظرة ذات مغزى ، وغمز بعينه متواطئا وأومأ إلى حبيبته المكتنزة ، فهمت السمكة مقصده، أما حبيبته فقد ألجمتها المفاجأة، وشلت تفكيرها الصدمة، والقرش لم تمهلها الوقت لتستوعب الأمر إذ انقضت عليها في التو واللحظة، وابتلعتها في ثوان معدودة وغادرت. تنفس الصعداء، وشكر الله على الخلاص، أصبحت تأتي السمكة إليه كل يوم فيلقي لها برفيق أو عزيز يصطحبه معه لهذه الغاية، متبنيا نظرية التضحية بمن نحب من أجل استمرارنا، رحبت السمكة بنظريته وأثنت عليه، أما هو فقد أجزل لها العطاء، وضحى بأصدقائه وجيرانه وأقاربه وأخذ يميل إلى معارفه ليضحي بهم كذلك، كان يفعل هذا بإخلاص شديد للقرش. اليوم بعد أن ابتلعت أضحيته التي قدمها لها فاتحته أنها لا تكتفي بضحية واحدة، ثم لمعت عيناها ونظرت إليه باشتهاء وفجور، أصابه الفزع، قالت: أنا أحبك وسأتبنى نظريتك بأن أضحي بك من أجلي، وقبل أن يعترض وبسرعة البرق انقضت عليه وابتلعته، غير مبالية بنظرات العتاب التي صدرت عنه، ولم تكتف بذلك، بل هشمت قاربه ، وعندما لامتها أسماك القرش علي تسرعها قالت: لا تقلقوا … وأومأت إلى قارب يتهادى على مرمى بصرها مقتربا… وابتسمت

د. ميسون حنّا

في قصة /الربّان/ لميسون حنّا لا يبحر القارب على الماء بل على جرح الإنسان حين يختار النجاة بالخيانة – البحر هنا ضميرٌ يتذكّر والموج مرآةٌ تفضح وفي النقد المرافق تتجلّى القراءة كلغةٍ تواجه الموج بسؤالٍ قديم: كيف ينجو الإنسان من نفسه؟ حين يبتلع البحر خيانته ليس في البحر ماء بل ذاكرة الملح حين ينسى الكائن وجهه وليس في القارب نجاة بل محاولة بائسة لترميم الغرق بالوهم. القصة التي كتبتها ميسون حنّا ليست عن ربانٍ يقود قاربه لكنها عن الإنسان حين يتحوّل إلى فكرةٍ تنهشه وهو يبتسم لها في “الربان” يتجلّى البحر كضميرٍ مفتوحٍ على الذنب والنجاة كطريقٍ يمرّ من جثث الأحبة. الربّان ليس رجلًا على قارب هو كائنٌ يقود ظله على سطح الغدران يظنّ أنّ الماء يصغي له فيما الماء كما القدر يتظاهر بالسكينة كي يكتشف خوفه على مهل. القارب ليس مركبًا بل استعارة الجسد حين يعلو على هاويته والبحر ليس فضاءً هو كائنٌ أعمى يتغذّى من فزع الإنسان إلى البقاء. ميسون حنّا في نصّها لا تحكي عن حادثةٍ عابرةٍ في عرض البحر لكنه عن التواء الضمير حين يتعلّم المراوغة من الموج. لحظة الغمز التي يوجّهها الربّان للقرش هي الحدّ الفاصل بين الإنسان والوحش، بين من يطلب الرحمة ومن يعلّم الافتراس لغته. إنّها لحظة سقوط الأخلاق في فم الخوف، لحظة استبدال القلب بالبقاء والوفاء بالدهاء. القرش ليس سمكةً هنا بل تجسيدٌ لشهوة الحياة العمياء تلك التي تُغري الإنسان بأن يبرّر كل شيء باسم النجاة. الربّان الذي بدأ عاشقًا للماء انتهى عبدًا له يطعم الوحش كي لا يبتلعه الوحش غير مدركٍ أنّه صار مرآته وأنّ كل ضحيةٍ يقدّمها إنّما تُنقصه أكثر مما تُرضيها في كل مرةٍ يرمي روحًا للقرش، يرمي قطعةً من ضوءه القديم حتى لم يبقَ منه سوى قشرة إنسانٍ يطفو على ندمٍ صامت. وحين انقضّت السمكة عليه في النهاية لم تكن تنتقم لكنها تُتمّ طقسه، تُعيد التوازن للمأساة التي صنعها بنفسه. فالوحش لا يخون بل الإنسان هو الذي يعلّمه معنى الخيانة ثم يستغرب حين يُتلى عليه الدرس ذاته. اللغة في القصة تنساب كما الماء قبل العاصفة، تُخفي عمقها تحت سطحٍ هادئ. ميسون حنّا تكتب بيدٍ تعرف أن الرمزية ليست ترفًا بل وسيلة لتعرية الحقيقة دون صراخ. كل جملة في “الربّان” هي موجةٌ من تأملٍ فلسفي تمزج الواقعة بالرمز والخيانة بالمغزى الوجودي إنّ “الربّان” ليست قصة عن البحر هي عن المأزق الأبدي للإنسان: كيف يحافظ على ذاته دون أن يفقد إنسانيته؟ كيف يُطفئ جوع البقاء دون أن يلتهم قلبه؟ القصة تجيب بصمتٍ فادح: لا نجاة من البحر إلا بالغرق في الضمير. وفي النهاية حين تبتسم السمكة لقاربٍ جديدٍ يقترب يبتسم النص كلّه بسخريةٍ كونية: فالدورة لم تنتهِ والماء لا يتوب والإنسان لا يتعلّم إنّ البحر يبتلع خيانته لا ليُخفيها لكن ليعيدها إلينا في كل قصةٍ جديدة عن ربانٍ آخر يغمز بعينه للقدر ظانًّا أنه سينجو.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!