بقلم: صلاح الحقب
تبدع الكاتبة اليمنية “ميمونة عبدالله” في قصتها “ظل في الأشرفية” الفائزة بجائزة الربادي لعام 2021.
يمر القارئ على هذه السردية فتستوقفه كثير من التفاصيل، وتأخذه اللغة الرشيقة لقراءة واقع قريب من ذات الإنسان اليمني بجغرافية شهدت تاريخاً حافلاً بالمجد، وبصورة جمعت حاضراً بواقعية دقيقة الوصف طالته الأحداث المعقدة والصراع حتى كادت تخفي ملامحه، وماضياً يحمل الصورة المثالية بجمالها الآسر، يعرضها خيال سريالي مدهش نلمح امتداد الفكرة بينهما بتباين المعنى المراد برمزيات عديدة استعملتها الكاتبة باحتراف ووعي كامل، يستصيغ القارئ أكثر من معنى في كثير من الرمزيات، ولعل العنوان “ظل في الأشرفية” هو الرمزية الأكثر إيجازاً إذا ما وقفنا عنده باسترسال المعنى في الوهلة الأولى من القراءة، ولو عاد القارئ بعد الانتهاء من القصة لقراءة العنوان لوجد اتساقا محكما بينه وبين موضوع القصة بكل إيحاءاتها، فالظل يحمل أكثر من معنى، منها “الوهم أو الخيال أو الخرافة التي تحاكي انطباعات أي مجتمع ” وهذه الفكرة ندركها جيدا في الظل الذي رأته ورافقها في كثير من الأحداث، وكذلك الرؤيا التي وجدت نفسها تعيش حدثها الرئيسي من خلالها، والتلبس الشيطاني، ولكن قد يتساءل الإنسان إن لمح نقطة فارقة بين الخيال والحقيقة، كيف للخيال الممثل بالظل أو الوهم أن يحمل وجه الحقيقة؟ هنا نضع الحقيقة الممثلة بالواقع كما تبدو بالتفاصيل التي ذكرتها الكاتبة وجسدتها بفلسفة عميقة تلك “فلسفة الظل” تحمل الحقيقة والحياة بفكرة أبعد من فكرة الوهم، إذ أن الظِلال هو دلالة الضوء بالأساس، دلالة للحياة بواقعيتها، كما يصفها الفيلسوف والأديب الألماني “يوهان غوته” فهو يصف الفكرة تلك بقوله “حيث يوجد الكثير من الضوء، يكون الظل عميقا” إذن فالضوء المنسكب من “الصحن الذهبي” في القصة هو أكثر من كونه خيالاً، بل تفصيلاً واقعيا لحياة يدركها الإنسان بكل وضوح، كما أدركتها الكاتبة بمعالم المكان في (باب موسى ،المظفر، الأشرفية، وكثير من المعالم).
وبالنظر لتقنية البناء الفني للقصة القصيرة فإن توافر أركان البناء الفني فيها يبرز مدى أصالتها وسلامتها وجودتها واكتمالها .
_ الحدث .
لأن طبيعة الأحداث تتضمن المواقف والوقائع التي يحركها الكاتب وفقا لأفعال شخصيات القصة وأقوالهم وتفاعلهم معها، سواء كانت من الواقع الذي مر به وعاشه هو بذاته، أو سمع عنه، أو ابتدعه من خياله وفقا لما تقتضيه الحاجة لمحاكاة واقعه بطريقة ما، فإن الحدث في قصة “ظل في الأشرفية” يتجلى بوضوح بالرؤيا التي راودت شخصية القصة (إمرأة على عرش سبأ، بجوارها رجل ضخم صحن ذهبي عليه كتابة وريشة… ضوءا سائلا…)
هنا بداية الحدث ، ولعله حدث صغير، يمكن قراءته كنهاية ممهدة بغاية سعى الكاتب للوصول إليها من خلال الحدث الأكبر وهو “زيارة الأشرفية بصحبة زميلتها “أشجان” .
إن هذا الحدث يأخذ “الطريقة التقليدية”.
تقودنا الأحداث القصيرة في القصة لكثير من الخيالات التي جسدتها رؤيا الفتاة في الأشرفية، وانتقالها من مكان لآخر، وبلوغها زمن قديم رأت فيه الملك الرسولي، ثم تعود لتصاحب الظل في زوايا المكان الذي خلده التاريخ، وتتبادل الحديث مع الظل ذاك، ليعود بها إلى حلم راودها سلفا في بداية هذا الحدث. تجد نفسها في مكان آخر، وطبيعة أخرى، لا تدرك شيء مما يحدث إنما تراقب ما رأته وهو يتلاشى في حقيقة المكان أمام والدها والشيخ الذي يعالجها من المس .
بهذه الطريقة استطاعت الكاتبة أن تصل لغاية البداية التي رأتها في حلمها من خلال تسلسل تلك الأحداث وحتى النهاية.
ونجد براعة الكتابة في ربط جوانب الأحداث وخلق نسيجاً سردياً متكاملاً، بلغة رشيقة تنساب بكل خفة لتجسد طبيعة الحدث رغم ضخامة النص، لولا براعة الكتابة في تشكيلها وربطها بكل انسيابية، صور مكتملة بعناصرها الفنية، وحديث الذات فلسفة أخرى جسدت الغاية التي كان سيجافيها الحوار لو استمر طويلا.
_ الشخوص
في القصة نجد الكاتبة تدرج نفسها ضمن شخوصها وبالأصح شخصية أساسية حركت مجريات الحدث بكل تفاصيله، بالإضافة لشخصيات أخرى استعانت بها الكاتبة لتجسيد تلك الفكرة، أبرزها ما وظفه خيالها بخلق شخصية منحت الحدث طابعا فريدا يحكمه ذاك الخيال بكل تفاصيله.
وهنا اعتمدت الكاتبة على الطريقة الثانية وهي “الطريقة التمثيلية غير المباشرة” فيها أتاحت لنفسها التعبير عن ذاتها ورؤاها ومشاعرها وانفعالاتها من خلال الحوار الذي أجرته مع صديقتها أشجان وكذلك الظل، كون هذه الطريقة هي الأمثل لقصة يمكن إدراجها ضمن قصص “المذكرات” وإن وظفت الخيال لمحاكاة الماضي الغابر واسترسلت الحاضر بهذا الأسلوب.
هذه الشخصيات من حيث نوع التركيب هي “شخصيات نامية” تفاعلت مع الأحداث منذ البداية، وإن كانت شخصيات مسطحة في بادئ الحدث حيث بنيت على فكرة واحدة من خلال شخصية “أشجان” صديقتها ، إنما تباين الأحداث وتطورها أبرز شخصيات أخرى، كالظل مثلا، منذ بداية ظهوره، والحوار الذي دار بينه وبين شخصية القصة، تطورت تدريجيا وبانت سماتها نهاية القصة، حين علمت إن ذاك الظل هو قرينها، حسب قول الشيخ المعالج.
ونلحظ أنواع مختلفة في القصة من حيث الدور :
_ الشخصيات الرئيسية
الكاتب نفسه مثل الشخصية الرئيسية في القصة، كونه من حرك الأحداث جميعها وعاش تفاصيلها وتعقيداتها.
_الشخصيات الثانوية
أشجان و الظل والشيخ ووالدها، هذه الشخصيات الثانوية التي مثلت التماسك المُحكم بين الأحداث والرابط الأهم بين أجزاء الفكرة التي أبدعت الكاتبة حبكتها بطريقة سلسة وسرد ماتع.
_ البيئة “الزمان والمكان”
إن جغرافية القصة وبيئتها واضحة وجلية في رقعة يمنية تاريخية، مثلت شاهدا أصيلا على حضارة عريقة ودولة قديمة ذاع صيتها في البلاد العربية، هذه الجغرافية هي تعز وتحديدا مدرسة وجامع الأشرفية، وتفاصيل تلك المرحلة التي شهدت أمجاد الدولة الرسولية.
أما بالنسبة للزمان فإن الحاضر هو طبيعة الزمان الذي تسرد الكاتبة من خلاله القصة وأحداثها، ولكن نجدها تقع بين زمنين على امتداد بعيد بين طبيعة اللحظة التي دلفت بها شخصية القصة في الأشرفية وبين ماضٍ بعيد حملها الخيال إليه لتمر بتفاصيله وأحداثه التي تركت آثارها في النقوش على الجدران.
الإنتقال من الفعل المضارع للماضي جعلها تتجاوز الرؤية النقدية التي ترفض أسلوب الوصف بصيغة المضارع لحدث مضى وانقضى بحجة بعث الروح الدرامية فيه! إذ تعتبره ضعف وركاكة، فالكاتبة هنا جارت الحدث بالمضارع أولاً وجعلتنا أمام صورة حركية تُعرض أمامنا للتو كما لو أنها حاضرة في الحدث حتى لتشعر أنها معنا أيضا تشاهد نفسها بالصورة الخيالية تلك، ثم لا تلبث أن تغادرنا بصيغة المضارع وتحضر سريعا لتحكي ما جرى بصيغة الماضي، وبأسلوب بديع، وتجدها توائم بين زمنين اثنين لتخلق بيئة واقعية ومقبولة لدى القارئ الذي يقرأ أحداثها بكل سلاسة وانسياب.
تقص تاريخا وأزمان، وما الحدث هنا إلا طريق هذا التاريخ التليد، الذي ينتهي بواقع تأسى عليه.
_ الحبكة
حبكة القصة تظهر بكل دهشة في الوقائع الأخيرة التي مر بها شخوصها، ونجد أحداثها تطورت بشكل تدريجي ومُحْكَم، أثارت كاتبتها من خلالها كثير من التناقضات التي تدفع القارئ لمحاولة استيعاب طبيعتها وفهم حقيقتها، وتساؤلات عديدة، مثل “أين اختفت صديقتها أشجان؟ كيف بلغت شخصية القصة الزمن البعيد؟ من ذلك الظل؟ ما كل هذا؟
لتجد الحبكة بكل اكتمال وهي تفيق من غيبوبتها، فتدرك أن كل ما مر كان حلما.
_ الفكرة
يمكن ملاحظة أبعاد الفكرة من خلال البيئة وما نسجه خيال الكاتبة، تلك بيئة الأشرفية وتلك تفاصيلها العظيمة بالنقوش والزوايا التاريخية، وتلك الشخصيات التي مرت بكل الأحداث، ملوك عظام خلدهم تاريخنا اليمني، نجد أن الفكرة بشكل قريب هي ” طبيعة الحياة الاجتماعية بمنظور الشباب وقد أثرت بهم الحرب وتبعاتها ، وطالت الهوية اليمنية بتاريخها العريق وحاله وهو يقف أمام هالة الحرب التي تسلبه من نفسه وتجعله حلما وظلالا بالكاد يدركه الإنسان اليمني دون أن ينسلخ عنه بحقيقة الضياع ” وتلك الفكرة بأبعادها تفوق فكرة الحلم المأخوذ بالرؤيا، بل بالحلم المأخوذ بالتمني الذي يراود الإنسان المتأمل لطبيعة التاريخ وقد تبدلت طبيعته بصورة مؤلمة على غير ما كانت عليه في ماضيها العتيد.